الإمام علي بن أبي طالب بين حقوق الإنسان وواجباته
السيد محمد تقي الحكيم
بسم الله الرحمن الرحيم
تحدث الاخلاقيون المحدثون عن الجوانب العملية من الأخلاق فقسموها إلى قسمين: دعوا الأول منها بالحقوق، والآخر بالواجبات، واعتبروا القيمة الخلقية التي يتفاوت بها الناس هي مدى إيمان الفرد والتزامه بالحدود المفروضة بحكمها له أو عليه.
وعرّفوا الحق: بما استحقه الإنسان على نفسه أو مجتمعه، وكان له أعماله أو المطالبة به، والواجب عليه تأديته لنفسه أو لخالقه أو لمجتمعه.
وقد قابلوا بين الحق والواجب فقالوا: ما من حق إلا ومعه واجب، بل واجبان، واجب على الفرد وآخر على مجتمعه.
أما واجبه فأن يقصر استعماله على ما لا يستوجب الإضرار بالغير، وأما واجب مجتمعه فأن يحترم له هذا الحق، ويصونه له ما دام لا يتنافى مع مصلحته العامة.
وقد جاء في نهج الإمام ما يشير إلى هذا التقابل بين الحقوق والواجبات حيث يقول: (... فالحق أوسع الأشياء في التواصف، واضيقها في التناصف، لا يجري لأحد إلا جرى عليه، ولا يجري عليه إلا جرى له، ولو كان لأحد أن يجري له ولا يجري عليه لكان ذلك خالصا لله سبحانه دون خلقه، لقدرته على عباده، ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه، ولكنه سبحانه جعل حقه على العباد أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب تفضلا منه، وتوسعا بما هو من المزيد من أهله...
ثم قال: (... ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض، فجعلها تتكافأ في وجوهها، ويوجب بعضها بعضا، ولا يستوجب بعضها إلا ببعض...).
فالإمام هنا يقابل بين الحق والواجب بمحتواهما السابقين ويقول: لو كان هناك حق من دون واجب لاستأثر به الله، ولكنه - جلت قدرته - أبى إلا أن يجعل في مقابل ما أوجبه على عباده من حقوقه حقا لهم عليه، ثم اعتبر حقوق الناس بعضهم على بعض بما يقابلها من واجبات من صميم التشريع، فنسبها إلى الله تعالى بقوله: (ثم جعل سبحانه من حقوقه حقوقا لبعض الناس على بعض...).
وما دمنا في مجال المقارنة بين الحقوق الموضوعة للإنسان وما يقابلها لدى الإمام، فلنأخذ هذه الحقوق في أواخر مراحلها التطورية، ولنعتمد ما جاء في وثيقة حقوق الإنسان، كما شرعتها الهيئة الدولية، وأقرتها - قبل سنوات - بعد مناقشات واسعة، فهي آخر ما وصلت إليه هذه الحقوق من تكثّر وسمو.
ولقد رجعت إلى هذه الوثيقة واستقصيت ما جاء فيها من حقوق وواجبات، فرأيتها تعود في مهماتها إلى ستة حقوق هي:
حق الحياة
حق الحرية
حق التملك
حق التعليم
حق الاشتراك في إدارة الدولة
حق العدالة
حق الحياة
وهذا الحق - وهو حق أن يحيا الإنسان ما دامت فيه قابلية للحياة - مكفول في الشريعة الإسلامية على ارفع صوره.
وإذا تم ما قالوه في تحديد الحق، وقلنا بمقتضاه: إن لصاحبه أن يتمتع به، أو يتخلى عنه، حسب اختياره، فان الإسلام لا يعتبره حقا، بل يعتبره من قبيل الواجبات، فهو لا يسيغ لصاحبه أن يعمد إلى إزالة حياته بيده بصريح قوله تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) (سورة البقرة: 195).
كما لا يسيغ للمجتمع أو الدولة ذلك، اللهم إلا في حالات يستثنيها الإسلام، كتعدي صاحبها على الآخرين بإزهاق حياتهم (ولكم في القصاص حياة) (سورة البقرة: 179).
أو توقف حياة المجموعة التي ينتمي إليها، أو المثل التي يدين بها على ذلك.
