•°o.O منتديات ورقلـة المنـوعة ترحب بكم ،، O.o°•OUARGLA

منتدى عربي جزائري تعليمي ثقافي خدماتي منوع ،،
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

إستمع للقرآن الكريم
TvQuran
المواضيع الأخيرة
»  ***عودة بعد طول غياب***
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالجمعة سبتمبر 25, 2020 10:29 pm من طرف نورالوئام

» لأول مرة اعتماد اكاديمي بريطاني و توثيق حكومي لشهادة حضور مؤتمر تكنولوجيا الموارد البشرية
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالثلاثاء سبتمبر 18, 2018 4:04 pm من طرف ميرفت شاهين

»  منتدي الجامعات العربية البريطانية
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالثلاثاء أغسطس 07, 2018 6:06 pm من طرف ميرفت شاهين

» الشاعر المسعود نجوي بلدية العالية ولاية ورقلة.
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالسبت أبريل 07, 2018 10:42 pm من طرف تيجاني سليمان موهوبي

»  الجامعات الذكية بين الجودة والرقمنة مارس 2018
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالسبت فبراير 17, 2018 2:15 pm من طرف ميرفت شاهين

»  الجامعات الذكية بين الجودة والرقمنة مارس 2018
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالسبت فبراير 17, 2018 10:50 am من طرف ميرفت شاهين

»  الملتقى العربي الرابع تخطيط مالية الحكومات ...النظم المستجدة والمعاصرة - شرم الشيخ
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالخميس يناير 18, 2018 2:32 pm من طرف ميرفت شاهين

» شرم الشيخ تستضيف المؤتمر العربي السادس تكنولوجيا الاداء الاكاديمي مارس 2018
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالسبت يناير 13, 2018 4:29 pm من طرف ميرفت شاهين

» وحدة الشهادات المتخصصه: شهادة الإدارة التنفيذية (( الشارقة - القاهرة )) 4 الى 13 فبراير 2018م
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالخميس يناير 04, 2018 7:28 pm من طرف hamzan95

»  شهادة مدير تسويق معتمد Certified Marketing Manager باعتماد جامعة ميزوري الأمريكية
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالأحد نوفمبر 26, 2017 1:42 pm من طرف ميرفت شاهين

» المؤتمر العربي الثامن تكنولوجيا الموارد البشرية
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالخميس سبتمبر 28, 2017 2:56 pm من طرف ميرفت شاهين

» التفاصيل الكاملة لدرجة الماجستير الاكاديمي فى ادارة الاعمال MBA من جامعة نورثهامبتونUniversity of Northampton البريطانية والتي تاسست عام 1924
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالسبت يوليو 22, 2017 5:15 pm من طرف ميرفت شاهين

» نتائج شهادة التعليم المتوسط 2017
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالإثنين يونيو 26, 2017 10:56 pm من طرف يـاسيـن

» هاجر ، عزوز ، حمود ، بدر الدين ؟؟ ووووو
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالسبت يونيو 17, 2017 4:48 pm من طرف Belkhir cherak

» اربح أكثر من 200 دولار من خلال رفع الملفات
تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالسبت يونيو 17, 2017 12:36 am من طرف alfabeta1

جرائد وطنية
أهم الصحف الوطنية
 
 
 
اليوم والتاريخ
ترتيب المنتدى في أليكسا
فايسبوك
عداد الزوار
free counters
أدسنس
CPMFUN 1
xaddad
propeller

شاطر
 

 تاريــخ فلسطين ص2

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
mahmoudb69
عضو ماسي
عضو ماسي


عدد الرسائل : 2700
العمر : 54
الموقع : houda.houdi@gmail.com
المدينة التي تقطن بها : ورقلة
الوظيفة : telecom
السٌّمعَة : 16
تاريخ التسجيل : 25/02/2012

تاريــخ فلسطين ص2 Empty
مُساهمةموضوع: تاريــخ فلسطين ص2   تاريــخ فلسطين ص2 Icon_minitimeالخميس يونيو 07, 2012 9:29 pm



