الأمة التي لا تعرف ماضيها... لاتعي حاضرها... ولاتدرك اهمية مستقبلها
عندما بلغت دولة الخلافة العباسية مبلغاً بعيداً في الضعف والتفكك وتسلط الغير عليها وقد واجهت التحدي الأكبر لوجودها وشرعيتها عندما ظهرت الدولة الفاطمية الباطنية الشيعية والتي استولت على مصر والشام والحجاز واليمن، وأصبح من الضروري وجود قوه جديدة تعيد لأمة الإسلام قوتها وشبابها، وكانت هذه القوة الجديدة : قوة السلاجقة وهي قبائل تركية ظهرت منذ أوائل القرن الخامس الهجري في سهول التركستان، وظلت في تقدم وتوسع وانتشار خاصة عندما آلت قيادة هذه القبائل للسلطان 'طغرلبك' الذي وسع نطاق نفوذ السلاجقة وأعلن ولائه الكامل للخليفة العباسي ولأهل السنة عموماً واتسعت دولة السلاجقة لتشمل خراسان وإيران وبلاد ما وراء النهر كلها .
واستمر 'طغرلبك' في جهاده ونصرته للخلافة العباسية والمسلمين حتى توفاه الله عز وجل سنة 455 هجرية وتولى السلطنة بعده بطلنا الجسور ألب أرسلان .
الأسد الباسل
هو السلطان الكبير والملك العادل، عضد الدولة، أبو شجاع ألب أرسلان محمد بن جفرى بك داود بن ميكائيل بن سلجوق بن دقاق التركمانى، ومعنى ألب أرسلان بالتركية الأسد الباسل وكان حقاً منذ شبابه وقبل ولايته أسد باسلاً شجاعاً يستعين به عمه 'طغرلبك' في المهام الصعبة والجسيمة وكان في منزلة القائد العام للجيوش السلجوقية وهو دون الثلاثين من العمر
بين المطرقة والسندان
الدولة السلجوقية الكبيرة تقع بين عدوين كبيرين كلاهما يتربص بهذه القوة الجديدة، العدو الأول الإمبراطورية البيزنطية عريقة العداء مع المسلمين، والعدو الثاني الدولة العبيدية الخبيثة في مصر، وكان ألب أرسلان في الحقيقة يريد أن يفتح مصر أولاً وذلك لعدة اعتبارات : منها تخليص العالم الإسلامي من حالة الفوضى القيادية في ظل وجود خلافتين كلاهما يدعى الأحقية والشرعية، ومنها القضاء على منبع تصدير الشرور والضلالات والاغتيالات في الأمة الإسلامية .
ومن أجل التفرغ لفتح مصر والشام كان لابد على الأسد الباسل ألب أرسلان أن يؤمن حدوده مع الأقاليم الأرمينية والجورجية التابعة للدولة البيزنطية والمتاخمة لبلاده، وكان قد استعان بقبائل التركمان ووجه طاقاتهم القتالية لصالح المسلمين، فأغاروا على هذه الحدود وقاموا بدورهم في إضعاف القوى الدفاعية للدولة البيزنطية، ولكن هذه الغارات المقطعة لم تصرف همة الأسد ألب أرسلان لئن يسدد ضربة موجعة للدولة البيزنطية تنشغل بها حيناً من الدهر ريثما يقوم هو بمشروعه الكبير في فتح الشام ومصر وإسقاط الدولة العبيدية الخبيثة .
ضربة الأسد
هذه الضربة قام بها الأسد الباسل 'ألب أرسلان' حيث توغل بجيوشه إلى قلب الأناضول قاصداً مدينة قيصرية الغنية التي فتحها ألب أرسلان في ربيع الثاني سنة 456 هجرية وغنم منها غنائم عظيمة، ثم توجه بعدها إلى أذربيجان ثم إلى أرمينية وبلاد الكرج 'جورجيا الآن' في جيش ضخم قسمه إلى جزأين، جزء يقوده ولده وولى عهده 'ملكشاة' ووزيره الشهير 'نظام الملك' واتجه ناحية القواعد الجبلية، والجزء الأخر يقوده ألب أرسلان نفسه وتوجه إلى مدينة 'آني' عاصمة أرمينية البيزنطية واجتمع مع الجزء الأول من الجيش على حصار المدينة العريقة لعدة شهور حتى فتحها في أواخر سنة 456 هجرية، وبذلك سيطر السلاجقة على أرمينية التي كانت بمثابة الحصن المنيع لبيزنطة من الشرق، وتلقت الدولة البيزنطية ضربة موجعة من الأسد الباسل جعلتها تعيد ترتيب أوراقها وتفكر في تغيير قياداتها وأسلوب معاركها وهذا ما سيظهر أثره في معركة ملاذكرد .