وبهذا شرع الجهاد والدفاع عن العقيدة والمبادئ والوطن.
أما الإجراءات التعسفية التي يقوم بها بعض الحاكمين لتركيز سلطانهم في الحكم، فالإسلام يأباها أشد الإباء، وكلام الإمام في ذلك صريح، يقول في كتابه إلى أحد عماله: (فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام، فان ذلك مما يضعفه ويوهنه، بل يزيله وينقله. ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد...).
حق الحرية :
والحرية - ومن حقها أن نعطيها أهمية في البحث، ونطيل فيها الحديث; لملامستها لعواطف الجمهور; ولأنها من المفاهيم التي أسيء استعمالها في عصورنا المحدثة - هذه الحرية كانت من اعظم ما آمن به الإمام وكفله.
تقول وثيقة حقوق الإنسان: (إن جميع البشر مولودون أحرارا، ومتساوون في الكرامة والحقوق. وقد وهبوا العقل والضمير، وعليهم أن يعملوا تجاه بعضهم بعضا بروح الاخوة).
هذا النص مستل من لائحة حقوق الإنسان في آخر تشريعاتها، تأكيد على ناحيتين مهمتين ترتبطان بالحرية حقا وواجبا.
أولهما: أنها تولد مع الإنسان، ويولد معها التساوي في الكرامة.
ثانيهما: النص على ضرورة التعامل مع الناس بروح الاخوة كواجب لصيانة هذه الحرية وحفظها عن الفوضى بالتعدي على الآخرين.
وقد يكون من مفاخر الإنسان أن تجد هذين المضمونين مؤكدين بلسان إمام المسلمين علي في اكثر من موضع من نهجه الخالد فيقول: (ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرا).
والجعل هنا بمعنى الخلق فهو يقول له: الحرية خلقت فيك منذ خلقك الله، وهي هبة الله فلا تبددها بالخضوع والعبودية لغيرك.
ويقول في وصيته لولده الإمام الحسن في التأكيد على الناحية الثانية: (يا بني اجعل نفسك ميزانا في ما بينك وبين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تُظلم، واحسن كما تحب أن يحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك...).
وهو مع اشتماله على جوهر ما ورد في النص السابق يفوقه بإلزام الشخص بمعاملة غيره معاملة النفس، وهي مرحلة أكد من مرحلة الاخوة واهم.
وقد وضع مخططات لذلك التعامل في قسم من مأثوراته كقوله (عاتب أخاك بالإحسان إليه، واردد شره بالإنعام عليه).
وقوله: (ازجر المسيء بثواب المحسن"، وهو لون من العتاب والرد والزجر يكاد ينفرد به الإمام وقد استوعب شعور الإمام بالحرية المطلقة جملة مشاعره، فكان حرا حتى في شعوره بالعبودية لخالقه، فهو لا يعبده إلا عبادة الأحرار، وذلك قوله في تقسيم العبادة، ثم اختياره منها لما يلتئم ونفسيته الحرة: (إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وان قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار).
وفي مناجاته: (الهي ما عبدتك شوقا إلى جنتك، ولا خوفا من نارك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك).
فهو يأبى على نفسه أن تتاجر في عبادتها، أو تخضع خضوع العبيد من خوف أو رهبة.، وإنما يريد لها أن لا تعبد إلا عبادة الأحرار، عبادة عرفان الجميل، وإعطاء كل ذي حق حقه، ومن حق الله أن يُعبد لأنه أهل للعبادة.
وما دمنا قد وضعنا لائحة حقوق الإنسان أمامنا فلنسايرها في تقسيمها أنواع الحرية، ونلتمس واقع الإمام في ضوء هذه التقسيمات كمثل يحقق مفهوم الحرية بأرفع صورها.
والحرية في هذه اللائحة ذات شُعب يخص بعضها حرية الدين والعقيدة، وبعضها حرية الرأي والتفكير، وثالثة حرية التعبير، ورابعة حرية التنقل واختيار البلد، وخامسة حرية العمل، ولكل من هذه الشُعب حديث في سلوك الإمام وسيرته وفي ما اثر عنه من بليغ القول.