ودعا البابا الجموع المنصتة إليه، في لحظة تاريخية خطيرة وفاصلة، إلى غزو الأرض التي تفيض "لبنًا وعسلاً" حتى تقوى عزيمة الجميع في طلب الدنيا، إن لم تكن لديهم عزيمة لخدمة دينهم!
وقال بطرس الناسك: "إني نظرت قبر المسيح محتَقَرًا مُهانًا، وزوَّارُه مضطهدون"، فنادى الحاضرون بالحرب قائلين: "الله يريد ذلك"!
وراح أتباع البابا ينتشرون في الشارع الأوروبي، يدعون الناس في خطاب مثير إلى إنقاذ الأرض المقدسة، واسترجاعها من يد المسلمين الذين اغتصبوها، وأهانوا ما فيها من المقدسات ـ كما أشاعوا…
وسار هذا الخطاب الدعائي، الذي لم يهتم بالتزام الحقيقة، في أنحاء أوروبا، ووصلت مخاطبات البابا للملوك والأمراء في أوروبا تحرضهم على الخروج مع الجموع الذاهبة لتخليص "بلد المسيح" ! فقد كانت القدس ـ كما بدا ـ هي مقصدهم وهدفهم، لكن لعابهم سال للخيرات التي تمتلئ بها مدن الشام المحيطةُ ببيت المقدس، فاحتلوا العديد منها أيضًا، وبدا أن وراء الحرب أهدافا أخرى خفية.
دوافع الحروب الصليبية:
في دعوتها لشن الحروب الصليبية، نجحت البابوية في تصويرها على أنها حرب مقدسة، لتخليص بلد المسيح من يد "الهمج" المسلمين، وركَّز الخطاب البابوي على ذلك، مستغلاً العاطفة الدينية لدى نصارى الصقيع الأوروبي.
لقد بدا الدين دافعًا ظاهريًا لشن "حرب (أوروبية) مقدسة" ضد المسلمين، أخذت اسمها عند الأوروبيين أنفسهم من أحد الرموز الكبرى في العقيدة النصرانية في الشرق والغرب، وهو الصليب.
لكن كان هذا هو الدافع الظاهر فقط، وإن كان له تأثير ضخم في إشعال حماس العامة الذين دُعوا إلى الخروج للحرب في الشرق.
أما الدوافع الحقيقية والعميقة لشن الحروب الصليبية، فهي:
ـ توسيع سلطة البابا بالسيطرة على الأماكن المسيحية المقدسة في الشرق، وإلغاءِ السيطرة المسيحية الأرثوذكسية هناك، ونجدة البيزنطيين الذين تعرضوا لانكسارات وهزائم متعددة أمام السلاجقة، وهو أمر يتيح للبابا قيادة الكنيسة المسيحية في كل مكان، حتى في الدولة البيزنطية.
ـ شَغْلُ الأمراء والإقطاعيين الأوروبيين بالحرب في الشرق، بدلاً من التقاتل الداخلي فيما بينهم.
ـ الانتفاع بما في الشرق من ثراء لإنعاش الحياة الأوروبية، فالبلاد التي يتوجه إليها الغزاة الصليبيون تفيض "لبنًا وعسلاً"!
الحملة الصليبية الأولى:
ما لبثت الدعاية البابوية لشن حرب شرسة في الشرق، أن آتت أكلها، على مستوى الأمراء وعلى مستوى الجماهير، واتفقوا على الالتقاء والتجمع في نقطة من الشرق الأوروبي على شواطئ بحر مرمرة وهي القسطنطينية.
وخرجت الجموع عشرات الآلاف، من فرنسا وإيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا وبولنده، يقودهم الرهبان، وأمراء الإقطاعات والممالك الأوروبية، وتقدم الجميع وسبقهم في طريق البر الراهب بطرس الناسك، يلبس ثيابًا مهلهلة، ويسير حافي القدمين، ممسكًا بالإنجيل والصليب، وحوله حشود كبيرة من الناس، فيهم الرجال والنساء والأطفال ـ خرج بهم من ألمانيا في مايو عام ألف وستة وتسعين للميلاد (أربعمائة وتسعين للهجرة).
ولم يَبْدُ على بطرس ومن معه أنهم يصلحون لخوض حرب ضد المسلمين، فما هم إلا رعاع وغوغاء دفعتهم الحماسة الكاذبة إلى ما لا يطيقون، بل هم ـ على حد تعبير المؤرخين الغربيين: "جماعات من الأفاقين لا يَستحقون مشاهدةَ قبر المسيح"!
وعبروا المجر وبلاد البلقان صوب القسطنطينية، فنهبوا البلاد والقرى، ونال القسطنطينيةَ منهم شرٌّ كثير، "فأحرقوا القصور، ونهبوا الكنائس". فبعث الإمبراطور البيزنطي إلى البابا قائلاً: "إن كنتم تريدون حقًا الوصولَ إلى بيت المقدس، فابعثوا جيوشًا منظمة وفرسانًا مدربين".
ومن هنا بدأ الأمراء الأوروبيون يحشدون قواتهم وجيوشهم المنظمة للذهاب إلى الشرق، ودخول بيت المقدس. وتتابعت الحشود في هذه الحملة الصليبية الأولى، تسلك نحو بيت المقدس طريق البحر وطريق البر من وسط أوروبا وسهول إيطاليا الجنوبية، وأحلام النصر تداعب خيالات الجميع، والجنة التي حدثوهم عنها في بلد المسيح وما فيها من "العسل واللبن" تتراءى لخيالاتهم، وتختلف صورتها الخيالية من شخص إلى آخر!!
ومن أمراء أوروبا الذين شاركوا في هذه الحملة: الدوق جود فري دي بويُّون أمير اللورين السفلى، وأخوه اللورد بولدوين، واللورد بوهيمُوند أمير تورنتو في جنوب إيطاليا، وريموند أمير تولوز، وروبورت أمير نورماندي، وغيرهم.
وبدلاً من اللقاء في القسطنطينية، التقت الجيوش الصليبية عند نيقية، التي استولوا عليها في يونيه سنة ألف وسبع وتسعين للميلاد، بعد حصار دام شهرًا.
وتساقطت المدن في يد الحملة الصليبية الأولى الواحدة تلو الأخرى، حيث سيطروا على مدن كثيرة قبل احتلالهم القدس وبعده، وهي: الرها وأنطاكية (التي خرجت جماعات من مسلمي القدس ودمشق وحلب لإنقاذها) ومعرة النعمان وانطرطوس وطرابلس وبيروت وصيدا وعكا وحيفا وقيسارية والرملة. وفي السابع من يونيه سنة ألف وتسع وتسعين وصلوا إلى أسوار القدس، التي دخلوها بعد حوالي أربعين يومًا من الحصار.
سقوط القدس في يد الصليبيين:
"اللهُ يريد ذلك.. الله يريد ذلك"، هكذا انطلقت الصرخات من أفواه جموع كبيرة، شُقْرِ الشَّعْر زُرْقِ العيون، يضعون على الكتف الأيمن أو الكتفين صليبًا من قماش أحمر، وهم أهل الحملة الصليبية الأولى، ويقصدون بصُراخهم أن الله يريد حرب المسلمين!
وهاهم في شهر رجب الفرد من سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة، يقفون عند أسوار مدينة القدس المباركة في حر يونيو المرتفع، ولُعابهم الجاف يسيل لدخولها! وعلى المدينة أمير من قِبَلِ الفاطميين (افتخار الدولة) في مدينة حصينة، بصحبته أربعون ألف مقاتل، توافد أكثرهم على المدينة من خارجها.
بدأ "افتخار الدولة" أعماله الدفاعية مع اقتراب الزحف الصليبي، فردم العيون والآبار الواقعة خارج المدينة، ليمنع الصليبيين من التزود من مائها، وحشد الجنود في مداخل المدينة الخطرة، ووضع الحراسة على الحصون والأبراج، ليراقبوا أعمال الصليبيين لمواجهتها بسرعة، كما أعد الكمائن التي تتصيد المنفردين من الصليبيين عن جماعتهم بحثًا عن الماء، أو بحثًا عن فرصة لاقتحام الحصون المقدسية.
ودعم افتخار الدولة أبراج المدينة بأكياس من القطن والخرق البالية، لتمتص عن الحصون صدمة الأحجار التي تقذفها المجانيق الصليبية.
