المعري، أبو العلاء
al- Ma'arri, A. 'A.
حياتـه
أسرته
نشأته
وفاة أبيه
رحلته إلى بغداد
عزلته
كتابه وتلاميذه
وفاته
شخصية المعري
أخلاقه
عماه وأثره في شخصيته
اتهامه بالزندقة
مؤلفاته النثرية
أشهر مؤلفاته
نثر المعري
شعر المعري
مكانته الشعرية ورأي النقاد فيه
دواوينه
أثر علمه وثقافته في شعره
علم اللغة
العروض والقافية
التاريخ والقصص
فلسفة المعـري
رأيه في الأديان
رأيه في الجبر والاختيار
رأيه في الدنيا
فلسفة الزهد
رأيه في المرأة
رأيه في الفرق
أسئلة
________________________________________
أبو العلاء المعري (رسم متخيّل)
المعرّيّ، أبو العلاء (363 - 449هـ، 973 - 1057م). أحمد بن عبدالله بن سليمان بن محمد بن سليمان المعري، التنوخي. شاعر ومؤلف عربي كبير، كنيته أبو العلاء، ولقب نفسه برهين المحبسين. المحبس الأول فقد البصر والثاني ملازمته داره واعتزاله الناس. ولد بمعرة النعمان وهي مدينة شامية، يرى بعض المؤرخين أنها منسوبة للنعمان بن عدي، ويرى آخرون نسبتها للنعمان بن بشير الأنصاري والي حمص وقنسرين أيام معاوية ويزيد ثم أيام عبدالملك، لأنه أول من بنى بيتًا بها، وكان قد مر بها فمات ابن له فدفنه وأقام عليه. فيكون معناها الشدة، فيقال معرة النعمان أي شدته أو حزنه.
حياتـه
أسرته. في هذه المدينة استقرت أسرة المعري التي ترجع بأصولها إلى قبيلة عربية مشهورة هي تنوخ التي ينتهي نسبها إلى قضاعة ثم إلى يعرب بن قحطان. وسميت بذلك لأنها تنخت بالشام قديمًا أي أقامت، وقد عمر المعرة منهم بطن لبني ساطع الجمال وهو النعمان بن عدي ولقب "بالساطع" لجماله وبهائه وكان جوادًا شجاعًا. وبيت أبي العلاء في بني سليمان بن داود بن المطهر وفيهم العلم والرئاسة يقول ابن العديم "وأكثر قضاة المعرة وفضلائها وعلمائها وشعرائها من بني سليمان". وتولى أجداد أبي العلاء قضاء المعرة وضم إليها جده أبوالحسن سليمان قضاء حمص أيضًا، وعرف بالفضل وكرم النفس، ومات سنة 290 هـ، فولي بعده ابنه أبوبكر محمد بن سليمان عم أبي العلاء الذي قصده الشعراء بالمدح. يقول الصنوبري فيه:
بأبي يا ابن سليمان لقد سدت تنوخا
وهم السادة شبانًا لعمري وشيوخا
فلما مات ولي القضاء بعده أخوه عبدالله بن سليمان والد أبي العلاء، واختلف في سنة وفاته، وله من الولد، غير أبي العلاء، أبو المجد محمد بن عبدالله وأبو الهيثم عبدالواحد ابن عبدالله، وكانا شاعرين وخلّفا طائفة من الأولاد تولوا القضاء. واستمر مجد الأسرة حتى أواخر القرن السادس الهجري.
وجدته لأبيه هي أم سلمة بنت أبي سعيد الحسن بن إسحاق المعري، كانت تروي الحديث وعُدّت من شيوخ أبي العلاء الذين سمع الحديث عنهم.
وأمه من بيت معروف من بيوتات حلب الشهباء. وجده لأمه هو محمد بن سبيكة. وخالاه هما أبوالقاسم علي وأبو طاهر المشرف، وكانا من ذوي الشرف والمروءة والكرم، ومن أرباب الأسفار طلبًا للمجد والجاه. يقول أبو العلاء في رثاء أمه:
وكم لك من أب وسم الليالي على جبهاتها سمــة اللئام
مضى وتَعــرُّف الأعــلام فيـه غني الوسم عن ألف ولام
ويقول في خاله علي:
كأن بني سبيـــكة فوق طير يجوبون العزائز والنـــــجادا
أبالإســكندر الملك اقتديتم فما تضعون في بلد وســـادا
وكانت صلته بهم طيبة، كما كانوا به بررة يعينونه ويصلونه. وخاله أبو طاهر هذا هو الذي أعانه على رحلة بغداد، ولذا كان يكثر من ذكرهم، وله معهم مراسلات ومنها قصيدة بعث بها إلى خاله أبي القاسم علي، وكان قد سافر إلى المغرب فطالت غيبته:
تفدِّيك النفوس ولاتفادى فأدن الوصل أو أطل البعادا
وكان المعري شديد التعلق بأمه يتحدث عنها بعاطفة مشبوبة متقدة، ولما رحل إلى بغداد كان حنينه إليها متصلاً وطيفها لا يفارقه، وتصحبه الهواجس والظنون، وبقي طوال عمره يذكرها ولم ينسها على مر الأعوام. يقول ـ وهو شيخ ـ لابن أخيه القاضي أبي عبدالله محمد:
أعبدالله ما أُسـدي جميـلاً نظير جميل فعلك مثل أمي
سقتني درها ورعت وباتت تعـوذني وتـقـرأ أو تُسـمي
نشأته. أصيب في آخر العام الثالث من عمره بالجدري فعمي في الرابعة من عمره، ولم يبق من ذكريات ما رآه إلا اللون الأحمر. قال: " لا أعرف من الألوان إلا الأحمر، لأني ألبست في الجدري ثوبًا مصبوغًا بالعصفر، لا أعقل غير ذلك".
بدأ أبوالعلاء صغيرًا في تلقي العلم على أبيه، وأول ما بدأ به علوم اللسان والدين على دأب الناس في ذلك العصر، وتُلمح الفائدة التي جناها من هذه الدروس إذ بدأ يقرض الشعر وله إحدى عشرة سنة ثم ارتحل إلى حلب ليسمع اللغة والآداب من علمائها تلاميذ ابن خالويه. وكانت حلب في ذلك العصر إحدى حواضر العالم الإسلامي الكبرى تضم جمعًا من العلماء ممن استدعاهم سيف الدولة إبان عنفوان دولته، ولم تذهب نهضتها بموته بل استمرت بعده. وفي حلب شهر تبريز المعري وروايته للأدب والشعر. فقد روي أنه صحّح رواية شيخه ابن سعد لبيت المتنبي:
أو موضعًا في فناء ناحية تحمل في التاج هامة العاقدْ
فقال أبوالعلاء:
أو موضعًا في فتان ناجية
ولم يقبل شيخه ذلك حتى مضى إلى نسخة عراقية للديوان فوجده كما قال أبوالعلاء. تلقى أبوالعلاء دروسًا في السنة عن يحيى بن مسعر. ومن حلب توجه إلى أنطاكية، وكانت بها مكتبة عامرة تشتمل على نفائس من الكتب فحفظ منها ما شاء الله أن يحفظ، ثم سافر إلى طرابلس الشام ومر في طريقه باللاذقية، ويقال إنه درس النصرانية واليهودية جميعًا.
