بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما العلم الممدوح في نصوص الكتاب والسنة؟
السؤال
في الكتاب والسنة نصوصٌ كثيرة تمدح العلم وطلَبه وتعليمه، فأي علم مقصود بهذا المدح وهذه الفضائل؟ أهي العلمُ الشرعي؟ أو أي علم يُنتفع به؟
الجواب
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:
فالنصوص الشرعية متكاثرةٌ - من القرآن الكريم والسنة النبوية المشرَّفة - على فضيلة العلم والعلماء، وعلى الحثِّ على طلبِهِ وتحصيلِهِ، والاجتهاد في تعلُّمه وتعليمه؛ قال الله - تعالى -: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9]، وقال - تعالى -: ﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ﴾ [طه: 114]، وقال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28]، وقال - تعالى -: ﴿ يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ [المجادلة: 11].
ومن السنة: حديث معاوية - رضِي الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن يُرِد الله به خيرًا يفقِّهه في الدِّين)).
وعن أبي موسى الأشْعري - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ مثلَ ما بعثَني الله به من الهُدى والعلم؛ كَمَثَلِ غيثٍ أصاب أرْضًا، فكانتْ منها طائفةٌ طيِّبةٌ قبِلت الماء، فأنبتت الكَلَأَ والعُشْبَ الكثيرَ، وكان منها أجادبُ أمسكت الماء، فنفع الله بها النَّاس فشربوا منها، وسَقَوا وزَرَعُوا، وأصاب طائفةً منها أُخْرَى، إنَّما هي قيعانٌ لا تُمسكُ مَاءً، ولا تُنبِتُ كَلَأً؛ فَذَلِكَ مَثَلُ مَن فَقُه في دينِ اللهِ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ به، فعَلِمَ وعلَّمَ، ومَثَلُ مَن لم يَرفعْ بذلك رأسًا، ولم يقبلْ هُدى اللهِ الَّذي أُرسِلتُ بِهِ)).
وعن ابن مسعود - رضي الله عنْه - قال: قال النَّبيُّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لا حسدَ إلاَّ في اثنتَين: رجُلٌ آتاه الله مالًا، فسلَّطه على هلكتِه في الحقِّ، ورجُلٌ آتاه الله الحِكْمة، فهو يَقضِي بها ويعلِّمُها))؛ والمراد بالحسد: الغبطة، وهي: أن يتمنَّى مثلَه.
وعن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فضل العالمِ على العابِدِ، كفَضْلِي عَلَى أدْناكُم))، ثم قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله وملائكتَه وأهل السموات والأرض، حتَّى النَّملة في جُحْرِها، وحتَّى الحوت - ليصلُّون على مُعلمي النَّاسِ الخيرَ))؛ رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن".
والظاهر مِن تلك النصوص - وغيرها كثير - أنَّ المقصودَ بالعلمِ علمُ الشريعة؛ لأن شَرَفَ العلم بشَرَف المعلوم، والمعلومُ في العلم هو اللهُ - سبحانه وتعالى - بأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وسائر علوم الشريعة؛ لذلك كان الاشتغالُ به أعلى المطالِبِ، وحصولُهُ للعبد من أشرف المواهب؛ فإنه ميراث الأنبياء،وهذا لا يُقلِّلُ من أهمية العلوم الدنيويَّة؛ كالطِّبِّ، والفيزياء، والكيمياء، والرِّياضيَّات، والهندسة، والميكانيكا، وعلوم الحاسوب، والتكنولوجيا، والبناء والملاحة، وغيرِها مما ينفع الإنسان في حياتِهِ، ويستفيدُ منها المسلمون ويَحتاجون إليْها - فتعلُّمُها من الواجبات الكفائيَّة، كما أن تَعَلُّمَ عُلُوم الشريعة من الفُرُوض الكفائيَّة، وقد ذَهَب كثيرٌ من العلماء إلى وجوب تعلُّمِ العُلومِ والصناعات التي يُحتاج إليْها، فمَن تعلَّمَها لأجل نفْعِ المسلمين وخِدمة الدين، والاستغناء عن الكفَّار - فمأْجورٌ مُثابٌ - إن شاء الله - لقولِه - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّات))؛ متَّفق عليه.
ولأنَّ المسلمين يحتاجون إليْها في شؤون حياتِهم الدنيويَّة، وفي مجال الإعدادِ لِمُواجهة أعداء الله - عزَّ وجلَّ - في شتَّى الجوانب، ونصوصُ الشَّريعة العامَّة وقواعدُها العامَّةُ تدلُّ على وُجُوب تَحصيلِ المسلمين ما يتقوَّوْن به، ويواجِهُون به أعداءَهم؛ ومن ذلك قولُهُ - تعالى -: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60].
ولا يُمكِنُنا الحصولُ على تلك القوَّةِ إلَّا بدراسة التكنولوجيا الحديثة؛ ولأنَّها إذا تُرِكَت بالكلِّيَّة، فستضيعُ المجتَمعاتُ، ويَتَعطَّلُ القيامُ بكثيرٍ مِن أُمُورِ الدُّنيا والدين، كما أنَّ فيها خدمةَ الأمةِ، وإعانةً لها على أمورِ دينها ودنياها، كما أنها ليستْ مُنافِيةً للتفقُّهِ في الدين، فلا تُترك العُلُومُ الدنيويةُ بدَعْوَى الانشغالِ في الدِّين، ولا تُترَكُ العلومُ الشَّرعيةُ بالانهِمَاكِ في الدُّنيا، وهذا من معاني دُعاء النَّبيِّ - صلَّى اللهُ عليه وسلَّم -: ((اللَّهُمَّ أصلِحْ لي ديني الَّذي هو عِصْمة أمري، وأصلِحْ لي دنيايَ التي فيها مَعَاشِي))؛ رواه مسلم.
قال محمدُ بنُ مفلحٍ - في "الآداب الشرعية" -: "أفضلُ العُلُومِ عندَ الجمهُور بعدَ معرفةِ أصلِ الدينِ وعلمِ اليقينِ، معرفةُ الفقهِ والأحكامِ الفاصلةِ بينَ الحلالِ والحرامِ".
وفي رسالة ابن أبي زيد القيرواني: "وأَوْلَى العُلُومِ وأَفْضَلُها وأقربُها إلى اللهِ علمُ دينِهِ وشرائِعِهِ مما أمر به ونَهَى عنه، ودعا إليه، وحَضَّ عليه في كتابه، وعلى لسان نبيِّه، والتفقُّه في ذلك، والتفَهُّم فيه، والتَّهَمُّم برعايته، والعمل به...".
دمتم برعاية الرحمن وحفظه