وحولَ الأسوار وزّع الصليبيون قواتهم في الجهات التي يمكن اقتحام المدينة منها، خاصة في الشمال والشمال الغربي، لكن حرارة الصيف في عام تسعة وتسعين وألف كانت سيدة الموقف، وصاحبة التأثير الكبير في سير المعركة، حيث عجز الصليبيُّ الأوروبيُّ عن الصبر على حرارة الشمس التي لم يكن له بها عهد، والعطش الشديد المصاحب لها. "ومما زاد في قلق الصليبيين أن المُؤَنَ بدأت تنفد في المعسكرات، دون أن تتمكن قيادتهم من تأمين ما يمكن أن يسد حاجتهم لأمد طويل".
لم يكن أمام الصليبين حل إزاء هذا الوضع سوى المبادرة بالهجوم، فاندفعوا في ضراوة هائلة لاقتحام أسوار القدس المباركة، وبدأ القتال عند فجر اليوم السادس للحصار، والمسلمون صابرون يدفعون عدوهم بكل ما يملكون من القوة، ومع أن الصليبيين لم يستطيعوا اقتحام المدينة إلا أنهم سيطروا على سورها الشمالي من الخارج، وافتقروا إلى أدوات تسلق الأسوار فرجعوا إلى مواقعهم ليستعدوا لهجوم جديد.
قضى الصليبيون قرابة شهر في الاستعداد للهجوم الحاسم، ومقاومة الانخفاض في معنويات جنودهم، الذين أرهقهم القتال والحر الشديد، وقرروا الهجوم من نقطة صعبة من المدينة، إلا أنها أقل تحصينًا، وهو الجانب الشمالي الشرقي من سور القدس، من باب دمشق غرباً، حتى باب الساهرة، فباب يهوشافاط شرقًا.
وركّز المهاجمون القتال على محورَيْنِ: أحدهما من باب الساهرة باتجاه الحرم القدسي الشريف، والآخر من جبل صهيون باتجاه حصن داود. واستطاع المقاتلون على المحور الأول بقيادة جودفري دي بويون اقتحام سور القدس عن طريق برج متحرك، قربوه من السور، ثم قفزوا متتابعين من فوقه إلى داخل المدينة، وهناك ارتكبوا مذبحة رهيبة في المسجد الأقصى، ثم فتحوا باب العمود أمام بقية قواتهم، وواصلوا أعمالهم البشعة في المدينة.
وأما المحور الثاني، فقد لقي الصليبيون فيه مقاومة أشد بقيادة حاكم المدينة "افتخار الدولة"، لكن نجاح أعمال المحور الأول حطم هذه المقاومة، فسقطت المدينة المقدسة كلها في يد الصليبيين في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، الخامس عشر من يوليو سنة تسع وتسعين وألف. وعملوا منذ اللحظة الأولى للاحتلال على صبغ المدينة بصبغتهم.
وكان سقوط القدس صدمة كبيرة في العالم الإسلامي، ووقفت وراء الهزيمة أسباب عديدة.
تحصينات القدس قبل السقوط:
كانت القدس "من أضخم المعاقل والحصون في عالم العصور الوسطى"، وقد اهتم كل من ملكها منذ القدم بتحصينها وتقوية أسوارها، لحمايتها، ودفع طمع الطامعين عنها، وقد كان هذا سلاحًا مهمًا في يد المسلمين عند الزحف الصليبي على المدينة المقدسة.
ظهر أنه ليس في استطاعة الصليبيين حصار المدينة أو دخولها، إلا من جهتها الشمالية أو زاويتها الشمالية الغربية، وأما باقي الجهات فبها مجموعة من الأودية الصعبة التي تستعصي على العبور، إذ يلف القدس من الشرق والجنوب الشرقي وادي قدرون أو وادي جهنم، ومن الجنوب وادي الربابة، ومن الغرب يلفها وادي تيروبيون.
وإضافة إلى هذه التحصينات الطبيعية، فقد قام في منتصف السور الغربي من المدينة ـ الذي يسيطر على جزء كبير من محيط المدينة ـ حصنُ داود المنيع. وكذلك الخنادق المحفورة خارج سور المدينة في الشمال والشمالين الشرقي والغربي.
وأما ماء المدينة، فقد كان من المطر، لذا كثرت في القدس الصهاريج التي يُجمَع فيها هذا الماء، وخُزِّن الكثير منه عندما علم المسلمون بقدوم الصليبيين، استعدادًا لمقاومة حصار صليبي يُتوقع أن يطول.
التواجد البشري في القدس قبل سقوطها:
هبط الصليبيون على أسوار القدس، والمسلمون فيها ستون ألفًا، أبوا أن يتركوا المدينة فريسة بين يدي الصليبيين بالرغم مما بلغهم عن الفظائع التي ارتكبوها في زحفهم على الشرق الإسلامي.
بلغ تعداد سكان المدينة قبيل الاحتلال عشرين ألفًا، معهم حامية من الجنود تقدر بألف مقاتل، ويقودها الأمير الفاطمي "افتخار الدولة"، فلما أخذ الخطر يقترب من بيت المقدس، استيقظ الكثير من المسلمين في المدن والحصون القريبة منها، فتوافدوا نحو المدينة لحمايتها في أعداد كبيرة، حتى بلغوا أربعين ألفًا.
وقد كانت الروح المعنوية للمسلمين في المدينة يشوبها شيء من التوتر، خاصة مع الانتصارات والمذابح الصليبية المتكررة في مدن مجاورة. غير أن الجموع المسلمة في المدينة فضلت الصمود على النجاة الذليلة بالأرواح، بل وفد الكثير من المجاهدين إلى القدس ليقدموا بين يدي الله أعذارهم!
وأما المسيحيون من أهل القدس، فلم يفرض "افتخار الدولة" عليهم قتال أهل ملتهم، فخرجوا من المدينة، وجنوا هم أيضا من ثمار الاحتلال الصليبي المرة!
الاقتحام الوحشي للقدس:
"كان من المستحيل أن يطالع المرء كثرة القتلى دون أن يستولي عليه الفزع، فقد كانت الأشلاء البشرية في كل ناحية، وغطت الأرض دماء المذبوحين، ولم تكن مطالعة الجثث ـ وقد فارقتها رءوسها ـ ورؤية الأعضاء المبتورة المبعثرة في جميع الأرجاء هي وحدها التي أثارت الرعب في نفوس جميع من شاهدوها، بل كان هناك ما هو أبعث على الفزع، ألا وهو منظر المنتصرين أنفسهم وقد تخضبوا بالدماء فغطتهم من رؤوسهم إلى أخْمَصِ أقدامهم، فكان منظرًا مروِّعًا بث الرعب في قلوب كل من قابلوهم، ويقال إنه قتل في داخل ساحة المسجد وحدها عشرة آلاف من المارقين (يقصد المسلمين!)، بالإضافة إلى أن القتلى الذين تناثرت جثثهم في كل شوارع المدينة وميادينها لم يكونوا أقل عددًا ممن ذكرناهم".
"انطلق بقية العسكر يَجُوسُونَ خلالَ الديار بحثا عمن لازال حيًّا من التعساء الذين قد يكونون مختَفِينَ في الأزقّة والدروب الجانبية فرارًا من الموت، فكانوا إذا عثروا عليهم سحبوهم على مشهد من الناس، وذبحوهم ذبح الشياه. وجعل بعض العسكر من أنفسهم عصابات انطلقت تسطو على البيوت ممسكين بأصحابها ونسائهم وأطفالهم، وأخذوا كل ما عندهم ثم راحوا يقتلون البعض بالسيف، ويقذفون بالبعض الآخر من الأمكنة العالية إلى الأرض فتتهشم أعضاؤهم، ويهلكون هلاكًا مروعًا"!
هكذا وصف وليم الصوري ـ الأسقف والمؤرخ الصليبي ـ بعض آثار قومه في القدس أثناء اقتحامهم لها. . لم يكن هنالك فرق كبير بين اقتحام البابليين والرومان الوثنيين للقدس وبين اقتحام الصليبيين لها، سوى أن الأخيرين ينسبون أنفسهم إلى ديانة سماوية، وإلى رسول كريم عاش حياته رفيقًا رقيقًا زاهدًا، وهو عيسى ـ عليه السلام.
فبينما كان الصليب هو الرمز والخلفية التي تدير الحدث، كانت أرض القدس ملونة بحمرة الدم القانية، وأشلاءُ المسلمين وأعضاؤهم المقطعة في كل مكان تشبه لوحة سريالية رسمتها وحوش البرّية!