ولما وصل أبو العلاء إلى طرابلس وجد بها مكتبة كبيرة ـ وقفها أهل اليسار ـ درس منها ثم عاد إلى المعرة. تردد في طور لاحق في مكتبات بغداد ودور العلم بها. كان استعداده للعلم عظيمًا وذكاؤه ملتهبًا. روى الثعالبي عن أبي الحسن المصيصي الشاعر قوله: " لقيت بمعرة النعمان عجبًا من العجب، رأيت أعمى شاعرًا ظريفًا يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كل فن من الجد والهزل يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: "أنا أحمد الله على العمى، كما يحمده غيري على البصر، فقد صنع لي وأحسن بي إذ كفاني رؤية الثقلاء البغضاء".
أشار ابن العديم إلى قوة حفظ أبي العلاء برواية حكاية عن ابن منقذ ذكر فيها أنه يقرأ عليه الكراسة والكراستين مرة واحدة فيحفظهما، ولم يعلم له من شيوخ بعد سن العشرين، وذكر هو نفسه أنه لم يحتج إليهم بعدها.
وفاة أبيه. اختلف المؤرخون في السنة التي مات فيها أبوه، فيذكر ياقوت أنه توفي سنة 377هـ بحمص، وبهذه الرواية يأخذ بعضهم ويبني عليها رأيه في نبوغ أبي العلاء الباكر وعبقريته الفذة. ويقول ابن العديم: إنه توفي سنة 395هـ بمعرة النعمان. ويؤيد جمع من الدارسين روايته لأسباب منها أنه كان يذكر أسانيد رواياته، وأغلب رواته من بني سليمان أو من تلاميذ المعري ومعاصريه، ويذكر طرق الرواية قراءة أو سماعًا أو مكاتبة، هذا فضلاً عن تخصصه واقتصاره على أخبار أبي العلاء بخلاف ياقوت في كتابه الجامع المانع. ومنها أن القصيدة التي رثى بها أباه شديدة الأسر محكمة التركيب فيها درجة من النضج الفني والفكري يصعب أن يتصف به ابن أربع عشرة سنة، وقد وصفت بأنها من عيون الشعر في الديباجة والأغراض والمعاني. وقد خلفت وفاة والده جراحًا غائرة وأسى عميقًا في نفسه لعظم عطاء الوالد البر الذي كان اعتماد أبي العلاء عليه كبيرًا في كثير من شؤونه، فأحس بعده بأنه مهيض الجناح ضائع أو شبه ضائع، وهذا الحدث أمده بكثير من الآراء التي عظمت عنده من سوء رأيه في الحياة ويقينه بفسادها.
رحلته إلى بغداد. كان أبوالعلاء فقيرًا، وكان لايتكسب بشعره، وكان له ثروة ضئيلة لا تتجاوز ثلاثين دينارًا في السنة جعل نصفها لخادمه. ويرى بعضهم أن الذي منعه من التكسب أمران: أولهما أن عزة النفس التي ورثها عن أسرته تمنعه من إراقة ماء وجهه، وتصده عن ذل السؤال، وثانيهما فطرته السليمة ودراسته الفلسفية اللتان صانتاه من الابتذال وصوغ الأكاذيب في الأمراء. والكذب عنده بشع قبيح، ثم إن المال الذي يأخذه عن طريق التكسب مال حرام استحل ظلمًا وأولى به شيخ كبير وعجوز فانية وأرملة مهيضة الجناح وأطفال زغب.
كانت أمه تمانع في سفره أول الأمر، ولكنه أقنعها فأذنت له، وأعد له خاله أبو طاهر سفينة انحدر بها إلى الفرات حتى بلغ القادسية، وهناك لقيه عمال السلطان فاغتصبوا سفينته واضطروه إلى أن يسلك طريقًا مخوفة إلى بغداد، وعند وصوله نظم قصيدة قدمها إلى أبي حامد الأسفراييني واصفًا سفره وجور عمال السلطان طالبًا مودة أبي حامد ومساعدته في رد سفينته. ويتظرف فيها واصفًا سفره البري باصطلاح الفقهاء:
ورب ظهر وصلناها على عجل بعصرها من بعيد الورد لمّاع
بضربتين لطهر الوجه واحدة وللذراعــين أخــرى ذات إســراع
وكم قصرنا صلاة غير نافلة في مهمه كصلاة الكسف شعشاع
ولا يذكر المؤرخون أسبابًا لرحلته تلك سوى أنها للسياحة وطلب العلم والحرص على الشهرة بمدينة السلام، وربما أشاروا من طرف خفي إلى فقره وطلبه الغنى. ولكن القفطي والذهبي ينصان على أن عامل حلب كان قد عارض أبا العلاء في وقف له، فارتحل إلى بغداد شاكيًا متظلمًا. وقد يكون الاضطراب السياسي في الشام آنذاك أحد الأسباب التي أخرجته وبغضت إليه المعرة فتركها ليقيم ببغداد. وكانت أجزاء كبيرة من الشام قد خضعت للعبيديين وهم من الشيعة الباطنية وكان المعري مبغضًا لهم غاية البغض، فيرجح بعض الدارسين أن خروجه قد يكون بسبب تحكم هؤلاء في المعرة في السنة التي خرج فيها.
أما المعري فينفي أن يكون خروجه طلبًا لدنيا أو التماسًا لرزق:
أنبئكم أني على العهد سالم ووجهي لما يبتذل بسؤال
وأني تيممت العراق لغير ما تيممـه غيـلان عند بـلال
وكرر هذا في رسائله لأهل المعرة ولخاله، وذكر أن أهل بغداد بذلوا له الأموال ليبقى بينهم، ولكن وجدوه "غير جذل بالصفات ولاهش إلى معروف الأقوام".
كما نفى نفيًا قاطعًا أن يكون خروجه ليستزيد من العلم: "ومنذ فارقت العشرين من العمر ما حدثت نفسي باجتداء العلم من عراقي ولا شامي. وانصرفت وماء وجهي في سقاء غير سرب، لم أرق قطرة منه في طلب أدب ولا مال. "مع أنه كان أمرًا مألوفًا في عصره أن يرحل الرجل ليستكثر من لقاء الشيوخ وكانت بغداد مما يقصد إليها الشعراء واللغويون والفقهاء والمحدثون. وقد صرح أبو العلاء بسبب سفره في بعض رسائله أنه أتاها قاصدًا دار الكتب بها، وكان يسميها دار العلم. ويذكر أنه لما دخل بغداد طلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائنها. وأنه حضر إلى خزانة الكتب التي بيد عبدالسلام البصري وعرض عليه أسماءها فلم يستغرب شيئًا لم يره من قبل بدور العلم بطرابلس إلا ديوان تيم اللات فاستعاره.
كان خروج المعري إلى بغداد في أواخر سنة 398هـ ودخلها في أوائل سنة 399هـ، ولم يأت بغداد مغمورًا بل سبقته شهرته إليها، ولكن أهل العاصمة الكبرى لم يكونوا ليسلموا بعبقرية الوافد قبل امتحانه. وقد أعدوا له امتحانًا عسيرًا اجتازه بنجاح، ذكره ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار: "احضروا دستور الخراج الذي في الديوان، وجعلوا يوردون عليه ما فيه مياومة وهو يسمع إلى أن فرغوا، فابتدأ أبو العلاء وسرد عليهم كل ما أوردوه له". وأقروا له بالحفظ والعلم، والشعر معًا إذ قرأوا عليه ديوان سقط الزند.
