الذهن
طبيعة الذهن
العلاقة الجسمانية والذهنية
________________________________________
الذِّهْنُ تعددت آراء علماء النفس والتحليل النفسي حول طبيعته. ولا يزال الجدل مستمرًا بينهم حتى يومنا هذا.
رأت النظريات المبكرة عن الذهن أن الإنسان مكون من جوهرين مختلفين: الذهن والمادة. المادة هي ما يمكن أن نراه ونلمسه ويشغل حيزًا وله وزن. أما الذهن فهو جوهر موجود في الشخص، لكنه لا يحتل حيزًا، ولا يمكن وزنه أو رؤيته أو لمسه. قسم العلماء الذهن إلى عدة ملكات كالإرادة والمنطق والذاكرة. وظن بعض الناس أن الذهن، شأنه شأن العضلات، يمكن أن تتم تنميته من خلال التمرين. ووسيلة تقويته تكليف هذه الملكات بالأعمال.
أما علماء النفس والفلاسفة الذين شككوا في صحة فكرة الذهن الجوهر فقد طرحوا الرأي القائل بأن الذهن هو حصيلة حالات الشخص الواعي كلها. ومعنى ذلك أن الذهن هو مجرد كتلة من الأفكار والذكريات والمشاعر والعواطف. فالذهن الواعي للشخص لا يحتوي في اللحظة المحددة إلا على قدر قليل من الأشياء التي يكون المرء منتبهًا إليها. في الوقت ذاته، تكون هناك أشياء أخرى يعيها المرء دون أن يفكر فيها، بنفس الطريقة التي نرى بها الأشياء في ركن العين، أو في هامش البصر. وتوجد دون هذا المستوى من الوعي كتلة مؤلفة من كل الحالات الواعية التي يمر بها الإنسان منذ مولده. وكلما وجدت فكرة أو انطباع جديدان طريقهما إلى وعي الإنسان، يُفترض أن تصعد كل الانطباعات السابقة المشابهة لهما أو المتصلة بهما إلى مستوى الوعي للترحيب بالقادم الجديد. وبهذه الطريقة يستمر الذهن في النمو وإعادة ترتيب ذاته.
طبيعة الذهن. في القرن التاسع عشر، بدأ علماء النفس في اختبار بعض هذه الأفكار عن طبيعة الذهن. فكرس أحدهم نفسه مثلاً لمهمة حفظ المقاطع غير ذات المعنى عبر فترة من الزمن، ليرى كم سيستغرق عند كل محاولة. واستخلص من ذلك أن الشخص يمكن أن يستمر في الحفظ دون أن يحسِّن من ذاكرته بأي شكل من الأشكال. كما بدأ آخرون يسألون لماذا تؤدي المخدرات أو الأمراض أو الخبطات على الرأس إلى كل ذلك الاضطراب في ذهن الإنسان، مع أن الذهن والمادة شيئان منفصلان؟! وتساءلوا أيضًا لماذا ينتاب الذهن شيء من العجز ببلوغ أرذل العُمر؟.
وذهب بعض هؤلاء العلماء إلى أنه قد يمكن تفسير الأفعال الجسمية، دون استخدام أفكار مثل الذهن أو الوعي على الإطلاق. وفي رأيهم أن الحركة الجسمانية الفعلية للمخ والجهاز العصبي المركزي يمكن أن تفسر كل الأحداث التي نعتبرها ذهنية إذا ما عرفنا عنها الشيء الكافي. وطبقًا لهذا الرأي، فإن الشخص الذي تحدث عن الذهن أو الذهن الواعي كان مجرد حيوان تسيِّره تجاربه وعاداته، إنسان كوَّن بعض التداعيات في جهازه العصبي لإصدار أصوات معينة في مناسبات معينة.
لقيت هذه النظرية، التي تعرف أحيانًا باسم السلوكية المفرطة، استحسانًا لدى علماء النفس، ولكن سرعان ما تبينت محدوديتها، وجرى عليها شيء من التطوير.
وظهر رأي آخر يدَّعي أن الذهن، شأنه شأن المادة، هو مجرد شيء يحدث وأنه ليس شيئًا مستقلاً يمكن التعرف عليه. الكل يعرف مثلاً أن الماء رطب، رغم أن ذرات الهيدروجين والأكسجين وشحنات الطاقة التي تؤلفهما ليست رطبة. فيمكننا القول إن الرطوبة خاصية تتولد حين تتجمع شحنات الطاقة المنتظمة في شكل ذرات أكسجين وهيدروجين لتنتج الماء. وإذا حللنا الماء إلى أجزاء، فإن رطوبته تزول مثلما يزول الماء ذاته.
وبنفس هذه الطريقة، فإن الذهن خاصية تتولد حين يحتك الناس بالعالم من حولهم. وطبقًا لهذه النظرية فإن الذهن، شأنه شأن الرطوبة، شيء يظهر أو يتولد حين تصل المكونات العضوية إلى مستوى معين من التراكب أثناء تطورها.
تقول نظرية ثالثة إن الذهن هو قاعدة المشاعر والفكر والإرادة ومصدرها أيضًا. وتتميز هذه القاعدة عن الأفكار التي تتولد عنها. فالذهن هو المصدر الأولي للأحاسيس والصور والمشاعر والأفكار، والأفكار هي النشاطات الذهنية. أما الروح فهو مفهوم أرحب بكثير، فهي مصدر كل النشاطات الذهنية وغيرها من نشاطات الحياة، كالتنفس والمشي.
العلاقة الجسمانية والذهنية. يعتقد كثير من الناس أن من المستحيل الفصل بين الذهن والجسد. يستطيع الذهن أن يحرك الجسد، مثلما يحدث حين يقرر الناس شد عضلاتهم مثلاً. ولكل رد فعل إنساني تقريبًا جوانبه الجسمانية والذهنية. ولهذا يبتسم الناس فرحًا، ويكشرون غضبًا، أو يرتعدون خوفًا. ويقول الأطباء إن الحالة الذهنية تستطيع فعلاً أن تسبب أمراض القلب والقرحة واضطرابات الكُلَى وغيرها من العلات.
يؤثر الجسد بدوره في الذهن. فيستطيع الناس مثلاً أن يلحظوا الاختلافات في حالاتهم الذهنية عند الجوع والشبع، أو البرد والدفء، أو المرض والعافية، ومن المعروف أيضًا أن غددًا معينة تحدث تأثيرًا عميقًا على العواطف والحالات النفسية والسلوك. انظر: السلوك.
وعن التأثير المتبادل بين الذهن والجسد قال البعض بنبذ الذهن، في حين نبذ آخرون المادة. والأقرب إلى الفطرة السليمة أن الذهن والمادة موجودان وأن بينهما تفاعلاً متبادلاً. وترى نظرية التفاعل المتبادل أن كل إنسان مؤلّف من جسد وذهن، غير أن الجسد والذهن لا يكتملان إلا باتحادهما في وحدة تسمى الشخص أو الذات. فالإنسان عبارة عن جوهر أحادي مركب من مبدأين متميزين أحدهما عن الآخر. فالشخص وليس الذهن أو الجسد هو الذي يفكر ويتذكر.
تناول البحث السابق بعضًا من أسئلة ومشكلات عديدة تنطوي عليها طبيعة الذهن. ويبين البحث أن كمًّا من العمل الجاد لا يزال يبذل في هذا المضمار، لأنه ما من تفسير واحد لطبيعة الذهن يمكن أن يكون مقبولاً لدى كل الجهات المعنية.
اخوتي في الله لا تنسوني بالدعاء
التوقيع: بلمهدي محمود