نجح الصليبيون في اقتحام أسوار المدينة قبل شهر رمضان من سنة اثنين وتسعين وأربعمائة بأسبوع واحد، وسقطت المقاومة الإسلامية أمامهم، وانتهى المسلمون عن القتال، بل فروا من أمام عدوهم فرارًا تعيسًا. ولم يكن نبل الخلق هو الذي يحرك المنتصر الجديد، ففعلوا في المدينة الأفاعيل، حتى قتلوا المسلمين في المسجد الأقصى، وأحْرَقُوا اليهود في داخل معبدهم.
ويكفي أن المدينة خلت تمامًا من المسلمين واليهود عقب دخول الصليبيين لها، ولم ينج من المسلمين سوى أمير القدس الفاطمي "افتخارالدولة" في بعض جنوده، حيث انضم بهم إلى جموع المسلمين المقاتلين في عسقلان.
وبكت المدينة المباركة دما لقسوة الغزاة، وشوقا إلى أيام عمر بن الخطاب فيها وفتح عمر لها!!
القوات الصليبية المهاجمة للقدس:
قبل حلول فصل الصيف من سنة ألف وتسع وتسعين كانت الحملة الصليبية الأولى قد حققت كثيرًا من أحلامها باستيلائها على نيقية وأنطاكية والرها وغيرها، إلا أنها لم تكن قد وصلت إلى هدفها الأول، وهو بيت المقدس، بالرغم من مرور أكثر من سنتين على بداية الحملة.
وقد شكل الصليبيون جيشًا قويًّا منهم، يتولى مهمة الاستيلاء على القدس، تعداده أربعون ألف مقاتل، من أعمار مختلفة ذكورًا وإناثًا، يقود جزءًا منه أمير النورماندي، ويقود الجزء الآخر أمير الفلاندر، ثم جودفري دي بويون أمير اللورين، ثم قوات تانكرد ابن أخت بوهيموند أمير تورنتو، وأخيرًا ريموند دي سان جيل أمير تولوز.
وكان هؤلاء القادة بقواتهم هم الذين نالوا شرف ذبح المدينة المباركة وأهلها!! فتوزعت القوات لتخنق المدينة من الجوانب الممكنة منها، وضربوا الحصار حولها، فتمركزت قوة في الجهة الشمالية ناحية باب الساهرة، وقوة في الشمال الغربي جهة باب العمود أو باب دمشق، وأخرى في الشمال الغربي أيضا عند زاوية المدينة الشمالية الغربية، وقوة رابعة في الغرب عند باب يافا أو باب الخليل، وفي الجنوب تمركزت قوة أخرى على جبل صهيون وتجاه باب النبي داود.
وقد كانت الروح المعنوية للقوات الصليبية عالية، فقد حققوا انتصارات متتالية، انتزعوا فيها من المسلمين مجموعة من المدن المهمة، كما قوَّى الروح المعنوية للحملة الصليبية أنهم على مقربة من بيت المقدس، المدينة التي أحبوها لدرجة الهوس.
أسباب هزيمة المسلمين أمام الصليبيين:
كان سقوط معرة النعمان وطرابلس وأنطاكية وغيرها في يد الصليبيين نذيرًا كافيًا للمسلمين ليقوموا من رقدتهم، ويَحْمُوا القدس بل يحموا ذاتهم من المَحْوِ والسقوط تحت أقدام الغزاة القادمين من الغرب، لكن يبدو أن النوم كان أثقل من ذلك!!
وسقطت القدس بعد أخواتها مباشرة، في شعبان من سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، لتكشف عن الأدواء القاتلة التي أصابت الجسد المسلم، وأدت إلى الهزيمة المريرة!
لقد حكمت المطامع الشخصية كثيرًا من تصرفات المسلمين حينئذ، وبدا رباط العقيدة واهيًا ضعيفًا، ووهنت صلة الناس بربهم، فصارت الدنيا عندهم ـ إلا من رحم الله ـ هدفًا وغاية، يسعون للوصول إليه ولو ولغوا في دماء إخوانهم!
وبدت الفرقة والتنازع لونًا لأغلب جوانب حياة المسلمين في الجيل الذي تلقى الصدمة الصليبية الأولى، ليس على مستوى الحكام وحدهم، ولكن على مستوى الأمة أيضًا، فما أكثر ما قال المؤرخون عن سنوات هذه الفترة: "فيها وقعت فتنة بين السُّنَّة والروافض (الشيعة)، فأحرقت محالُّ كثيرة، وقتل ناس كثير، وإنا لله وإنا إليه راجعون"!!
وفي القدس نفسها ـ كما يقول ابن المدينة الرحالةُ المقدسيّ ـ لم يكن "للمظلوم أنصار، والمستورُ مهموم، والغني محسود، والفقيه مهجور، والأديب غير مشهود، لا مجلس نظر ولا تدريس، وقد غلب عليها النصارى واليهود، وخلا المسجد من الجماعات والمجالس".
هكذا بدت البنية العميقة للمجتمع المسلم قابلةً للهزيمة بسهولة، وساعدها على ذلك مناخ الفرقة والتنازع العام، فالخلافة العباسية عاجزة عن تجميع المسلمين تحت لوائها، والسلاجقة الذين حاولوا القيام بهذه المهمة انشغلوا بالصراع مع الفاطميين في الشام وحول القدس نفسها، دون أن يتمكن أي من الفريقين من تحقيق نصر حاسم. والخلافة الفاطمية كانت في مرحلة الاحتضار، خاصة بعد سلسلة المجاعات والكوارث التي حلت بمصر في عهد المستنصر بالله الفاطمي.
وحل بالمسلمين ارتباك وفقدان للأمن في أنحاء دولتهم الكبيرة بسبب النزاع المستشري بين ملوكهم، ووصل أثر ذلك إلى أقدس رحلة للمسلمين، وهي رحلة الحج، فقبل سقوط القدس في يد الصليبيين بخمس سنوات فقط "لم يحج أحد لاختلاف السلاطين"، وفي العام التالي "لم يحج أحد من أهل العراق"!!
القدس مدينة صليبية:
في نشوة الانتصار واحتلال القدس، شرب الصليبيون خمور النصر، وسط أشلاء القتلى المسلمين وفي برك الدماء القانية، وقد بدت هيئات الصليبيين مرعبة من دم الضحايا الذي أصاب ملابسهم وأسلحتهم. وكان ذلك ردا عجيبا على سماحة الفتح الإسلامي وإنسانية الفاتحين المسلمين!!
وبعد شيء من الاستراحة، بَدَا للصليبيين أنهم حققوا هدفَهم الأكبر بالاستيلاء على القدس، فأخذوا في التقسيم الإداري للأرض الإسلامية التي سيطروا عليها، وأنشأوا إمارة صليبية في الرُّها، وأخرى في أنطاكية، وثالثة في طرابلس. أما القدس فقد أقاموا فيها مملكة لاتينية تُحاكي الممالك القائمة على البر الأوروبي، امتدت من لبنان حتى صحراء النقب والبحر الأحمر، وأميرها هو جودفري دي بويون، الذي تَوَّجُوهُ في كنيسة القيامة، ولما توفي فيما بعد دفنوه فيها.
لقد مكث الصليبيون في بيت المقدس حوالي تسعين عامًا قبل تحرير صلاح الدين لها، فعملوا طوال هذه الفترة على صبغ المدينة بصبغتهم النصرانية اللاتينية، فقام النظام الإداري على الإقطاع الغربي، مختلطًا بمزيج من العسكرية والكنائسية، واتسع سلطان الإقطاعيين، حتى تجاوزت سلطاتهم واستقلاليتهم المَلِكَ المتوج منهم، ودخل بعض هؤلاء في حروب ضد بعضهم الآخر.
وكانت القوات الصليبية في القدس أثناء الاحتلال موزعة إلى فرقتين: إحداهما سماها المسلمون "بالداوية" ومهمتها قتال المسلمين، وأما الفرقة الأخرى فهي "الاسبتارية"، وكانت مهمتها في البدء هي العناية بالحجاج والمرضى المسيحيين، ثم تحولوا إلى القتال بجانب "الداوية" واتخذت الفرقتان من المسجد الأقصى مقرًا لأعمالهما ومستودعًا لأسلحتهما، وفقد صفته كمسجد.