العودة إلى الهدف الأول
بعد نجاح ألب أرسلان في فتح أرمينية البيزنطية والكرج قرر الأسد العودة إلى الهدف الأول وهو فتح الشام ومصر، فتوجه إلى شمال الشام الذي كان به العديد من أمراء المسلمين الموالين للدولة البيزنطية وأيضا موالين للدولة الفاطمية، وهاجم ألب أرسلان القلاع البيزنطية في الرها وأنطاكية وقيسارية، وأخضع بني شداد في حران وبني عقيل في الموصل وكان ولاؤهم للفاطميين، ثم عبر نهر الفرات واتجه إلى مدينة حلب ومنها إلى نفوذه كي يحمى ظهره من الخطر الشيعي حيث كان أميرها محمود بن صالح شيعياً فاطمياً .
الصحوة
في هذه الفترة الذهبية للدولة الإسلامية والتي كان فيها الأسد الباسل ناشراً رايات الجهاد على عدة جبهات، كانت الدولة البيزنطية تضطرم بروح انتقامية عارمة وتبحث عن القيادة القادرة على رد عادية السلاجقة والقبائل التركمانية التي أنهكت القوى الدفاعية للإمبراطورية العجوز ولقد وجدت الدولة البيزنطية ضالتها في القائد العسكري الشاب 'رومانوس ديوجين' الذي لمع نجمه بعد عدة انتصارات حققها في القتال ضد البوشناق في بلغاريا فانعقدت عليه الآمال وحطت عنده الرحال خاصة بعد ثلاثة انتصارات متتالية على بعض أمراء المسلمين في الفترة ما بين سنة 461 هجرية ـ 463 هجرية، فتربع إمبراطوراً على بيزنطة وتلقب برومانوس الرابع وأخذ في التحضير لعمل عسكري ضخم ضد المسلمين ينهي بها وجودهم في منطقة آسيا الصغرى والجزيرة وشمال الشام، وبالفعل بعد عدة شهور من توليه العرش البيزنطي بدأ العمل في سد المنافذ التي استخدمها السلاجقة في التدفق على أراضى الإمبراطورية، كما سعى إلى احتلال بعض المواقع الإستراتيجية في بلاد الشام والجزيرة الفراتية، وشن ثلاث حملات ضد إمارة حلب في الشام ثم الجزيرة فاستولى خلالها على مدينة 'منبج' ثم قام في الثالثة بالهجوم على أرمينية الإسلامية، فاستولى على كثير من الحصون وشحنها بالمقاتلين واستعد لمعركة حاسمة .
معركة ملاذكرد
حشد 'رومانوس' كل ما استطاع من القوى اللازمة لتحطيم الأمة الإسلامية، واستعان بالفرق الفرنجية من غرب أوروبا كمرتزقة في جيشه واستعان أيضا بالقبائل الروسية وكانت حديثة عهد بالنصرانية وانضم إليه كثير من الأرمن والجورجيين وتضخم جيشه حتى وصل لأكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل وفي نيته قلع الأمة الإسلامية من أساسها ومحو الإسلام كدين والمسلمين كأمة .
وصلت الأنباء للسلطان ألب أرسلان وهو في مدينة 'خوى' من أعمال أذربيجان فقرر رغم قلة جيشه الزحف باتجاه الجيش العملاق لوقف تقدمه بأرض الإسلام، في حين واصل رومانوس زحفه حتى وصل إلى مدينة ملاذكرد [وتنطق أيضا منازجرد ومنازكرد ] وهي بلدة حصينة تقع على فرع نهر 'مرادسو' بقلب الأناضول وهذه المدينة مازالت موجودة حتى الآن بتركيا .
انطلق الأسد الباسل بمنتهي السرعة مستغلاً خفة حركته لقلة جيشه وذلك لنجدة المدينة المحاصرة وجاءت أول بشارات النصر عندما التقت قوات الاستطلاع المسلمة بطلائع الروم وكانوا من القبائل الروسية فانتصر المسلمون ووقع قائد الروم الروسي 'بازيلكوس' في الأسر .