أما حرية الدين والعقيدة فهي من أهم أسس الإسلام ومبادئه، وقد تغلغلت - كغيرها من مبادئه - في أعماق الإمام، وما جاء في دستور الإسلام الخالد صريح في ذلك. (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) (سورة البقرة: 256) وقد كان للإمام يد في نشر هذه المبادئ. وحرية التفكير وهي عملية داخلية طبيعية، ما ادري ما دفع مشرعي الوثيقة إلى ذكرها في الحقوق في مقابل حرية التعبير، مع إنها لا تحتاج إلى حماية خارجية بأمثال هذه اللائحة، وكان يمكن أن يكتفي بضمان الحرية للتعبير بمختلف ما له من الأساليب عن ذكرهما كحقين مستقلين.
وما يقال عن التفكير يقال عن الرأي، وعن الدين، في القسم النظري منه، ومهما يكن فماذا يراد من حرية التعبير عن ذلك كله؟ يراد بالطبع حرية إبراز الفكرة أو الرأي والعقيدة بمختلف أساليب الإبراز، سواء في المجتمعات العامة أم الخاصة، وافقت الحكم القائم أم صادمته.
وهذا الجانب منها ربما يكون من أهم جوانبها، أن لم تلتق جوانبها على اختلافها فيه.
وقد قدر للإمام أن يمارس هذه الحرية محكوماً وحاكماً، فكان في الحالين من ارفع الأمثلة لذلك بما ضرب من الأمثال العالية للشعور بما تدعو إليه من مسؤوليات، مارسها قبل الحكم، حين دعي إلى البيعة بعد رسول الله، وهو يؤمن بأن الخلافة حق من حقوقه، جعلها له رسول الله بمشهد من عامة المسلمين يوم (غدير خم); وذلك حين نزل عليه الوحي آمراً، ومحذراً، وعاصماً له من الناس بآية: (يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك فإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (سورة المائدة: 67).
فاستوقف النبي له جماهير المسلمين وخطبهم خطبته المعروفة ثم قال: (ألست أولى بكم من أنفسكم - وكأنه يشير إلى الحق المجعول له بآية: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (سورة الأحزاب: 6) - حتى إذا صدّقوا وأمنوا على كلامه، اصدر بلاغه العام في ذلك مدوياً: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وأعن من أعانه، واخذل من خذله، وانصر من نصره، واحب من احبه، وابغض من ابغضه).
ومن هذا الحق الصريح لم يجد بداً من إعلان معارضته للوضع القائم بالامتناع عن البيعة، واستعمال حقه في حرية المعارضة على أتمه.
وحين شاهد - وهو يشعر بمدى مسؤولية ما يقوم به - بعض الانتهازيين حاولوا الاستفادة من معارضته بإحداث ثورة داخلية لقلب نظام الحكم، وإعلانها حرباً على الإسلام نفسه، وان إصراره على استعمال حقه في المعارضة سيكون عوناً لهم على ذلك، أعلن تجميد هذا الحق، وسارع إلى البيعة لإحباط المؤامرة في مهدها، وهو بعد مصر على أن الحق له، فها هو يشرح لأهل الكوفة الأسباب التي دعته إلى البيعة مع ما عُرف به من المعارضة:
(فلما مضى تنازع المسلمون الأمر من بعده. فوالله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالي، أن العرب تزعج هذا الأمر من بعده عن أهل بيته، ولا انهم منحوه عني من بعده! فما راعني إلا إنثيال الناس على فلان - يعني أبا بكر - يبايعونه، فأمسكت يدي; حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد فخشيت أن لم انصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ اعظم من فوت ولايتكم...).
وكان موقفه من الخوارج - وهم اشد معارضيه، وأكثرهم إيماناً بمبدئهم - من أروع المواقف، وأكثرها تعبيراً عن صيانته لهذا الحق، فقد أباح لهم أن يسلكوا مختلف الأساليب للتعبير عن آرائهم، وكانوا يعايشونه في البلد، فتكلموا، وخطبوا، وتجمهروا، وجادلوا، وقد تجاوزوا حدود الأدب حين قال قائلهم انه: (لن يأتم به، ولن يشهد معه صلاة، ولن يأتمر بما يأمر، ولن يكون عليه سلطان).