حضر المعري كثيرًا من مجالس العلماء ببغداد واشترك في دروسهم ومناظراتهم فكان يحضر مجمع سابور بن أردشير وفيه يقول:
وغنت لنا في دار سابور قينة من الورق مطراب الأصائل ميهال
ويحضر مجمع عبدالسلام البصري يوم الجمعة ويقول فيه:
تهيـج أشـواقي عروبة أنها إليك ذوتني عن حضور بمجمع
ويحضر دروس الشريف المرتضي، وكانت علاقته أول الأمر حسنة متينة بالشريفين المرتضي والرضي وأسرتهما، ورثى والدهما الشريف الطاهر بقصيدة مرتجلة، وكانا يجلانه ويرفعان منزلته، ثم تغير المرتضي عليه. كما كان يحضر المجالس الشعرية بمسجد المنصور حيث يلقي الشعراء قصائدهم.
ورغم هذا الحضور وتلك المشاركات العلمية الاجتماعية الحافلة إلا أن المقام لم يطب له ببغداد، وحدث له من الحوادث ما آلمه وزهده فيها. من تلك الحوادث ما يروى من أنه عثر يوم إنشاده المرثية في الشريف الطاهر برجل لا يعرفه، فقال له الرجل إلى أين يا كلب؟ فأجابه: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسمًا. وأشد من هذا وقعًا على نفسه موقف الشريف المرتضي منه لما جرى ذكر المتنبي في مجلسه، وكان المرتضي يكرهه ويتعصب عليه ويتتبع عيوبه، فقال المعري: "لو لم يكن له إلا قوله: "لك يا منازل في القلوب منازل". لكفاه، فغضب المرتضي وأمر بإخراجه فسحب برجله وأخرج، ثم قال المرتضي لجلسائه: أتدرون لم اختار الأعمى هذه القصيدة دون غيرها من غرر المتنبي؟ قالوا: لا. قال: إنما عرض بقوله:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل
وحاول المعري حضور مجلس إمام النحو ببغداد أبي الحسن علي بن عيسى الربعي، ولما قصده واستأذن عليه قال أبو الحسن: ليصعد الاصطبل، وتعني الأعمى بلغة الشام، فانصرف من فوره مغضبًا، ثم قرر المعري الانسحاب من بغداد، وما كان هينًا على البغداديين مفارقته فكانوا لرحيله كارهين ولفراقه محزونين وودعوه باكين. وودعهم بقصيدته المشهورة:
نبي من الغربان ليس على شرع يخبرنا أن الشعوب إلى الصدع
ويذكر أبو العلاء سببين لرحيله هما فقره ومرض أمه.
أثارني عنكم أمران والدة لم ألقها وثراء عاد مسفوتا
ويقال إن من أسباب خروجه أن فقهاء بغداد تعرضوا له في بيتين هما:
يد بخمس مئين عسجد وديب ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض ما لنا إلا السكــوت له وأن نعـوذ بمـولانـا من النــار
ولما عزمو على أخذه بهما خرج من بغداد طريدًا منهزمًا ورجع إلى المعرة ولزم منزله فكان لا يخرج منه. ولايذكر معاصروه شيئًا من هذا ولا المعري نفسه، الذي كان يقظًا في تسجيل ما يمر به من أحداث. بل إن إحدى رسائله تشهد بعكس هذا إذ يقول فيها: "يحسن الله جزاء البغداديين فقد وصفوني بما لا أستحق، وشهدوا لي بالفضيلة على غير علم، وعرضوا أموالهم عرض الجد".
ويذكر بعضهم أنه فارق بغداد كارهًا لها، زاهدًا فيها، ولكن رسائله تبين أنه أحبها حبًا جمًا وفارقها مكرهًا، وكان يتمنى المقام بها وكأن مقامه بها كان يقتضيه أن يبذل ما لا يستطيع بذله من خلقه وعزته وأنفته، وما كان باستطاعته تغيير طبعه وقد شب عن الطوق. وتبين التائية شيئًا من عاطفته تجاه بغداد:
يا عارضًــا راح تحــدوه بوارقـه للكرخ سلمت من غيث ونجيتا
لنــا ببغــداد من نهــوى تحيتــه فـإن تحمـــلتها عــنـا فحيــيــتا
يا ابن المحسن ما أنسيت مكرمة فاذكر مودتنا إن كنت أنسـيتـا
سقيًا لدجلــة والدنـــيا مفرقــة حتى يعود اجتماع النجم تشـتيتًا
وله من قصيدة أخرى:
متى سألت بغــداد عني وأهلها فإني عن أهل العواصـم سـآل
وتظهر على لسانه فلتات في ذم أهل بغداد في اللزوميات، لعلها أثر من آثار ما لقي من أذى فيها، أو لعلها صدى لسوء رأيه في الناس جميعًا إبان عزلته.
خرج أبوالعلاء من بغداد لست ليال بقين من رمضان عام 400هـ، وحدد طريق عودته من بغداد إلى الموصل وميافارقين، ثم نزل بالحسنية ووصل بعدها إلى آمد، وقد مر في طريقه بطرف حلب ولم يدخلها تنفيذًا لقرار العزلة.
عزلته. توفيت أمه وهو في الطريق من بغداد راجعًا، فرثاها بقصيدتين وكثير من النثر، وأضاف موتها إلى فواجعه ما ملأ نفسه ظلامًا وحبًا في العزلة التي اختارها، وظل يذكرها طوال عمره ولا يرى عزاء إلا في لحاقه بها حيث يؤنسه أن يدفن إلى جوارها.
على أن قلبي آنس أن يقال لي إلى آل هذا القبر يدفنك الآل
فبعد عودته من بغداد قرر أن يعتزل الناس جميعًا وسمى نفسه رهين المحبسين، وعبر عن ثلاثة سجون يعيشها بقوله:
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تســـأل عن الخــبر النبيث
لفقـدي ناظـري ولـزوم بيـتي وكون النفس في الجسم الخبيث
وكان في طبعه ميل إلى العزلة كما وصف نفسه بأنه "وحشي الغريزة إنسي الولادة". وتضافرت أسباب حملته على اتخاذ قرار العزلة؛ فمنها الأحداث المؤلمة التي مرت به من فقد أبيه وأمه وما يلقى من أذى أحيانًا من بعض الناس، ويجعل بعضهم من أسباب عزلته ـ إضافة إلى ما سبق ـ سببين رئيسيين، أولهما: ذهاب بصره الذي جعله يجهل كثيرًا من آداب الناس في عاداتهم، وكان شديد الحياء عزيز النفس يكره أن يخطئ في ما ألف الناس فيكون موضع السخرية والاستهزاء أو الرحمة أو الشفقة. وثانيهما فشله في الإقامة في بغداد حيث يلقى العلماء والفلاسفة، ومن ثم اضطراره إلى لزوم المعرة وهي خلو من العلماء، فكأن معاشرته للبغداديين قد بغضت إليه معاشرة الناس.