ورغم هذا الانتصار المشجع إلا إن ألب أرسلان الذي كان يقدر مدى الفارق الكبير بين الجيشين أرسل إلى رومانوس يطلب الهدنة ولكن هذا الطلب جعل رومانوس يغتر بكثرته وتفوقه في العدد والعدة ورد على طلب السلطان بالهدنة بأن قال [هل هذا ما يريده ملكك .................. ما اسمه ألب أرسلان؟؟ ألا يعني اسمه الأسد ال....شجاع ؟؟؟!!!))
قالها ملك الروم وانفجر في الضحك وقال بلا هدنة إلا في الري] والري هي عاصمة الدولة السلجوقية .
الأسد بطل ملاذكرد
لما وصل هذا الرد المستفز للأسد الباسل 'ألب أرسلان' حميت عزيمته واشتعلت الغيرة على الإسلام في قلبه واستوثق الإيمان في نفسه وتأكد من صحة عزم هذا الصليبي على إبادة الأمة الإسلامية وقرر التصدي له وحده وبمن معه من جنود، على الرغم من التفاوت الشاسع بين الجيشين فالروم البيزنطيون وحلفاؤهم أكثر من ثلاثمائة ألف، والمسلمين في خمسة عشر ألف فقط لا غير .
كان ألب أرسلان مؤمناً صادقاً غيوراً يعلم أن الله عز وجل سوف ينصره لأنه على الحق وعدوه على الباطل،وكان من عادة هذا السلطان الصالح أن يصطحب معه في غزواته وحملاته الجهادية العديد من العلماء والفقهاء والزهاد كقيادة روحية ومرجعية دينية، وكان معه في هذه المرة الفقيه الكبير [أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري] الذي قال لألب أرسلان هذه العبارة الرائعة [إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله تعالى قد كتب باسمك هذا الفتح فالقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي يكون الخطباء فيها على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر] .
وبالفعل استجاب الأسد الباسل لهذه النصيحة الغالية التي تشرح بأوجز العبارات أسباب الانتصار المادية والمعنوية، وفي يوم الجمعة 7 ذي القعدة 463 هجرية ـ 26 أغسطس 1071ميلادية قام ألب أرسلان وصلى بالناس وبكى خشوعاً وتأثراً ودعا الله عز وجل طويلاً ومرغ وجهه في التراب تذللاً بين يدي الله واستغاث به، ثم لبس كفنه وتحنط وعقد ذنب فرسه بيديه ثم قال للجنود {من أراد منكم أن يرجع فليرجع فإنه لا سلطان هاهنا إلا الله} ثم امتطى جواده ونادى بأعلى صوته في أرض المعركة {إن هزمت فإنى لا أرجع أبداً فإن ساحة الحرب تغدو قبري} وبهذا المشهد الذي ينفطر له أقسى القلوب وتخشع أمامه أشقى النفوس استطاع 'ألب أرسلان' أن يحول 15 ألف جندي إلى 15 ألف أسد كاسر ضاري ضد العدو الذي تعداده أكثر من ثلاثمائة ألف مقاتل
وعند الزوال اصطدم الجيشان وألب أرسلان على رأس جيشه يصول ويجول كالأسد الهصور ودارت معركة طاحنة في منتهي العنف حاول البيزنطيون حسم المعركة مبكراً مستغلين كثرتهم العددية الضخمة، ولكن ثبات المسلمين أذهلهم وأنساهم كل المعارك التي خاضوها من قبل حتى أصيب الروم بالتعب والإرهاق وذلك عند غروب الشمس، فحاول 'رومانوس' الانسحاب إلى الخلف قليلاً للراحة ومواصلة القتال في اليوم التالي، وعندها انتهز الأسد الباسل الفرصة وشد بكامل جيشه على الرومان حتى أحدث بصفوفهم المنسحبة ثغرة، أنسال منها سلاح الفرسان الإسلامي إلى قلب الجيش البيزنطي وأمطروهم بوابل من السهام المميتة فوقعت مقتلة عظيمة وانكشفت صفوف البيزنطيين وركبوا بعضهم بعضاً وفرت الفرق الفرنجية المرتزقة من أرض المعركة ووقع في الأسر أعداد كبيرة منهم الإمبراطور 'رومانوس' نفسه.