ومع كل ذلك فلم يعرض الإمام لهم بسوء، بل كان يجادلهم بنفسه تارة، وبابن عمه عبد الله بن عباس أخرى، حتى إذا خرجوا من الكوفة بمحض اختيارهم، وشكّلوا من أنفسهم عصابة تتعرض إلى الآخرين بالقوة لحملهم على اعتناق مبدئهم، وكان ما كان منهم من إقلاق للرأي العام، وتهديد الأمن، والتعدي على الأبرياء، أمثال قتلهم لعبد الله ابن خباب، وبقر بطن زوجته الحامل، خرج إليهم الإمام لتأديبهم، ومع ذلك لم يقاتلهم حتى قام بمحاولاته السلمية التي أرجعت كثيراً منهم إلى الطاعة والاعتراف بالخطأ.
وكموقفه من حرية المعارضة وقف من حرية السكن والتنقل، فلم يعرض لها بحد، ولم يسمع عنه انه فرض أقامة جبرية على أحد، أو منع أحداً من التنقل من بلد إلى بلد.
حق التملك :
وثالث الحقوق حق التملك فردياً أو اجتماعياً، وهذا الحق مفروض في الإسلام، وربما اعتبر من ضرورياتها ما لم يتعد إلى الإضرار بالآخرين، بسلوك طرق غير مشروعة للحصول على الملكية، كالمراباة، والارتشاء، والغصب، والسرقة، وغيرها.
أما استعماله لهذا الحق - وهو أمير المؤمنين وخازن أموالهم - فقد حدثنا عن حدوده في كتابه لعامله عثمان بن حنيف:
(ألا وان إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمرَيْه، ومن طعمه بقرصَيْه... إلى أن يقول: فو الله ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً...).
وقد مات ولم يضع لبنة على لبنة، وربما باع سيفه ليشتري به الكساء والطعام.
وزهده اشهر من أن نتحدث عنه. أما أسباب ذلك الزهد وبواعثه النفسية فقد كشف جانباً منها في كتابه السابق... وسنأتي عليه في موضعه.
وقد كفل هذا الحق لرعاياه، فلم يقف دون أحد في ملكية، أو جرد أحداً منها، اللهم إلا إذا كانت غير مشروعة، فمن ذلك موقفه مع من أثرى على حساب حقوق الشعب في أيام عثمان، حيث جردهم مما يملكون من ذلك المال الحرام، وأعاده إلى الكافة.
حق التعليم :
وحق التعليم - كما يراه الإمام - منن حقوق الرعية على أمرائهم، وصريح قوله وهو يعد حقوق الرعية عليه: (فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم. وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كي ما تعلموا).
وفي كتابه إلى قثم عامله: (وعلم الجاهل).
وبالطبع يراد بالتعليم هنا: هو تعليم كل ما تحتاجه الشعوب لاستقامة حياتها، وبخاصة الدينية منها، والدين هو الدستور المطلق للدولة، فلا بد من معرفته للعمل على السير في حدوده.
ويبدو من بعض كلمات الإمام انه كان يرى التعلم من الواجبات على الأفراد وليس من الحقوق، كما يرى وجوب تعليمهم، ففي إحدى كلماته يقول: (ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى اخذ على أهل العلم أن يعلّموا)... تأملوا كلمة ما أخذ الله على أهل الجهل فهي من محتويات الوجوب.
حق الاشتراك في إدارة الدولة :
والاشتراك في إدارة الدولة حق كان يراه الإمام طبيعياً لجميع أفراد الشعب، بشرط توفر مؤهلات الحكم فيهم، وكان يرى عند تقدم جماعة منهم إخضاعهم للاختبار، وتقديم أوفرهم مؤهلات، وأقدرهم على توفير العدالة للرعايا.
وفي دستوره الخالد شرح لهذه الجوانب، ومما جاء فيه: (وان افضل قرة عين الولاة استقامة العدالة في البلاد، وظهور مودة الرعية... ثم اختر للحكم بين الناس افضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور، ولا تمحكه الخصوم - أي لا يلج في الخصومة - ولا يتمادى في الزلّة... ثم انظر في أمور عمالك، فاستعملهم اختباراً، ولا تولهم محاباة وأثرة).