وعمل الصليبيون طَوَال تواجدِهم في القدس على تنصيرها، فعمدوا إلى المسجد الأقصى وحولوا قبة الصخرة إلى كنيسة، ووضعوا الصليب فوقها، كما أنشأوا كنيسة القديسة حنة بين باب الأسباط وباب حطة، وكنيسة القديسة مريم الكبرى، وكنيسة القديسة مريم اللاتينية عند مدخل سوق الدباغة، وكنيسة الداوية جنوب كنيسة القيامة، وجمعوا أجزاء كنيسة القيامة تحت سقف واحد، وبنوا الكنيسة المعروفة الآن بنصف الدنيا. ولا يزال أكثر هذه الكنائس قائمًا إلى الآن، شاهدًا على التسامح الإسلامي العظيم، ذلكم النهج الذي لا علاقة له بالهمجية، ولا صلة له بالسلب والنهب ولا التدمير والهدم!
وإمعانًا في تنصير الصليبيين للقدس، فإن البقية الباقية من المساجد التي لم تُحوَّل كنائس "هُدِّمت لتفسح مكانًا لأبنية مستحدثة حلت محلها" ـ كما يقول أحد الأساقفة.
كما وسع الصليبيون من المستشفى الذي شيده الفاطميون من قبل، وشيدوا نُزُلاً بجوار هذا المستشفى.
ردود الفعل الإسلامية على سقوط القدس في يد الصليبيين:
كأنهم كانوا في حلم، فإذا بهم في يقظة تامة، وأمام واقع مر تمامًا !! لقد سقطت القدس في يد الصليبيين، وأضحى المسلمون في دهشة عارمة، وحزن غامر، ماذا يصنعون، وقد تلطخت صفحتهم بعار تضييع القدس التي تسلمها عمر بن الخطاب من يد أهلها قبل ذلك بأكثر من ثلاثمائة وست وسبعين سنة؟!
أما الخليفة العباسي المستظهر بالله ـ ابن الحادية والعشرين ـ فرأى الناس يفرون مذعورين من الشام أمام الأعمال الوحشية للصليبيين، طالبين الغوث من الخليفة ومن الملك السلجوقي، فحاول المستظهر أن يفعل شيئًا، وشجع الفقهاء ليخرجوا محرِّضين لملوك المسلمين على الجهاد، فخرج أعيان الفقهاء في الناس، فلم يفد ذلك شيئًا"!
إلا أن أجواء الفشل في العالم الإسلامي لم تطل، إذ خرج الأمل من رحم الظلام الحالك، فجاءت جهود الزنكيين كالإعصار الذي لم يدع للصليبيين فرصة يهنأون فيها بانتصاراتهم.
جهود الأسرة الزنكية في مقاومة الصليبيين:
منذ وطئت أقدام الصليبيين أرض المسلمين والمقاومة لم تنقطع، حتى رحلوا عن بلاد الإسلام نهائيًا في عهد سلاطين المماليك، وقد اشتدت المقاومة خاصة عقب السيطرة الصليبية على القدس، حتى من جانب الفاطميين، الذين حشدوا جيوشهم عدة مرات، وهاجموا الصليبيين، إلا أن الجهود الفاطمية فشلت دائمًا.
أما السلاجقة فقد كان من نصيب بعض الأمراء الأتابكة التابعين لهم أن نظموا لأول مرة المواجهات الحربية مع الصليبيين، حتى كان ذلك انطلاقة حقيقية نحوالتحرير الإسلامي الذي لا يقف عند بيت المقدس، ولكن يشمل كل شبر محتل من الأرض الإسلامية.
بدأ الأتابك آق سنقر البرسقيُّ أمير الموصل العمل المنظم المثمر في مواجهة الصليبية في بلاد الإسلام، فاعتنى بتجميع القوى الإسلامية عند مواجهة العدو الشرس، واستطاع أن يوحد الموصل وحلب، وضمن ولاء أمير دمشق له، وقد كانت حلب محصورة قبل ذلك من الصليبيين ومهددة بالاجتياح، فخلصها الأمير المجاهد سنة تسع عشرة وخمسمائة، وعزز قوة المسلمين فيها.
كانت هذه خطوة مهمة مهَّدت الطريق أمام عماد الدين زنكي بن آقسنقر الحاجب، ليواصل طريق المواجهة على أساس واضح، وهو توحيد القوى الإسلامية، ومحاربة الشتات الداخلي قبل البروز للعدو، واستطاع بذلك أن يقطع شوطًا طويلاً في الطريق نحو بيت المقدس، حين أسقط الإمارة الصليبية العنيدة "الرها" سنة خمسمائة وتسع وثلاثين للهجرة، وأضعف كثيرًا من قوة الصليبيين التي كانت تزداد تضخمًا مع الزمن، كما قطع خطر هذه الإمارة القريبة من دار الخلافة بغداد، ومن أملاك عماد الدين في شمال الجزيرة وحلب.
وجاء نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي مواصلاً طريق والده الشهيد، وكان الهدف البعيد الذي يخطط للوصول إليه هو بيت المقدس، التي صمم لها منبرًا نادرًا من خشب الأبنوس، ليوضع في مسجدها عند التحرير. وكان "يرسل الفدائيين إلى بيت المقدس، ليجوسوا خلال الديار، ويأتوه بالأخبار".
وإذا كان أمل نور الدين في الوصول إلى القدس لم يتحقق، فإنه قطع شوطًا أطول من أبيه عماد الدين، في الطريق إلى بيت المقدس، وذلك أنه قوَّى الجبهة الإسلامية بضم دمشق إليه سنة خمسمائة وتسع وأربعين، ومصر سنة خمسمائة وأربع وستين، كما قضى على جزء كبير من الحملة الصليبية الثانية، واسترد الرها بعد أن استولى عليها الصليبيون عند وفاة أبيه، وكسر أمراؤه الصليبيين الفرنج في مصر، حتى يئسوا من الاستيلاء عليها، واستعاد من الفرنج أكثر من خمسين مدينة.
وظل نور الدين يجاهد العدو، ويقوي جبهة المسلمين، ويعالج الأدواء الداخلية، حتى توفي سنة تسع وستين وخمسمائة، وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
وكان صلاح الدين واحدًا من أمراء الدولة الزنكية قصيرة العمر، واصل الجهاد بعد نور الدين محمود، حتى التقط الدرة المقدسة، وحرر مدينة بيت المقدس من أنياب الصليبية.
صلاح الدين الأيوبي والقدس:
لم يكن صلاح الدين يوسف بن أيوب قد ولد حين وقعت المأساة، واحتل الصليبيون القدس، غير أنه فتح عينيه على الحياة سنة خمسمائة واثنتين وثلاثين، وهناك صراعٌ مريرٌ يدور بين المسلمين والصليبيين، وحين بلغ السابعة كان عماد الدين زنكي يدمر مملكة الرها، ويخرج الصليبيين منها، وحين بلغ السابعة عشرة، كان نور الدين محمود يسعى حثيثًا إلى تحقيق الوحدة الإسلامية، ويضم إليه دمشق، بعد أن خيب أمل الصليبيين في الاستيلاء عليها.
بدأ صلاح الدين يظهر على ساحة الحياة الإسلامية شيئا فشيئا، في جو من التواجد الكثيف لأبيه أيوب وعمه أسد الدين شيركوه بالقرب من عماد الدين زنكي وابنه نور الدين محمود المجاهدَيْن الكبيرين.
وفي حياة نور الدين وحكمه بدأ دور صلاح الدين، حيث صحب جيش عمه أسد الدين شيركوه لضم مصر إلى دولة نور الدين، وهي المهمة التي نجحت سنة خمسمائة وأربع وستين للهجرة، فأصبح للدولة الفتية جناحان من القوة: مصر والشام، استطاعت فيما بعد أن تطوق بهما الوجود الصليبي في الشام، حتى تلاشى تمامًا أيام المماليك.
وبوفاة نور الدين محمود سنة خمسمائة وتسع وستين للهجرة، أصبح صلاح الدين الأيوبي الأمير الأقوى في الدولة، فأخذ يطبق استراتيجيته لمواجهة الصليبيين، وعينُه على بيت المقدس، واصطدم بالصليبيين في معركة كبرى في حطين سنة خمسمائة وثلاث وثمانين، فسهَّلت له بانتصارها الكبير الطريق إلى بيت المقدس، وسار صلاح الدين بقواته إلى المدينة المباركة، وافتتحها في السابع والعشرين من شهر رجب من نفس العام، بعد غربة دامت حوالي تسعين عامًا.
