بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله - تعالى - وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ قد تكلمنا على ذلك مستقصى في تفسير هذه السورة ولله الحمد. وقد زعم محمد بن إسحاق أنهم كانوا بعد مبعث المسيح، وخالفه غيره، فزعموا أنهم كانوا قبله. وقد ذكر غير واحد أن هذا الصنيع مكرر في العالم مرارا في حق المؤمنين من الجبارين الكافرين، ولكن هؤلاء المذكورون في القرآن قد ورد فيهم حديث مرفوع وأثر أورده ابن إسحاق وهما متعارضان، وهانحن نوردهما لتقف عليهما.
قال الإمام أحمد: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كان ملك فيمن كان قبلكم، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك إني قد كبرت سني وحضر أجلي فادفع إلي غلاما فلأعلمه السحر. فدفع إليه غلاما، فكان يعلمه السحر، وكان بين الملك وبين الساحر راهب، فأتى الغلام على الراهب فسمع من كلامه، فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه وقال ما حبسك وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا ما حبسك فشكا ذلك إلى الراهب، فقال إذا أراد الساحر أن يضربك فقل: حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل: حبسني الساحر.
قال: فبينا هو ذات يوم إذ أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس، فلا يستطيعون أن يجوزوا فقال: اليوم أعلم أمر الساحر أحب إلى الله أم أمر الراهب قال: فأخذ حجرا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك وأرضى من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى فأخبر الراهب بذلك فقال: أي بني أنت أفضل مني، وإنك ستبتلى فإن ابتليت فلا تدل علي فكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص وسائر الأدواء، ويشفيهم الله على يديه.
وكان جليس للملك فعمي فسمع به فأتاه بهدايا كثيرة فقال: اشفني ولك ما هاهنا أجمع. فقال: ما أنا أشفي أحدا، إنما يشفي الله - عز وجل - فإن آمنت به ودعوت الله شفاك فآمن فدعا الله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس فقال له الملك: يا فلان من رد عليك بصرك؟ فقال: ربي قال: أنا قال: لا ربي وربك الله قال: ولك رب غيري؟ قال: نعم ربي وربك الله فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فأتي به فقال: أي بني بلغ من سحرك أن تبرئ الأكمه والأبرص وهذه الأدواء قال: ما أشفي أنا أحدا إنما يشفي الله - عز وجل - قال: أنا قال: لا قال: أولك رب غيري؟ قال: ربي وربك الله قال: فأخذه أيضا بالعذاب ولم يزل به حتى دل على الراهب فأتي بالراهب، فقال: ارجع عن دينك فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال للأعمى: ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه.
وقال للغلام: ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفر إلى جبل كذا وكذا وقال: إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلا فدهدهوه، فذهبوا به فلما علوا الجبل قال: اللهم أكفنيهم بما شئت فرجف بهم الجبل فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك فقال: كفانيهم الله، فبعث به مع نفر في قرقور فقال: إذا لججتم البحر، فإن رجع عن دينه، وإلا فأغرقوه في البحر، فلججوا به البحر فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل على الملك فقال: ما فعل أصحابك فقال: كفانيهم الله.
ثم قال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهما من كنانتي، ثم قل: بسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل، ووضع السهم في كبد القوس، ثم رماه وقال: بسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه، فوضع الغلام يده على موضع السهم، ومات فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام فقيل للملك: أرأيت ما كنت تحذر فقد والله نزل بك قد آمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فحفر فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال من رجع عن دينه فدعوه، وإلا فأقحموه فيها. وقال: فكانوا يتعادون فيها، ويتدافعون، فجاءت امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي: اصبري يا أماه فإنك على الحق كذا رواه الإمام أحمد ورواه مسلم والنسائي من حديث حماد بن سلمة زاد النسائي: وحماد بن زيد كلاهما عن ثابت به، ورواه الترمذي من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن ثابت بإسناده، نحوه وحرر إيراده، كما بسطنا ذلك في التفسير
وقد أورد محمد بن إسحاق هذه القصة على وجه آخر فقال: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب وحدثني أيضا بعض أهل نجران عن أهلها أن أهل نجران كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان وكان في قرية من قراها قريبا من نجران - ونجران هي القرية العظمى التي إليها جماع أهل تلك البلاد - ساحر يعلم غلمان أهل نجران السحر، فلما نزلها فيميون - ولم يسموه لي بالاسم الذي سماه ابن منبه قالوا: رجل نزلها - فابتنى خيمة بين نجران وبين تلك القرية التي فيها الساحر وجعل أهل نجران يرسلون غلمانهم إلى ذلك الساحر يعلمهم السحر، فبعث الثامر ابنه عبد الله بن التامر مع غلمان أهل نجران فكان إذا مر بصاحب الخيمة أعجبه ما يرى من عبادته وصلاته فجعل يجلس إليه ويسمع منه حتى أسلم فوحد الله وعبده، وجعل يسأله عن شرائع الإسلام حتى إذا فقه فيه، جعل يسأله عن الاسم الأعظم، وكان يعلمه فكتمه إياه.