ولهذا نظائر في النهج تراجع في مظانها في الكتب والعهود.
حق العدالة:
ولعل من أهم ما ورد في هذه اللائحة وأسماها وأعلقها بحاجة واقعنا إليها هي العدالة الاجتماعية بشقيها الفردي والاجتماعي.
والمراد بالعدالة هنا: هو دفع الظلم أو رفعه عن كاهل الأفراد والجماعات.
والظلم الجماعي له عدة معطيات لعل أهمها معطيان:
أولهما: يرجع إلى الامتيازات الطبقية التي تحدثها عادات اجتماعية متأصلة أو أنظمة خاصة.
ثانيهما: يرجع إلى شيوع الفقر لقلة في الإنتاج، وسوء في التوزيع، مع بقاء الوضع من قبل السلطة على حاله، وعدم تدخلها في إصلاحه.
ولفهم هذين المعطيين وموقف الإمام منهما يحسن أن نعود إلى العصر الذي سبق عهد خلافة الإمام وننحدر برواسبه إليه، لتتجلى لنا قيمة إصلاحاته الجذرية لواقع مجتمعه.
لا شك إن الإسلام جاء والمجتمع الجاهلي يعجّ بطبقية واسعة ذات امتيازات اجتماعية معروفة، كما يعج بعوامل انتشار الفقر بين اكثر الطبقات.
فكان أول ما عمله أن عمد إلى ذلك التفاوت فقلص من ظلاله بما شرّع لهم من نظم، وما وضع عليهم من ضرائب، ثم عمد إلى امتيازاته فألغاها.
وقام بعد ذلك باتخاذ إجراءات سلبية وإيجابية لها أهميتها في الحد من انتشار الفقر، ثم في التخفيف من حدة الشعور به.
وفي عهد الخليفة الثاني نشأت في الإسلام طبقية، ولكن من لون جديد، وأساس هذه الطبقية هو القرب، والسابقة، والصحبة.
وقد أعطيت امتيازات بعضها مادية وبعضها معنوية، ومن امتيازاتها المادية أنها شرّعت مبدأ التفاوت في العطاء، فمن اثني عشر ألف درهم وهي حصة أعلى طبقاتها إلى مائتي درهم وهي حصة أدنى الطبقات.
ولما جاء الإمام إلى الحكم وجد نفسه مسؤولاً عن اتخاذ إجراءات حازمة للقضاء على هذا الظلم الجماعي بجميع صوره، والعودة بهم إلى التشريعات الإسلامية الأولية.
فكانت أولى خطواته أن عمد إلى هذه الامتيازات الطبقية الجديدة على الإسلام فألغاها.
وهنا يجب أن نؤكد إن الإمام لم يلغ الطبقية بمفهومها الاجتماعي، كما لم يلغها الإسلام من قبل، وان قلّل من تفاوتها، وقد سبق أن قلنا إن الإمام اعترف بحق الملكية للفرد، وبحق الحرية في العمل، وما دامت حرية التملك والعمل قائمتين فالطبقية حتماً موجودة، ولكن الطبقية المعتدلة ليست هي أساس الظلم، وإنما الأساس في إعطائها امتيازات في الدولة أو في البيئة الاجتماعية قد يكون من أيسر معطياته هو الشعور بالدونية لدى اكثر الطبقات.
وقد كان الإمام صريحاً في إلغائها حين خطب أولى خطبه التي أعلن فيها منهاجه في الحكم ومما قال: (أيها الناس ألا لا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار، وفجّروا الأنهار، وركبوا الخيل الفارهة، واتخذوا الوصائف المرققة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، اذ ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا.
ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله، يرى أن الفضل له على سواه لصحبته، فان الفضل النيّر غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله، فانتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، ولا فضل فيه لأحد على أحد).
وفي كلام آخر له وقد طلب إليه أن يرعى عواطف ذوي الامتيازات ليأمن غائلتهم ويضمن إخلاصهم له:
أتأمرونني أن اطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟! والله لا أطور به - لا أقاربه - ما سمر سمير - مدى الدهر - وما أمّ - قصد - نجم في السماء نجماً! لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله!! إلا وان إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف، وهو يرفع صاحبه في الدنيا ويضعه في الآخرة...).