إعداد صلاح الدين للمواجهة مع الصليبيين:
كانت القدس عند صلاح الدين يوسف بن أيوب هي قلب المعركة في الصراع مع الصليبيين، وكان لابد من الإعداد والاستعداد الطويل لها، فالطريق إلى تحرير القدس ـ كما رآها ـ مملوءة بالصعوبات...
وإذا كان فتح القدس قد استغرق بضعة عشر يومًا، فإن الإعداد له استغرق حياة جيلين، منذ قام عماد الدين زنكي يقاتل الصليبيين وعينه على المدينة المقدسة.
وقد كان لازمًا لصلاح الدين، وهو يُعِدُّ أمته للمواجهة الشرسة مع الصليبية، أن يهتم بإصلاح جبهته الداخلية، لأن العدو إذا خرج من الداخل كان أشد خطورة، كما أن الجبهة المهلهلة المتفرقة لا تصبر في وجه عدو، فاتخذ ثلاثة إجراءات كبيرة هي:
ـ الإصلاح العقائدي بإلغاء الدولة الفاطمية ودعوتها.
ـ ثم مقاومة الفتن الداخلية.
ـ ثم توحيد ما استطاع توحيده من البلاد الإسلامية.
كما اتبع صلاح الدين سياسة عمرانية واقتصادية واجتماعية تهدف إلى خدمة سعيه نحو تحرير العالم الإسلامي، وإخراجه من ورطته الحضارية، التي كانت الهزيمة والتراجع أمام الصليبيين نتيجة من نتائجها.
واحتاج تنفيذ هذا كله من صلاح الدين أن يخوض معارك شديدة الخطورة، فلقي مقاومات عنيفة، لكنها فشلت في أن تحول دون التغييرات التي سعى إليها.
الإصلاح العقائدي:
لكي يؤتي الإصلاح نتيجته المنتظرة منه، كان لابد أن يمس النفس من الداخل، وأن يُصْلِح العِوَج الذي أصابها، فالدولة الفاطمية الإسماعيلية التي مكثت تحكم من القاهرة جزءًا كبيرًا من العالم الإسلامي لأكثر من قرنين، رسَّخت بعض المبادئ التي لا تتفق ونقاءَ العقيدة الإسلامية، كالعصمة الممنوحة للخليفة ـ والتي تجعل قراراته بعيدة عن المناقشة أو المخالفة، مهما بدت منافيةً لنصوص الدين وروحه ـ والتأويلِ الباطني للقرآن.
وقد اهتم الفاطميون اهتمامًا بالغًا بتوصيل مبادئهم وأفكارهم وترسيخها في البيئة الإسلامية، فبثوا الدعاة، وبنوا المساجد، وأقاموا دور العلم ـ مثل دار الحكمة ـ من أجل تحقيق هذا الهدف.
وقد كان ترسيخ أفكارهم ونشرها في العالم الإسلامي يضمن لدولتهم البقاء الأطول، لذلك أشرف عليها الخليفة مباشرة. وبالرغم من ذلك لاقوا مقاومة كبيرة، ولم يجدوا عند الناس القبول التام لأفكارهم، وإن كان الأثر الشعبي للفاطميين ما زال موجودًا إلى الآن في العديد من البيئات الإسلامية، على هيئة احتفالات بالموالد وما شابهها.
كانت هناك خطوة مهمة أمام صلاح الدين وهو في القاهرة لابد أن يتخذها في سبيل الإصلاح العقائدي، وهو إلغاء الخلافة الفاطمية وجميع تقاليدها وأعمال دعاتها، وكانت مهمةً صعبة تحتاج إلى تمهل لامتصاص رد الفعل إذا كان أكثر غضبًا، فهناك مجموعة كبيرة من الأعيان يَهُمُّها أن يستمر المذهب الفاطمي والدولة الفاطمية، وكان الخليفة العباسي المستنجد بالله والأمير نور الدين محمود يحثّان صلاح الدين على إلغاء الفاطمية وإبطال الخطبة لها.
واستجمع صلاح الدين همته، وعزم على الأمر، فعزل "قضاة مصر الشيعة، وقطع أرزاقهم، وشرد الدعاة (الإسماعيلية)، وألغي مجالس دعوتهم، وأزال أصول المذهب الشيعي، مثل الأذان بحي على خير العمل بدلا من الأذان بحي على الفلاح.. بل حذف من النقش الديني على العملة المتداولة بين الناس صفة العقيدة الشيعية: عليٌّ ولي الله"، وأسقط الدعوة للخليفة الفاطمي العاضد، وجعل مكانها الدعوة للخليفة العباسي المستضيء بأمر الله بن المستنجد، ولنور الدين بعده، وأزال اسم العاضد من العملة، ووضع اسم المستضيء ونور الدين أيضا، ومنع صلاة الجمعة في الجوامع الكبيرة التي كانت تبثّ الدعوة الفاطمية فى نشاط منذ زمن، كالجامع الأزهر وجامع الحاكم. وبذلك أصبحت الدولة الفاطمية في أول جمعة من سنة خمسمائة وسبع وستين تاريخًا مضى.
ولم يكن كل هذا كافيًا في الإصلاح العقائدي الذي سعى إليه صلاح الدين، إذ لابد من إعادة تسكين العقيدة الإسلامية الصحيحة في نفوس الأمة التي تُعَدُّ للجهاد في سبيل الله، فأقام صلاح الدين مجموعة من المدارس التي تعتني بنشر المذهب السني، كالمدرسة المنشأة بالقرب من قبر الإمام الشافعي بالقاهرة.
القضاء على الفتن الداخلية:
حين تقلد صلاح الدين منصب الوزارة في مصر كان في ريعان الشباب، لذا كان موضع حسد كثير من رجال الدولة الذين عملوا في ظل الفاطميين، فاعتبروه دخيلا عليهم، ومغتصبا لحقوقهم، فضلا عن ذلك كانوا يعملون على تثبيت حكم الفاطميين في مصر مهما كلفهم ذلك من ثمن... فلم يدَّخروا جهدا في تدبير المؤامرات، وبث الدسائس عسى أن يتخلصوا من الوزير الشاب الطموح صلاح الدين، ومن أبرز هذه المؤامرات: مؤامرة مؤتمن الخلافة، ومؤامرة عُمارة اليمني، ومؤامرة كنز الدولة.
أما مؤتمن الخلافة جوهر فقد كان له الحل والعقد في قصر "العاضد" آخر الخلفاء الفاطميين في مصر، فاتفق هو وجماعة من المصريين على مكاتبة الفِرِنْج، واستدعائهم إلى البلاد، ليَقْوَوا بهم على صلاح الدين ومن معه، فكتب إلى الإفرنج كتابا يحضهم فيه على الزحف على مصر، حتى إذا وصلوا وخرج إليهم صلاح الدين، وزحف مؤتمن الخلافة بجموع، واقتفى أثره ـ وَقَعَ صلاح الدين بين نارين، فلا يَبقى له ولا لمن معه باقيةٌ.
علم صلاح الدين بالحقيقة، لكنه لم يظهر ذلك، ولم يعاقب مؤتمن الخلافة فورًا حتى لا تثور ثائرة أتباعه ومؤيديه، فما زال صلاح الدين يمهله ويطاوله حتى أتيحت له الفرصة فتمكن منه ومن أتباعه فقضى عليهم.
وأما عمارة اليمني فقد اعتبر الأيوبيين مغتصبين للعرش الفاطمي، وطالما مدح الفاطميين وأيامَهم في شعره، وعمل على إعادة الحكم الفاطمي، ودعا عددا كبيرًا من الجند، وانضم إليه المناصرون، وبقايا الفاطميين وأصبحت حركته خطرا يهدد دولة الأيوبيين الوليدة، ليس هذا فحسب بل كاتب الإفرنج في ذلك ليستعين بهم على تقويض حكم صلاح الدين، والقضاء عليه نهائيا.
لكن أحد مؤيديه، وهو زين الدين بن نجا، وَشَى بخبرهم إلى صلاح الدين ابتغاء المكافأة، فقبض صلاح الدين عليهم وقتلهم سنة خمسمائة وتسع وستين.
وأما كنز الدولة والي أسوان وقوص فقد سعى سنة خمسمائة وسبعين إلى إعادة البيت الفاطمي إلى السلطة، وأنفق في أتباعه أموالاً جزيلة، وانضم إليه جماعة ممن يميلون إلى الفاطمية، فقتل عشرة من أمراء صلاح الدين، فجهز صلاح الدين أخاه "العادل" في جيش كثيف، ثم سار "العادل"، فلقي " كنز الدولة"، وكانت بينهما حروب فرّ فيها كنز الدولة، بعدما قتل أكثر عسكره، ثم قتل كنز الدولة في سابع صفر، وقدم الملك العادل منتصرًا إلى القاهرة في الثامن عشر من صفر.