وقال له: يا ابن أخي إنك لن تحمله أخشى ضعفك عنه والثامر أبو عبد الله لا يظن إلا أن ابنه يختلف إلى الساحر كما يختلف الغلمان، فلما رأى عبد الله أن صاحبه قد ضن به عنه، وتخوف ضعفه فيه عمد إلى قداح فجمعها ثم لم يبق لله اسما يعلمه إلا كتبه في قدح، لكل اسم قدح حتى إذا أحصاها أوقد نارا ثم جعل يقذفها قدحا قدحا، حتى إذا مر بالاسم الأعظم، قذف فيها بقدحه فوثب القدح حتى خرج منها لم تضره شيئا فأخذه ثم أتى به صاحبه فأخبره أنه قد علم الاسم الأعظم الذي قد كتمه فقال: وما هو؟ قال: كذا وكذا قال: وكيف علمته؟ فأخبره بما صنع قال: أي ابن أخي قد أصبته فأمسك على نفسك، وما أظن أن تفعل.
فجعل عبد الله بن الثامر إذا دخل نجران لم يلق أحدا به ضر إلا قال: يا عبد الله أتوحد الله وتدخل في ديني وأدعو الله لك فيعافيك عما أنت فيه من البلاء؟ فيقول: نعم فيوحد الله ويسلم ويدعو له فيشفى، حتى لم يبق بنجران أحد به ضر إلا أتاه فاتبعه على أمره، ودعا له فعوفي حتى رفع شأنه إلى ملك نجران فدعاه فقال: أفسدت علي أهل قريتي وخالفت ديني ودين آبائي لأمثلن بك قال: لا تقدر على ذلك فجعل يرسل به إلى الجبل الطويل فيطرح على رأسه فيقع إلى الأرض ما به بأس وجعل يبعث به إلى مياه بنجران بحور لا يلقى فيها شيء إلا هلك، فيلقى به فيها فيخرج ليس به بأس، فلما غلبه قال له عبد الله بن الثامر: إنك والله لا تقدر على قتلي حتى توحد الله فتؤمن بما آمنت به، فإنك إن فعلت سلطت علي فقتلتني قال: فوحد الله ذلك الملك، وشهد شهادة عبد الله بن الثامر ثم ضربه بعصا في يده فشجه شجة غير كبيرة فقتله، وهلك الملك مكانه واستجمع أهل نجران على دين عبد الله بن الثامر وكان على ما جاء به عيسى ابن مريم من الإنجيل وحكمه ثم أصابهم ما أصاب أهل دينهم من الأحداث، فمن هنالك كان أصل دين النصرانية بنجران.
قال ابن إسحاق فهذا حديث محمد بن كعب وبعض أهل نجران عن عبد الله بن الثامر، فالله أعلم أي ذلك كان قال: فسار إليهم ذو نواس بجنده، فدعاهم إلى اليهودية وخيرهم بين ذلك أو القتل فاختاروا القتل فخدوا الأخدود وحرق بالنار وقتل بالسيف ومثل بهم فقتل منهم قريبا من عشرين ألفا ففي ذي نواس وجنده أنزل الله على رسوله قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ الآيات وهذا يقتضي أن هذه القصة غير ما وقع في سياق مسلم.
وقد زعم بعضهم أن الأخدود وقع في العالم كثيرا كما قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا أبو اليمان أنبأنا صفوان عن عبد الرحمن بن جبير قال: كانت الأخدود في اليمن زمان تبع، وفي القسطنطينية زمان قسطنطين حين صرف النصارى قبلتهم عن دين المسيح والتوحيد واتخذ أتونا وألقى فيه النصارى الذين كانوا على دين المسيح والتوحيد وفي العراق في أرض بابل في زمان بختنصر حين صنع الصنم وأمر الناس فسجدوا له فامتنع دانيال وصاحباه عزريا ومشايل، فأوقد لهم أتونا وألقى فيها الحطب والنار، ثم ألقاهما فيه فجعلها الله عليهم بردا وسلاما، وأنقذهم منها وألقى فيها الذين بغوا عليه، وهم تسعة رهط فأكلتهم النار.
وقال أسباط عن السدي في قوله قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ قال: كان الأخدود ثلاثة، خد بالشام، وخد بالعراق، وخد باليمن رواه ابن أبي حاتم وقد استقصيت ذكر أصحاب الأخدود والكلام على تفسيرها في سورة البروج من كتابنا " التفسير "، ولله الحمد والمنة.