قرر أبو العلاء الانقطاع عن الدنيا ومفارقة لذائذها، فكان يصوم النهار ويسرد الصيام سردًا لا يفطر إلا العيدين، ويقيم الليل ولا يأكل اللحوم والبيض والألبان ولايتزوج، وكان يكتفي بما يخرج من الأرض من بقل وفاكهة:
يقنعني بَلْسَن يمارس لي فإن أتتني حلاوة فبلس
والبلس من البقل العدس أو الفول، والبلس التين. وعبر عن تحريم ما ذكر في قوله:
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالمًا ولا تبغ قوتًا من غريض الذبائـح
ولاتفجعن الطير وهي غوافل بما وضعــت فالظـلم شر القبائح
ودع ضَرَبَ النحل الذي بكرت له كواسب من أزهار نبت صحائح
ويكتفي من الثياب بما يستره من خشنها، ومن الفراش بحصير من بردي أو لباد، وكان يكلف نفسه أمورًا شاقة زيادة في مجاهدتها مثل الاغتسال شتاءً بالماء البارد:
مضى كانون ما استعملت فيه حميم الماء فاقدم يا شباط
وقد التزم بقرار عزلته فلم يخرج من داره تسعًا وأربعين سنة إلا مرة واحدة مكرهًا بعد ما ألح عليه أهل بلدته طالبين شفاعته لدى الأمير أسد الدولة صالح بن مرداس، وذلك أن امرأة دخلت جامع المعرة صارخة تستعدي المصلين على أصحاب ماخور قصدوها بسوء، فنفر إليها الناس وهدموا الماخور ونهبوا ما فيه. وكان أسد الدولة في نواحي صيدا فأسرع إلى هناك وعسكر بظاهر المعرة وحاصرها وشرع في قتالها واعتقل سبعين من أعيانها، فلما ضاق الأمر بالمعريين لجأوا إلى أبي العلاء فخرج وقابل صالحًا واستشفع لديه فقال له: قد وهبتها لك يا أبا العلاء، وقد ذكر أبو العلاء الحادثة في قصيدة:
أتت جامع يوم العروبة جامـعًا تقص على الشهاد بالمصر أمرها
فلو لم يقوموا ناصرين لصوتها لخلـت سمـاء الله تمطـر جمرها
والتزم بقرار عزلته من جهة ثانية مدة من الزمان، أي أنه لم يفتح داره لأحد من الناس. قال ابن العديم: "أقام مدة طويلة في منزله مختفيًا لا يدخل عليه أحد. ثم إن الناس تسببوا إليه وألحوا في طلب الشفاعة لديه من أقاربه الأدنين". ثم إنه استجاب لتوسلات المتوسلين ففتح داره لطلاب العلم من كل صقع وصوب، وصارت داره جامعة يؤمها الزائرون من شتى البقاع، وأخذ الناس يفدون إليه، وكاتبه العلماء والوزراء وأهل الأقدار.
كتابه وتلاميذه. قال ابن فضل العمري: "أخذ عنه خلق لا يعلمهم إلا الله،كلهم قضاة وخطباء وأهل تبحر واستفادوا منه، ولم يذكره أحد منهم بطعن ولم ينسب حديثه إلى ضعف أو وهن". ومن أشهر تلاميذه أبو زكريا الخطيب التبريزي وعلي بن المحسن بن علي التنوخي القاضي. وله كتاب يملي عليهم مصنفاته، منهم أبو محمد عبدالله بن محمد القاضي ابن أخيه، وكان برًا بعمه وفيه يقول أبو العلاء:
وقاضٍ لا ينــام اللـيل عني وطول نهاره بين الخصوم
وأبو الحسن علي بن محمد أخو عبدالله، وأبو نصر زيد ابن عبدالواحد، وجعفر بن أحمد بن صالح التنوخي، وإبراهيم بن علي بن الخطيب، وأبو الحسن علي بن عبدالله ابن أبي هاشم المقرئ. وكان يذكرهم بالخير في شعره ونثره.
وفاته. عمر أبو العلاء طويلاً وأصابته الشيخوخة بالوهن ووصفها بقوله:
"الآن علت السن، وضعف الجسم، وتقارب الخطو، وساء الخلق". ولكنها إن أصابت جسمه فما أصابت عقله وصفاءه وقريحته وتوقدها وحافظته وقوتها، فما نسي شيئًا مما حصَّل. وفي اليوم العاشر من ربيع الأول سنة 449هـ اعتل أبو العلاء وعاده الطبيب المشهور أبو الحسن مختار بن بطلان، وكان ممن يتردد عليه للزيارة والسماع أثناء مقامه بديار الشام، ووصف له كأسًا من شراب أتاه به ابن أخيه القاضي فامتنع عن شرابه وأنشد:
تعللــني لتسقيــني فـذرني لعلي أستريح وتستريحُ
كما وصفوا له لحم الدجاج فلما وضعوه بين يديه لمسه بيده فجزع وقال:
"استضعفوك فوصفوك هلا وصفوا شبل الأسد". وتوفي بعد ثلاثة أيام وأوصى أن يُكتب على قبره:
هذا جنـــــاه أبي عـــليَّ وما جنـيت عـلى أحــــد
ووقف على قبره أربعة وثمانون شاعرًا يرثونه، ومن أشهر ما قيل فيه رثاء تلميذه أبي الحسن علي بن همام:
إن كنت لم ترق الدماء زهادة فلقد أرقت اليوم من جفني دمًا
شخصية المعري
أخلاقه. كان المعري رغم عزلته ذا صلة حسنة بالناس. وكان مع فقره كريمًا ذا مروءة يعين طلاب الحاجات وينفق على من يقصده من الطلاب يهدي ويُهدى إليه، ويكرم زائريه. ومن مروءته وكرمه أنه لم يقبل من تلميذه الخطيب التبريزي ذهبًا كان قد دفعه إليه ثمنًا لإقامته عنده. لم يرده إليه في حينه حتى لا يؤذي نفسه ويوقعه في مشقة الحرج، ولكنه احتفظ له به حتى تجهز قافلاً فودعه ورد إليه ما دفع.
وكان رقيق القلب رحيمًا عطوفًا على الضعفاء حتى شملت رقة قلبه الحيوان فلا يذبح ولا يروع بولده وبيضه. وكان وفيًا لأصدقائه وأهله. وتفيض رسائله إلى أهل بغداد والمعرة وإلى أخواله بهذا الوفاء. ومن أهم خصاله الحياء الذي يكلفه ضروبًا من المشقة والأذى، وكثيرًا ما كتب كتبًا ورسائل لأناس طلبوا منه ذلك، وكتب يستشفع لأناس عند الأمراء، وهو كاره لذلك ولكنه لفرط حيائه لا يستطيع لهم ردًا. وكان سيئ الظن بالناس يعتقد فيهم الشرور والأسواء ويمقت فيهم خصال الكذب والنفاق والرياء. وانتهى أخيرًا إلى أن الإنسان شرير بطبعه، وأن الفساد غريزة فيه ولا يُرجى برؤه من أدوائه:
إن مازت الناس أخلاق يقاس بها فإنهم عند سوء الطبع أسواء
عماه وأثره في شخصيته. يبدو من شعر المعري إحساسه الشديد بهذه العاهة التي أصابته:
ومابي طرق للمسير ولا السرى لأني ضرير لا تضيء لي الطرق
وقوله:
ويا أسيرة حجليها أرى سفهًا حمل الحلي لمن أعيا عن النظر
وقد دفعه عماه إلى تحدي الصعاب والرغبة في التكيف واكتساب العلم والمعرفة والتفوق فيهما على البصراء. ويتبدى تحديه هذا في لعبه النرد والشطرنج، ولكن هذه العاهة رغم تكيفه معها واكتسابه صفات تعويضية، أورثته شعورًا عميقًا بالألم والحزن ملأ شعره بالزفرات الحارة مما يدل على مالها من أثر شديد على نفسه.