وهكذا استطاع صلاح الدين أن يقطع دابر الفتن، وأن يقضي على القلاقل والمؤامرات، لينطلق بعد ذلك نحو أفق أوسع في مواجهة الصليبيين.
جهود صلاح الدين العمرانية:
يمثل العمران الداخلي للوطن الوجهَ المكمِّل للعمران الداخلي للإنسان، وإذا كان صلاح الدين قد سعى نحو إرجاع العافية إلى الجسد الإسلامي بإصلاح العقيدة لدى المسلمين، فقد حرص بالمثل على إعمار الأرض بالبنايات المدنية التي تيسّر للخلق أمر معايشهم، والمنشآتِ العسكرية التي تدفع عن الوطن جيوش الأعداء.
ومن هذه البنايات المهمة: سور القاهرة وقلعتها العتيقة (قلعة الجبل)، وقلعة سيناء، وعمَر جزيرة الروضة في النيل، وقوّى أسطول مصر، وجعل له ديوانا مخصوصا أشرف عليه أخوه العادل ، ليكون الأسطول ـ مع جيشه البري ـ ذراعا قوية للمسلمين في وجه الصليبية وحملاتها الشرسة وقواعدها الحصينة.
وعمر السلطان أسوار الإسكندرية وأبراجها، وشيد دورا لعلاج المرضي في عدة مواضع من مملكته، وأقام جنوب قلعة سيناء مسجدين متجاورين، وصهريجا لسقاية الناس.
وامتدت أعمال الإعمار بصلاح الدين بعد تحرير بيت المقدس، فحرص على تحصينها، وبنى بها عدة مدارس، أهمها المدرسة الصلاحية بالقدس.
جهود صلاح الدين الاقتصادية:
تحتاج الحرب إلى استقرار اقتصادي تستطيع الأمة معه أن تمول جهودها القتالية، وتأمن معها من الهِزات والأزمات الداخلية في مثل هذه الأوقات الحرجة.. وقد حرص صلاح الدين على دعم الحركة الاقتصادية في الأجزاء التي سيطر عليها من العالم الإسلامي، فاهتم بالتبادل التجاري الداخلي والخارجي، حتى نشطت التجارة مع بعض المواني الأوروبية، مثل مدن إيطاليا الجنوبية، وأسس تجار البندقية الإيطاليون سوقا لهم في الإسكندرية، واعتنى السلطان بأسواق دولته، وتجلى ذلك في عيون الرحالة في حلب وطرابلس وغيرهما.
واعتنى السلطان الكبير بالري والزراعة، وآخى بين الإقليمين الخصيبين مصر والشام؛ لتأمين حاجة الجيش والأمة من الغذاء.
كما رعى السلطان صلاح الدين الصناعات المهمة في عصره، كالسلاح والسفن والمنسوجات والأقمشة والخزف..
وأكثر من ذلك كانت الحرب نفسها توفر للدولة دخلا كبيرا عقب اللطمات التي يعطيها المسلمون للجيوش الصليبية، فهناك: غنائم الحرب، وفدية الأسرى، وخراج الأرض التي تُفتَح صلحا. كما ضم صلاح الدين كنوز الفاطميين الضخمة إلى أموال الدولة عقب إلغاء خلافتهم.
جهود صلاح الدين الاجتماعية:
تميزت شخصية صلاح الدين بالجد، إدراكًا منه لحساسية المرحلة التي يحياها، وأن الهزل ليس من طبيعة الأمة المجاهدة.
وكان المسلمون في حاجة إلى مثل هذه الروح؛ لحماية هويتهم وذواتهم من المحو والمحق، ووجدوا قدوتهم في قائدهم الذي يشاركهم الحرب والقتال بنفسه، ويسبقُ الناسَ إليها وفيهم أبناؤه وإخوته، ويتعرض لما يتعرض له المسلمون من الأخطار والأهوال ـ والقدوة هي الركن الركين في الإصلاح الاجتماعي.
وألغى السلطان التجمعات والأعياد التي يُزاول فيها الفسق والفجور، مثل عيد النيروز، والمبتدعات التي يُساء فيها إلى الدين، كيوم عاشوراء الذي يحتفل فيه الشيعة بذكرى استشهاد الحسين ـ رضي الله عنه.
كذلك ألغى صلاح الدين الضرائب الجائرة التي كانت مفروضة على رقاب العباد، مثل الضريبة التي كان يفرضها أمير مكة على الحجيج..
تحقيق الوحدة الإسلامية:
وصف ابن الأثير حال المسلمين عندما بدأهم الغزو الصليبيُّ، فقال: "اتفق لهم اشتغال عساكر المسلمين وملوكهم بقتال بعضهم بعضا، وتفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء، واختلفت الأهواء، وتمزقت الأحوال".
فهكذا بدت الصورة في العالم الإسلامي حين حل الصليبيون على المنطقة ضيوفًا ثقلاء وغير مرغوب فيهم، وبسبب هذه الفُرْقة والتنازع بين المسلمين تمكنت الصليبية الغربية من ترسيخ أقدامها، وأصبحت لها ممالك ورعية تابعة في أربع إمارات كبيرة، هي: الرها وأنطاكية وطرابلس والقدس.
وحين هبَّ المسلمون في وجه الزحف الصليبي، الذي كان يسعى إلى قضم المزيد من الأرض الإسلامية، أيقن قادة المسلمين أنه لا نجاح لجهودهم في وقف المد الصليبي والقضاء عليه إلا بتقوية الجبهة الداخلية وتحقيق الوحدة الإسلامية.
وقد تعلم القائد الكبير صلاح الدين هذا الدرس ممن سبقوه على طريق الجهاد، خاصة عماد الدين زنكي ونور الدين محمود، فحرص كلَّ الحرص على تجميع شتات المسلمين، وإبعاد السلاطين الضعفاء عن مواقعهم؛ لأنهم يمثلون نقطة ضعف قاتلة في الجسد الإسلامي الذي يواجه خطر المحو.
ألغى صلاح الدين الخلافة الفاطمية سنة خمسمائة وسبع وستين، فأصبحت القوة الإسلامية تحت قيادة نور الدين كبيرة، بانضمام مصر تمامًا إلى ممتلكاته في الشام وشمال العراق، لكن نور الدين مات بعد ذلك بعامين، ولم تتح له الفرصة للزحف على بيت المقدس لتحريره، بل كادت هذه الفرصة تضيع من الأمة كلها، حين ترك نور الدين للولاية بعده طفلاً في الحادية عشرة من عمره، فتنازع الأمراء من أتباع نور الدين وأقاربه على السلطة، وحل الجد والنشاط في الصليبيين فأخذوا يهاجمون دمشق.
زحف صلاح الدين إلى دمشق ـ بطلب من أهلها ـ وضمها إليه بلا قتال في ربيع الآخر من سنة خمسمائة وسبعين فبدأت العداوات تتكاثر من حوله، وراحت الحراب توجه إليه من كل ناحية، من الصليبيين ومن الأمراء المتنازعين على وراثة تركة نور الدين، حتى استنجد بعض الأمراء بالصليبيين الذين هاجموا جيشه من إمارة طرابلس الصليبية.
ودخل صلاح الدين في حروب حول الجزيرة وحلب، وهو يحسب حساب خطواته، وعينه على الصليبيين القريبين منه، حتى خضعت له كل ممتلكات نور الدين في الشام والجزيرة العربية واليمن والجزيرة بشمال العراق، وطوق الصليبيين من كل جهات البر، وقال القائد المنتصر صلاح الدين يوسف بن أيوب: "أمور الحرب لا تحتمل في التدبير إلا الوحدة"!!
حطين تفتح الطريق إلى القدس:
غربيَّ طبرية، وعلى الطريق المؤدية إلى القدس جنوبًا، وسط منطقة خضراء فيها زروع وبحيرة وماء كثير، تقع حطين، ويشرف عليها تل مرتفع..