بين الأسد وفريسته
في صباح اليوم التالي للمعركة أخذ القيصر الإمبراطور 'رومانوس' الأسير، وكان أول قيصر يقع في أسر المسلمين، إلى معسكر ألب أرسلان أو عرين الأسد، ووقف الفريسة بين يدي الأسد، ومن الطبيعي جداً بل لا أكون متجاوزاً إذا قلت أنه يجب على الأسد ألا يترك فريسته تفلت منه دون عقاب ولابد أن يبطش بها بما يليق بجرم هذه الفريسة التي سول لها شيطانها أن تنتهك حرمة الأسد، ولكن الأسد الذي جمع بين الشجاعة والبسالة والإيمان واليقين أضاف إلى كل هذه الخصال العظيمة فضيلة العفو والصفح عند المقدرة .
فبعد أن أناب ألب أرسلان رومانوس على جرائمه وضربه بيده ثلاث مقارع ووضع قدمه على هامة 'رومانوس' تحقيراً وإذلالاً له وجعله يقبل الأرض باتجاه بغداد حيث الخليفة العباسي لإظهار عز الإسلام وأهله ، قام بالعفو عن رومانوس نظير دفع فدية كبيرة وفك أسر كل الأسرى المسلمين في سائر بلاد الروم وإلزامه بالقسم بأغلظ الأيمان على عدم العودة مرة أخرى لقتال المسلمين .
الآثار الخطيرة لملاذكرد
كانت الضربة الموجعة التي وجهها الأسد ألب أرسلان للإمبراطورية البيزنطية من أشد ما نالته هذه الدولة العريقة وكانت نذير السقوط الوشيك، فلقد فقدت الإمبراطورية لقب حامية الصليب وفتحت هذه المعركة الطريق لتدفق المسلمين في منطقة آسيا الصغرى وأقام السلاجقة دولة بالأناضول عرفت باسم سلطنة سلاجقة الروم، حيث إن ألب أرسلان بعد المعركة قام بعد المعركة بتعيين ابن عمه 'سليمان بن قتلمش' حاكماً على الأراضي المفتوحة بالأناضول [لاحظ أنه قد جعل سليمان بن قتلمش حاكماً رغم أن أباه قتلمش قد خرج عليه من قبل وقاتله، وذلك لتأليف بني عمومته وربما كنوع من راحة الضمير] .
كما كانت هذه المعركة من أهم الأسباب الدافعة لتحريك الحملات الصليبية من غرب أوروبا بعدما ضعفت شرق أوروبا أو الدولة البيزنطية، ووصل الأمر لئن يذهب قيصر القسطنطينية 'ميخائيل السابع' والذي توج على العرش بعد وقوع 'رومانوس' في الأسر إلى 'روما' مستنجداً ببابا روما كبير الكاثوليك راكعاً على ركبتيه، باكياً بين يديه طالباً من شن حرباً صليبية من ناحية الغرب على المسلمين .
مصرع الأسد
إن المرء ليعجب حقاً من خواتيم أبطال الإسلام وعظمائهم الذين خاضوا غمار الكثير من المعارك وطلبوا الموت من كل مظانه وتعرضوا له في جميع مواطنه ووقفوا له في كل سبيل طلباً للشهادة، ثم يأتيهم حمام الموت غدراً بيد عميل أو خائن أو طامع أو حاسد أو مأجور وهذا ما حدث للأسد الباسل وهو في ريعان شبابه '41 سنة' وهو في قمة ظفره وتمكنه وعلو شأنه حتى حاز بحق لقب سلطان العالم وسلطان الدنيا والدين .
وذلك عندما قام أحد الخارجين عليه واسمه 'يوسف الخوارزمي' بطعنه بالسكين والسلطان يعاتبه على جرائم ارتكبها هذا المجرم الخارجي، لتنتهي هكذا في لحظة حياة هذا الأسد بطعنة غادر مجرم، ليهلل لموته كل أعداء الإسلام شرقاً وغرباً وتلتقط الدولة الفاطمية أنفاسها ويهدأ روعها بعدما أوشكت على السقوط والتهاوي تحت ضربات الأسد ولقد قتل الأسد ألب أرسلان في 10 ربيع الأول سنة 465 هجرية، وبمصرعه ظهرت الأطماع والشرور ورفع أعداء الإسلام رؤوسهم، وكما قال الحكيم [إنما ضغت الثعالب عندما غاب الاسد[