اتهامه بالزندقة. اتهم المعري بالزندقة والإلحاد من بعض معاصريه، ولا شك أنه كان يناقش في مجالسه قضايا الفلسفة ويشرح للطلاب أشعاره ويفسر لهم ما صعب منها. وربما قاده الشرح إلى الحديث عن مختلف الآراء الفلسفية التي لا يرتضيها عامة الناس. يضاف إلى هذا تبتله وتركه الزواج وامتناعه عن اللحم وما أشبه ذلك، وفيه ما فيه من مجانبة لسنن الدين ولحوق بفلسفات برهمية هندية. وقد استند متهموه إلى ما في رسالة الغفران من أخبار الزنادقة وأشعارهم. أما أشعاره فيبين في بعضها الشك والإنكار.
ولكنه وجد من يدافع عنه نافيًا هذه التهمة. ومن هؤلاء القفطي وابن العديم، وسمى الأخير كتابه: كتاب الإنصاف والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري وقال في مقدمته متحدثًا عن حساده وشانئيه: "رموه بالإلحاد والتعطيل، والعدول عن سواء السبيل، فمنهم من وضع على لسانه أقوال ملحدة ومنهم من حمل كلامه على غير المعنى الذي قصده فجعلوا محاسنه عيوبًا وحسناته ذنوبًا وعقله حمقًا وزهده فسقًا، ورشقوه بأليم السهام وأخرجوه عن الدين والإسلام".
ومن أحسن الشهادات في حقه شهادة الإمام الذهبي المتوفي سنة 747هـ، 1346م، حيث قال: "وفي الجملة فكان من أهل الفضل الوافر والأدب الباهر والمعرفة بالنسب وأيام العرب. وله في التوحيد وإثبات النبوة وما يحض على الزهد وإحياء طرق الفتوة والمروءة، شعر كثير والمشكل منه فله ـ على زعمه ـ تفسير".
مؤلفاته النثرية
أشهر مؤلفاته. ألف أبو العلاء مصنفات جمة ضاع أكثرها ولم يصل إلينا منها إلا النزر اليسير. يقول القفطي والذهبي إن أكثر كتبه باد ولم يخرج من المعرة، وحرقها الصليبيون فيما حرقوا من المعرة، وأحصيا له من الكتب خمسة وخمسين كتابًا في أربعة آلاف كراسة، تشمل الشعر والنثر فقد ذكر له كتاب اسمه استغفر واستغفري فيه عشرة آلاف بيت ضاع مع ما ضاع. ويذكر الرحالة الفارسي ناصر خسرو أن أبا العلاء نظم مائة ألف بيت من الشعر وذلك سنة 438هـ قبل موته بإحدى عشرة سنة. وعد ياقوت من مصنفاته اثنين وسبعين مصنفًا. وبقي من شعره ثلاثة دواوين: سقط الزند، والدرعيات، وهو ديوان صغير طبع ملحقًا بالسقط، واللزوميات.
ومن أشهر مؤلفاته النثرية رسالة الغفران التي أملاها ردًا على رسالة الأديب الحلبي علي بن منصور بن القارح، وكانت أكثر كتبه يؤلفها ردًا على طلب طالب وكان بعض الأمراء يسألونه أن يصنف لهم. ومن ذلك:
كتاب تضمين الرأي، وهو عظات وعبر وحث على تقوى الله يُختم كل فصل منها بآية؛ وتاج الحرة، وهو خاص بوعظ النساء ومقداره أربعمائة كراسة، كما يقول ابن العديم؛ سجع الحمائم، في العظة والحث على الزهد أيضًا؛ اللامع العزيزي، في تفسير شعر المتنبي؛ جامع الأوزان في العروض والقوافي؛ الصاهل والشاحج، ولسان الصاهل والشاحج والقائف، وهذه الثلاثة ألفها للأمير عزيز الدولة شجاع بن فاتك والي حلب من قبل المصريين؛ الفصول والغايات؛ شرف السيف؛ معجز أحمد، في شرح شعر المتنبي؛ ذكرى حبيب في شعر أبي تمام؛ عبث الوليد، في شرح شعر البحتري؛ رسالة الملائكة، وغيرها كثير. لكن آخر ما أملى من الكتب كتابا المختصر الفتحي وعون الجُمل، ألفهما لابن كاتبه الشيخ أبي الحسن علي بن عبدالله بن أبي هاشم. وكان المعري شديد الاهتمام بكتبه وعلمه وأدبه يجمعها ويفسرها ويدافع عنها. شرح ديوانه سقط الزند بكتاب ضوء السقط، كما شرح اللزوميات بكتابين ودافع عنها بثالث. وشرح الفصول والغايات بكتابين، وشرح الرسائل بكتاب سماه خادم الرسائل. وهذا الجهد ـ فضلاً عن عنايته بها ـ يدل على غزارة علمه وثقته بنفسه، كما يدل على خوفه من التأويل والكذب عليه. وتدل أسماء كتبه على ذوق رفيع.
نثر المعري. بقي من نثره رسالة الغفران ورسالة الملائكة، وهي صغيرة، وأجزاء من الفصول والغايات وطائفة من الرسائل كان يوجهها إلى أصدقائه. ويمتاز نثره بالغريب وكثرة الغموض واللجوء إلى السجع مثل أهل عصره. وقد طرق في نثره موضوعات مختلفة مثل المدح والعزاء والوصف.
رسالة الغفران. كتبها المعري ردًا على رسالة بعث بها إليه ابن القارح، وهو صديق له من حلب عنوانها في تقبل الشرع وذم من ترك الوقوف عنده، وهي رسالة طويلة ـ أي رسالة الغفران ـ وفيها يمازح المعري صديقه ويعبث به ويشير من طرف خفي إلى أنه كان مشككًا غير قوي الإيمان. وفيها يطوف ابن القارح في الجنة وتظهر فيها مقدرة المعري اللغوية كما تبدو فيها مقدرته على السخرية والنقد. انظر: رسالة الغفران.
الفصول والغايات. صورة أخرى للزوميات، فقد أورد فيه كثيرًا من الآراء التي أوردها هناك، وألفه المعري تقربًا إلى الله وتمجيدًا وتسبيحًا له قال: "علم ربنا ما علم.. أني ألفت الكلم، آمل رضاه المسلم وأتقي سخطه المؤلم"، وقد التزم أن يختم كل فصل بكلمة يلتزم آخرها في جملة من الفصول، ثم رتب هذه الكلمات على حروف المعجم كلها فيلتزم الهمزة في بعض الغايات ثم الباء إلى آخر الحروف. وتكون الغاية ساكنة قبلها ألف، وأحيانًا يلتزم حرفًا قبل الألف، ويلتزم السجع أحيانًا ويضيف إليه قيدًا آخر بحيث يلتزم حرفين أو أكثر على نحو ما فعل في اللزوميات، وقد يضيف إلى السجع التزامًا آخر فيجري السجع على حروف المعجم. وتطول الفصول وتقصر بلا ضابط معين، وتكون مستقلة أحيانًا ومرتبطة ببعضها أحيانًا أخرى.
وكان الشائع المشهور أنه ألف هذه الفصول متأثرًا ببلاغة القرآن الذي هو المثل الأعلى للبلاغة والبيان، وما وجد أديب وشاعر إلا فتن بأسلوب القرآن.