كانت فلسطين في القرن السادس الهجري مملوءة بالصليبيين الذين أشعل صلاح الدين الأرض من تحتهم نارًا منذ وفاة نور الدين، فكان يفاجئهم بالحرب في مواقع كثيرة، ويختطف منهم الحصون والمدن، ويَهزمهم ويُهزم منهم، حتى جاء موعد حطين في سنة خمسمائة وثلاث وثمانين، حيث خرج صلاح الدين من دمشق في شهر المحرم، وتوجه إلى بصرى، وانتظر عودة الحجاج من الحجاز ليؤمنهم من غدر أمير الكرك الذي قتل رَكْبًا للحجيج قبل ذلك، وتعرض بالإهانة لنبي الإسلام ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأقسم صلاح الدين على الانتقام منه بنفسه.
فلما عبر الحجيج سالمين، سار السلطان الناصر صلاح الدين بجنوده نحو الكَرَكِ، فنزلها "وقطع ما حولها من الأشجار، ورعى الزرع، وأكلوا الثمار".. وأقبلت القوات إلى صلاح الدين من مصر وشتى أنحاء مملكته.
وبلغت تحركات صلاح الدين مسامع الصليبيين، فأخذوا يجمعون جحافلهم، ويُجَيِّشون جيوشَهم، وفيهم ملوكهم الكبار، وخرجوا إلى صلاح الدين وقواته، وأقبل السلطان الناصر زاحفًا، "ففتح طبرية، وتقوّى بما فيها من الأطعمة والأمتعة وغير ذلك"، ومنع الماء عن الصليبيين حتى كاد العطشُ يهلكُهم، وتقدم المسلمون حتى نزلوا حطين.
وفي يوم حار من أيام شهر يوليو، في الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، كانت حلوق الصليبيين يوم المعركة ملتهبة من العطش، وهم يحملون شعارهم المقدس، صليبًا من الخشب، وقد زينوه بالذهب والجوهر الكثير، وأسموه صليب الصلبوت؛ لاعتقادهم أن المسيح صُلب عليه..
وأخذوا يزحفون جهة صلاح الدين الذي انسحب من أمامهم ليستدرجهم إلى موضع أفضل للقتال بالنسبة لجيشه، وسيطر المسلمون على المياه ومصادرها، وأعطوا ظهورهم للأردنّ، واستقبلوا العدو في جمعه الكبير، خمسين ألفًا..
في هذه اللحظة انطلق الفرسان من الجانبين في قتال مرير، وارتفعت صيحات المسلمين بالتكبير، وقاتل الناصر صلاح الدين بنفسه، وطاف بين جنوده يحرضهم على القتال، وأمر بإشعال الأرض بالنفط من تحت أقدام عدوّه حين رأى العُشب الجاف يكسوها، فاجتمع على الصليبيين "حَرُّ الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال"، وحمل القائدُ المسلم وجنودُه حملة صادقة كان فيها الحسم، حيث وقعت في الصليبيين مقتلة عظيمة، وراحوا يستسلمون للمسلمين جماعاتٍ، فكان الرجل الواحد من المسلمين يأسر بالعشرات من الصليبيين، يقيّدهم بالحبال، حتى استسلم ملوك الصليبيين، ووقع أكثرُهم في الأسر.
وواصل السلطان الناصر سيره، حتى استولى على قلعة طبريّة الحصينة، وافتتح عكا صلحًا، "ثم سار منها إلى صيدا وبيروت وتلك النواحي من السواحل يأخذها بَلدًا بلدًا، لخلوّها من المقاتِلَةِ والملوك، ثم رجع سائرًا نحو غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأرض الغور، فملك ذلك كله.. وكان جملة ما افتتحه السلطان في هذه المدة القريبة خمسين بلدًا كبارًا..".
لقد فتحت كل هذه الفتوح الطريق إلى بيت المقدس، وأصبح الهدف المركزي من شن الحرب ضد الصليبية قريب التحقق، وراح الشاعر العماد الأصفهاني يقول لصلاح الدين وجيوش المسلمين:
غَزَوْا عُقْر دار المشركين بـ"غزة"
جِهَارًا، وطرف الشرك خزيان مُطْرِقُ
وهيَّجْـتَ للبيـت المقـدَّس لوعـة
يطول بها منه إليك التشوُّقُ
هـو البيـت إن تفتحْـه، والله فاعل،
فمـا بعـده بـاب مـن الشـام مغلَــق!
صلاح الدين يحرر القدس:
كانت أنشودةً رائعة للنصر، تلك التي غنّاها صلاح الدين في حطين، حيث التقط بعدها المدن والقلاع من يد الصليبيين واحدة بعد الأخرى. وكان المسلمون بعدها يترقبون بشوق عارم أن يعلن السلطان التوجه إلى بيت المقدس، فلما أعلن ذلك طارت بهم أرواح الشوق، فقصده المتطوعون من العلماء والصالحين من أنحاء العالم الإسلامي، وأتاه أخوه الملك العادل من مصر في قواته، فاجتمع لدى صلاح الدين جيش كبير، سار به من عسقلان إلى القدس.
وقف الجيش المسلم أمام المدينة المُطلة على الدنيا من فوق مرتفعاتها في كبرياء وشموخ، بعد أن وجه صلاح الدين أسطوله البحري في مصر إلى الشواطئ قُبالة القدس، ليمنع وصول أي مساعدة إلى الصليبيين.
وأنزل صلاح الدين أخاه العادل في جيشه جنوب سور المدينة ليشغل العدو بهذه الناحية، ويشتت قواتهم حول الأسوار المنيعة، ونزل السلطانُ نفسُه في الناحية الغربية من القدس، وبقي في موضعه هذا خمسة أيام يحاول اقتحام المدينة، والعدو يزيد هذه الناحية تحصينًا، حتى أيقن صلاح الدين أن الصليبيين قد ركزوا أكثر اهتمامهم وقواتهم وعتادهم في السور الغربي للمدينة، فتحول فجأة إلى السور من جهته الشمالية، ووقع القتال ساخنًا، حتى استشهد بعض أمراء المسلمين، فازدادت النفوس حماسة وإصرارًا على القتال، وأبصر المسلمون الصلبان فوق قبة الصخرة وفوق الأسوار، فازدادوا حماسة لإبطال هذا كله، وتساقطت الأحجار من المجانيق على السور كالمطر الغزير، وتحت وابل هذه الأحجار نقب المسلمون السور من زاويته الشرقية الشمالية، حتى انهدم البرج القائم هناك، وانفتح الطريق أمام المسلمين لاقتحام المدينة.
كان أمام المسلمين أن يُعْمِلوا في أعدائهم قتلاً وذبحًا، ويملأوا شوارع المدينة المباركة من دماء القتلى، لكن صلاح الدين قَبِل أن يصالح الصليبيين، وتسلم منهم القدس المباركة في السابع والعشرين من شهر رجب، أي ما يوافق ليلة الإسراء والمعراج من سنة خمسمائة وثلاث وثمانين.
ومسح القائد المنتصر عن المدينة دموعها، وعالج آلامها، وردَّها إلى سالف عهدها مدينةً إسلامية يُرفع فيها الأذان، وتقام الجُمُعَات.
صلاح الدين يتسلَّم القدس:
لم تكن مشاهد المأساة الرهيبة التي ارتكبها الصليبيون في القدس يوم استولوا عليها تفارق خيال صلاح الدين، الذي لم يشاهدها بعينيه، إذ لم يكن قد وُلد حين وقعت، غير أن مشاعر هذا الجيل كله قد تأثرت بهذه المأساة الكبيرة.
وحين استطاع صلاح الدين بقواته فتح طريق في سور القدس، أراد أن يقتحمها على أهلها، وصورة المأساة الأولى ماثلة أمام عينيه؛ دماء قَلَبَتْ لون الأرض حُمْرةً قانية، تميل إلى السواد في بعض المواضع، وأشلاء بشر مقطعةٌ لا يَدْري أيٌّ م
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://http:/اhouda.houdi@gmail.com
 

تاريــخ فلسطين ص2

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

 مواضيع مماثلة

-
» تاريــخ فلسطين ص1
» فلسطين.....
» من فلسطين......
» قالو عن فلسطين
» عاشق من فلسطين

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
•°o.O منتديات ورقلـة المنـوعة ترحب بكم ،، O.o°•OUARGLA :: منتدى الشارع العربي والدولي :: قسم أوطان وحضارات-