شعر المعري
مكانته الشعرية ورأي النقاد فيه كان القدماء، إلا أقلهم، يعترفون بشاعرية المعري، ويعرفون تقدمه، وينشد الناس أشعاره ويتظرف بها الظرفاء. أما المحدثون فمنهم من جعل المعري فيلسوفًا وجرده من الشعر، وعده آخرون شاعرًا مجردًا من الفلسفة، وجمع له فريق ثالث بين الحسنيين.
فبينما يرى بعضهم فيه شاعرًا فيلسوفًا حقًا لم يعهد المسلمون في قديمهم وحديثهم فيلسوفًا مثله؛ يرى آخرون أن ليس له مذهب فلسفي، بل له اتجاهات تخل بالمنهج الفلسفي إخلالاً واضحًا، فهو رجل وجدان، دقيق الحس، عميق الإدراك، صادق التعبير، جريء التعرض للمعاني والخواطر. بينما جعله فريق ثالث مع سقراط والقديس أوغسطين والغزالي وتوما الأكويني وشوبنهاور في طبقة واحدة، فضلاً عن من عده فيلسوفًا له نظراته في الفلسفة أو مجددًا لأصول الفلسفة أو هو الفيلسوف الأكبر.
ولكن أكثر النقاد يرونه شاعرًا إنسانيًا متأملاً في المحل الأرفع بين شعراء العربية، له مقام فريد لامن حيث أسلوبه وفنه فحسب، ولكن من حيث روحه ونظرته إلى الحياة والأحياء من حوله.
كما أدلى المستشرقون بدلوهم في هذا الشأن، فعدوه شاعرًا عالميًا سبق زمانه بآرائه العقلية والأخلاقية والسياسية والدينية.
دواوينه. بقي من شعر المعري ثلاثة دواوين: سقط الزند والدرعيات واللزوميات.
سقط الزند. يضم أكثر شعر صباه وشيئًا من شعر الكهولة. وقد رتبه أبو العلاء ووضع له مقدمة. ويظهر في شعر صباه المبالغة والتكلف والمحاكاة. وكلما تقدم به العمر اكتسب شعره صفات تجعله متفردًا. فتبدو فيه ظاهرة استعمال الاصطلاحات والإشارات العلمية، كما في قصيدة توديع بغداد. أما الشعر الذي نظمه في كهولته ففيه نضج في الفكر وإتقان للمعاني وبعد عن الضرورات والمبالغات. ويلجأ فيه للقوافي الصعبة ويطيل فيها مثل الطائية التي بعث بها إلى خازن دار العلم ببغداد. وفي هذا الديوان تأثر واضح بالمتنبي، وكان به مغرمًا ولأشعاره دارسًا، وبينهما صفات مشتركة أهمها التفوق والنبوغ والشعور بالامتياز والطموح والشعور بفساد الحياة والأحياء في عصريهما. ويأتي تباينهما من اختلاف طباع كليهما وظروفه. فبينما آثر المتنبي الحرب والثورة وسيلة للإصلاح آثر المعري النقد السلبي والاعتزال وتصوير القبائح والسخرية منها، وهذا الذي جعل له التفرد والأصالة. ويحوي ديوانه أغراضًا مختلفة كثيرة من أهمها:
المدح. لم يمدح أبو العلاء أميرًا طلبًا لنواله، وقد سطر في مقدمة هذا الديوان: "ولم أطرق مسامع الرؤساء بالنشيد، ولا مدحت طلبًا للثواب، وإنما كان بغرض الرياضة وامتحان القريحة" وسلوك الطريق التي سلكها الشعراء قبله، وإن كان له مدائح نظمها في أناس من أصحابه، أو أجاب بها نفرًا من الشعراء أرسلوا إليه قصائد. ولهذا السبب جاء مدحه مختلفًا عن مدائح من سبقوه. فليس هو محتاجًا لأن يتزلف الممدوح أو يسبغ عليه صفات مبالغة. ومن هذا النوع النونية التي بعث بها إلى الشريف أبي إبراهيم العلوي، وكان قد بعث إليه بقصيدة:
غير مستحسن وصال الغواني بعد سبعـين حجـة وثماني
يقول أبو العلاء:
علــلاني فإن بيــض الأمــاني فنيت، والظلام ليس بفان
الفخر. جعلت نفسية أبي العلاء الزاهدة وحياته المنعزلة التي عاشها للفخر حظًا ضئيلاً في صناعته الشعرية، فلم تظهر فيه الأنا المتضخمة، ولم يبتل بالحساد لأنه ترك للناس ما يمكن أن يزاحموه عليه من حطام الدنيا، ووجدنا له قليلاً من الفخر في صباه يعبر عن عنفوان هذه المرحلة من العمر وجنوحها. ومن أشهر ما قاله في الفخر قصيدته:
ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل عفاف وإقدام وحـزم ونائل
وفيها البيت المشهور:
وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل
وهذه القصيدة علامة من علامات المتنبي حتى يكاد القارئ يظن أنها ضلت طريقها من ديوان أبي الطيب إلى سقط الزند. ثم إن المعري ترك الفخر في آخر عمره.
الوصف. يحاول المعري وصف الأشياء المحسوسة، ويزين لفظه حتى يعوض ما يحس به من نقص تجاه وصف المبصرين، ولعله كان يعمد إلى الوصف الحسي ليثبت أنه لا يقل قدرة عن المبصرين في الوصف. ومن جميل شعره في الوصف قوله:
رب ليل كأنه الصبح في الحسن وإن كان أســود الطيلســان
ليلــتي هــذه عـروس مــن الزنج عليهـــا قلائــد مـن جمــان
هـرب النــوم من جفــوني فيهــا هرب الأمن عن فؤاد الجبان
وكأن الهــلال يهــــوى الثريــــا فهمـــا للـــوداع معتنقــــان
وسهيل كوجنة الحب في اللــون وقلب المحــب في الخفقــان
الغزل. في ديوانه مقطوعات غزلية رقيقة. ولم ينقل المؤرخون عنه أنه أحب فتاة بعينها في صباه، ويراه بعضهم ضريرًا زاهدًا محزونًا لا سبيل للحب إلى قلبه، ويرتفع شعره القليل في الغزل عن أن يكون رياضة كما قال في المديح أو محاولة لإكمال الديوان بالموضوعات التي استنها الأوائل ففي بعضه لوعة حقيقية، وغناء واله مشوق:
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر لعل بالجزع أعوانًا على السهر
وإن بخلت عن الأحياء كلهم فاسق المواطر حيًا من بني مطر
ويا أسيرة حجليها أرى سفهًا حمل الحلي لمن أعيا عن النظر
ما سرت إلا وطيف منك يتبعني سرى أمامي وتأويبًا على أثري
الرثاء. رثى أبو العلاء أباه وأمه وطائفة من الناس، وفي ديوانه سبع مراث، وفي أغلبها حزن وتفجع لأنها أحزان شخصية وليست تعزية. وأجود ماله في الرثاء الدالية التي أبَّن بها أبا حمزة الفقيه الحنفي، يقول عنها طه حسين: "نعتقد أن العرب لم ينظموا في جاهليتهم وإسلامهم ولا في بداوتهم وحضارتهم قصيدة تبلغ مبلغ هذه القصيدة في حسن الرثاء" ومنها:
غير مجد في ملتي واعتقادي نـوح بــــاك ولا ترنم شـــــــــاد
وشبيه صوت النعي إذا قيـس بصـــوت البشــير في كل نـــاد
أبكت تلكم الحمامة أم غنت على فـــــرع غصنـهــا الميـــــاد
إن حزنًــا في ساعــة المــوت أضعاف سرور في ساعة الميــلاد
الهجاء. لم ينظم المعري في هذا الغرض من أغراض الشعر بمعناه التقليدي المعروف، بمعنى أن يتجه الشاعر إلى شخص، فيثلبه ويذمه. فليس للمعري عدو ليفعل به هذا. ولكنه تتبع عيوب البشر عامة ونقائصهم فأظهرها في لهجة قاسية متجنبًا الفحش والإقذاع، وليس غرضه الإساءة والتشهير، بل الرحمة والإصلاح. ولا نجد هذا الموضوع في سقط الزند بل في اللزوميات، ويعده النقاد ضربًا من ضروب السخرية، وإن كان القدماء عدوه هجاء. وقد انتقد المعري ظواهر متعددة في مجتمعه، منها الادّعاء باسم الدين والرياء، وخص بنقده الواعظ المنافق:
يحرم فيكم الصهباء صرفًا ويشربها على عمد مساء
إذا فعل الفتى ما عنه ينهى فمن جهتين لا جهة أساء
الدرعيات. قصائد وصف بها الدرع، طبعت ملحقة بسقط الزند. والغريب أن المعري يصف فيها شيئًا من عدة الحرب وهي الدروع مع أنه لم يخض غمار معركة ولا استعد لها. وقد افتن في وصفها، فمرة يصفها على لسان رجل أسَنَّ فترك لبسها، أو على لسان رجل رهنها، وجعل وصفها مرة محاورة بين درع وسيف، ووصفها على لسان رجل يبيع درعًا أو رجل خانه آخر في درع أو على لسان امرأة توصي ابنها بلبس الدرع والانشغال بها عن الزواج. والدرعيات موضوع جديد في الشعر العربي يدل على براعة وأصالة. ويجعلها النقاد مقابلة للطرديات (شعر الصيد) عند الشعراء الآخرين، كما يراها آخرون محاولة من المعري لتحقيق قوله:
وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل
ومن أشهر هذه الدرعيات:
عليــك السابغــات فإنهـــنه يدافعن الصوارم والأسنــه
ومن شهد الوغى وعليه درع تلقاها بنفـــس مطمئـنــه
اللزوميات. سميت كذلك لأنه التزم فيها حرفًا قبل حرف الرَّوِيِّ. وإذا تأملناها وجدنا فيها مشابهة من سجونه التي اختارها. فإن القافية والتزام رويها سجن للشاعر فلم يرض المعري حتى يجعل لنفسه سجنًا آخر هو الحرف الذي التزمه.
لم يكن المعري أول من ابتكر هذا الفن، فلكثير عزة تائية التزم فيها اللام قبل التاء ومطلعها:
خليلي هذا ربع عزة فاعقلا قلوصيكما ثم ابكيا حيث حلّتِ
ولغيره مقطوعات قليلة فيها هذا الالتزام، ولكن الجديد في صنع المعري أنه نظم ديوانًا كاملاً على هذا النمط حاويًا جميع حروف المعجم فجاء عملاً يحمل بصماته مقترنًا باسمه، وظل ديوانه هذا نسيج وحده، ولم يستطع شاعر أن يحذو حذوه إلا في المقطوعات المحدودة. وقد قدم له المعري قائلاً: "وقد تكلفت في هذا التأليف ثلاث كلف: الأولى أن ينتظم حروف المعجم عن آخرها، والثانية أن يجيء رويه بالحركات الثلاث وبالسكون، والثالثة أنه لُزم مع كل روي فيه شيء لا يلزم". وفوق هذا لم يضعه قصدًا للبراعة اللفظية والمقدرة اللغوية فحسب، وإنما قصد به إلى معان فلسفية، كذلك جاء من أحد عشر ألف بيت في مائة وثلاثة عشر فصلاً. وقد جاء الديوان مثقلاً بالغريب واستعمال المصطلحات، وجاءت القيود المتراكمة هذه على حساب الوحدة المعنوية في المقطوعات أحيانًا إذ يركز فيها على وحدة القوافي.
ويرى بعض النقاد أن المقطوعة أو القصيدة في اللزوميات تطول وتقصُر تبعًا لصعوبة القافية وسهولتها، فقد تساعده القافية السهلة فيمتد نفسه الشعري، فيكثر من الأبيات وإن استوفى المعنى المراد، وقد ينقطع نفسه عند البيتين والأبيات القليلة، وإن كان في المعنى متسع لأن القافية تضطره إلى ذلك. ومثال واحد من الديوان يكفي للرد على هذا القول وهو اللزومية:
نوائب، إن جلت، تجلت سريعة وإما توالت في الزمان تولت
وهي خمسة أبيات، وكان يمكن أن تطول جدًا، إذ قافيتها سهلة. ومن أمثلة إثقال الأبيات بالعلوم والمصطلحات قوله:
مالي غدوت كقاف رؤبة قيدت في الدهر لم يطلق لها إجراؤها
أعللــت علــة قــال وهي قديمـة أعيا الأطبــة كلهـــم إبراؤهـــا
ويقول:
فصحيحة الأوزان زادتها القوى حرفا فبان لسامع نكراؤها
ويقول:
ووجــدت دنيـانــا تشابـه طامثا لا تستقيم لناكح أقراؤها
أثر علمه وثقافته في شعره
يعد عصر المعري عصرًا ذهبيًا في نضج العلوم وانتشارها على اختلاف مشاربها، فالعلوم الشرعية وعلوم القرآن من تفسير وقراءات وإعجاز، وعلوم الأدب والنقد ثم الفلسفات المنقولة كانت قد استوت على سوقها، وكان للمعري مشاركات جادة فيها، وهو مع هذا يتواضع ويضع من شخصه وعلمه:
ماذا تريدون لا مال تيسر لي فيستماح ولا علم فيقتـبس
أتسألون جهـولاً أن يفيـدكم وتحلبون سفيًا ضرعها يبس
علم اللغة. كان علمه باللغة والنحو والأدب هو الغاية القصوى حتى قيل إن المعري بالمشرق وابن سيده بالمغرب ليس لهما في زمانهما ثالث في اللغة. وذكر التبريزي أنه لا يعرف كلمة نطقت بها العرب ولم يعرفها أبو العلاء. وكان المعري حريصًا على إظهار علمه باللغة يرصع شعره ونثره بالغريب النادر، ويدل على باهر علمه باللغة وحذقه لها تحويله لقافيتي بيتي النمر بن تولب وقد عرض لهما في رسالة الغفران:
ألم بصحـبتي وهم هجـوع خيــال طارق من أم حصــن
لها ما تشتهي عسلاً مصفى متى شاءت وحُوَّارَى بسمن
ويستطرد إلى حكاية وقعت بين خلف الأحمر وأصحابه، فإنه سألهم لو أنه وضع أم حفص موضع أم حصن ماكنتم تقولون في البيت الثاني؟ فسكتوا، فقال خلف: وحُوَّارى بلمص واللمص الفالوذ. فذكر خلفٌ تغييرًا واحدًا وعجز أصحابه عنه. فيأتي أبو العلاء ويظهر مقدرته اللغوية. ويفرع على هذه الحكاية مغيرًا حرف الروي على كل حروف المعجم ويشرح الألفاظ الغريبة التي جاء بها. وكان مع الشرح يشير إلى الخلافات اللغوية، ويورد الشواهد ويفرق بين الاستعمال الحقيقي والمجازي. ومن وسائله في الإفصاح عن التمكن اللغوي إتيانه باللفظ ثم يفسره أو ينفي عن سامعه ما قد يتبادر إلى ذهنه من معناه مثبتًا معنى آخر:
نوديتُ ألويتَ فانزلْ لا يرادُ أتى لوى الرملِ بل للنيتِ إلواءُ
ويكثر عنده لذلك الجناس والتورية والطباق والاستعارة، ولها صلة قوية بالتفنن اللغوي. ومن أمثلة ذلك في التشبيه:
سبحان من برأ النجوم كأنها درٌّ طفا من فوق بحر مائج
وفي الاستعارة:
ركبنا على الأعمار والدهر لجة فما صبرت للموج تلك السفائن
وفي الكناية:
ولو وطئت في سيرها جفن نائم بأخفافها لم ينتبه من منامه
وفي الجناس:
وفوائد الأسفار في الدنيا تفوق فوائد الأسفار
والأسفار الأولى جمع سَفَر وهو الرحيل، أما الأسفار الثانية فجمع سِفْر وهو الكتاب.
وفي التورية:
وحرف كنون تحت راء ولم يكن بدال يؤم الرسم غيره النقط
وفي الطباق:
غير مجد في ملتي واعتقادي نوح باك ولا ترنم شاد
ومن أبرع ما وجد عنده، استغلاله المعارف النحوية واللغوية للتعبير عن الآراء الفلسفية والملاحظات المتفكرة في الحياة والأحياء:
والمرء كان، ومثل كان وجدته حَالَيْه في الإلغاء والإعمال
والبــاء مثــل البـــاء يخفــض للدنــاءة أو يجـر
يقصد بالباء الأولى الجماع. كما يستخدم أيضًا مصطلحات البلاغة:
تجانست البرايـا في معــان ولم يجلب مودتها الجناس
العروض والقافية. وللمعري معرفة بالعروض نادرة، وقد ألف كتابًا فصل فيه ضروب الشعر وقوافيه ومثل لها من نظمه. ويدل على اهتمامه بذلك نثره المعلومات العروضية في كل تآليفه. ونجد في شعره لفتات عروضية مثل:
وإن الطويل نجيب القريض أخوه المديد ولم ينجب
أو:
وقد يخطئ الرأي امرؤ وهو حازم كما اختل في وزن القريض عبيد
أو:
وأكرمني على عيبي رجال كما رُوي القريض على الزحاف
التاريخ والقصص. ولعل المعري هو أول من اهتم بالأساطير وفلسفها لتدل على ما يريد الإفصاح عنه من آراء. وقد أشار إلى معارفه التاريخية بقوله:
ما مر في هذه الدنيا بنو زمن إلا وعندي من أخبارهم طرف
وقد اهتم بالقصص الديني وغير الديني كقوله:
مثلما فاتت الصلاة سليمان فأنحى على رقاب الجياد
أو قوله:
ومن لصخر بن عمرو أن قصته صخر وخنساءه في السرب خنساء
وهو معنى عميق يجعل فيه صخر بن عمرو في قصة الخنساء المشهورة رمزًا للجسد ابن الدهر، والخنساء رمزًا للنفس شقيقة الجسد ترتاع لفراقه وتتحسر عليه.
فلسفة المعـري
تأثر المعري بمختلف الفلسفات التي سادت في عصره وأضاف إليها تجربته الشخصية وآراءه التي استقاها واختارها لنفسه. وأكثر آرائه الفلسفية حوتها اللزوميات. وكان يرى قدم المادة الكونية والزمان، وهذا أثر من أثار أرسطو، كما كان يرى خلودها وبقاءها:
نرد إلى الأصول وكــل حي له في الأربع القُدُم انتساب
ولكنه لا يثبت على هذا الرأي فيعبر في مواضع أخرى عن فناء المادة الكونية وحدوثها:
وليس اعتقادي خلود النجوم ولا مذهبي قدم العالم
ويؤمن بتناهي الأبعاد وهذا متصل بقدم العالم:
ولو طار جبريل بقية عمره من الدهر ما استطاع الخروج من الدهر
رأيه في الأديان. آمن المعري بالله إيمانًا فطريًا وعقليًا يجعله لا يرتاب في وجود الخالق:
أثبــت لي خالقًـــا حكيمًــا ولست من معشر نُفَاة
بل إن صلته بربه قوية وأعز عنده من الدر والياقوت:
وشاهدٌ خالقي أن الصلاة له أجل عنديَ من دري وياقوتي
والإيمان العقلي من آثار المعتزلة، ولما كان العقل المجرد قاصرًا عن النفاذ إلى جوهر الدين وليس كل شيء يدرك به، جاء اضطرابه في مسألة النبوات، والبعث بعد الموت الذي يبدو ـ من اللزوميات ـ إنكاره له أو اضطرابه فيه:
إن الشرائع ألقت بيننا إحنًا وأورثتنا أفانين العداوات
وينكر أمورًا غيبية كإنكار الجن والملائكة:
قد عشت عمرًا طويلاً ما علمت به حسًا يحــس لجــني ولا ملـــك
رأيه في الجبر والاختيار. يبدو المعري مؤمنًا بالجبر إيمانًا قويًا غالبًا عليه:
ما باختياري ميلادي ولا هرمي ولا حياتي فهل لي بعد تخيير
وفي مواضع أخرى يثبت عكس هذا:
تعالى الذي صاغ النجوم بقدرة عن القول أضحى فاعل السوء مجبرًا
ويبدو أنه انتهى إلى أن لا جبر مطلق ولا اختيار مطلق، بل المرء متأرجح بينهما، فالعبد هو الذي يسعى ويطلب الأسباب باختياره ليصل إلى ما قدر الله مثل الذي يأخذ النار بيده فتحترق. فله حرية الأخذ أو الترك ويستلزم الأخذ جبرية الاحتراق:
إذا قضى الله أمرًا جاء مبتدرًا وكل ما أنت لاقيه بتسبيب
رأيه في الدنيا. أكثر آراء المعري صراحة هي تلك التي قالها في الدنيا، وكان يكنيها أم دفر وهو من أكثر من ذمها وكرهها، وبسبب ذلك كره الوجود وآثر العدم. وتمنى لو أنه لم يولد بل ويتمنى الموت لكل وليد لأنه سيقاسي الشرور:
فليت وليدًا مات ساعة وضعه ولم يرتضع من أمه النفساء
ومن ثم كره الزواج ولم يتزوج.
ومن آرائه الاجتماعية أنه كان يبغض انقسام الناس إلى أغنياء وفقراء، ولذلك حث على أداء الزكاة وحمدها:
وقد رفق الذي أوصى أناسًا بعشر في الزكاة ونصف عشر
ونادى بالمساواة:
لا يفخـــرن الهاشـــمي على امرئ من آل بربر
فلسفة الزهد. وكان فيها متأثرًا بأبيقور حين يقرر أن زهده كان زهد اضطرار لا زهد اختيار:
وقال الفارسون حليف زهد وأخطأت الظنون بما فرسنه
ولم أعرض عن اللـذات إلا لأن خيــارها عني خَنَسْــنَهّْ
فهو زاهد لأنه عجز عن تحقيق آماله، وقد راض هذه الآمال فامتنعت عليه فطلقها وهو ساخط لأنه عجز، وقد كان صريحًا في ا