وهذا الامتياز لم يكتف الإمام بإلغائه، بل تعدى إلى كل ما لها من امتيازات سابقة فشجبها، وأوقف مختلف الطبقات أمام النظم الإسلامية على صعيد واحد.
وفي سبيل تحقيق هذا الجانب من عدالته الاجتماعية ما كان يأمر به عماله من المساواة بين رعاياهم، وحرمان خواصهم، وأقربائهم، من كل حق يمس هذه المساواة، فهو يكتب لأحدهم: (انصف الله وانصف الناس من نفسك، ومن خاصة اهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فإنك إن لا تفعل تظلم!! ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده... وليس شيء ادعى إلى تغير نعمة الله، وتعجيل نقمته، من إقامة على ظلم، فإن الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد...).
وبالطبع كان لهذه الامتيازات الطبقية رواسب نفسية في أعماق العامة تبغض لهم هذه الطبقات، كما تنفرهم من الحكام; لحمايتهم لها.
فمن اجل علاج هذا الجانب النفسي، وتأكيد الروابط بين الرعية وحكامهم، آمر ولاته بالتحبب إليهم، والرأفة بهم، ومن ذلك قوله: (... واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبّعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه...).
فهو يوصيه بالتجاوز عنهم، والاغتفار لزللهم; لأنهم يؤخذون على الخطأ أخذاً.
ويراد بالخطأ والزلل هنا: الخطأ الذي لا يستوجب حداً من حدود الله، أو حكماً شرعياً خاصاً; لما ستعرف عن الإمام من تشدده في إقامة الحدود، وعدم التسامح عنها بحال.
والإمام في هذا الموضع لا يخص بتوصية المسلمين من رعاياه، بل يتجاوز إلى بقية المواطنين من غير المسلمين (إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
أما شيوع الفقر وهو المعطى الثاني لانتشار الظلم فقد كان له إلى كفاحه عدة طرق ربما تمشت مع احدث النظم الاقتصادية في هذا العصر.
أولها: توفير العمل بتهيئة وسائله ومن ذلك ما جاء في دستوره الخالد: "وليكن نظرك في عمارة الأرض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج; لان ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة.
فإذا شاركت الدولة في أعمار الأرض فقد توفر العمل للعاملين حتماً، وبتوفره توفّر الخراج، والناس كلهم عيال عليه كما ورد عنه في هذا العهد.
ثانيها: كفاح البطالة بالحث على العمل - بعد توفير وسائله - وما اكثر ما ورد عن الإمام في ذلك ومن بليغ أوصافه للعاملين: (قلوبهم في الجنان وأجسادهم في العمل).
ثالثها: توزيع الثروة توزيعاً عادلاً، سواء بين العمال وأصحاب العمل، أم بين العمال أنفسهم.
رابعها: الضرب على التلاعب بالأسواق من قبل المستغلين والمطفّفين، ومحتكري قوت الشعب، مما يوجب أن تثري طبقة على حساب بقية الطبقات; وبخاصة الضعيفة منها.
ومن أوامره في ذلك لعماله قوله لبعضهم: (واعلم - مع ذلك - أن في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكماً في البيعات، وذلك باب مضرة للعامة، وعيب على الولاة. فامنع من الاحتكار فإن رسول الله منع منه...).
خامسها: تجريد أصحاب الملكيات غير المشروعة من ملكياتهم، وأعادتها إلى أهلها الشرعيين، ومن ذلك ما جاء في أول خطبة له: (أيها الناس إنما أنا رجل منكم لي ما لكم وعليَّ ما عليكم، إلا أن كل قطيعة اقطعها عثمان، وكل مال أعطاه عثمان من مال الله فهو مردود في بيت الله، ولو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الإماء لرددته فان في العدل سعة فمن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق).
وكأنه كان ينظر إلى هؤلاء ونظائرهم حين أرسل قولته الخالدة: (فما جاع فقير إلا بما متع به غني).
وقولته: (ما رأيت نعمة موفورة إلا والى جانبها حق مضيّع).
سادسها: منع عماله وموظفيه من الإثراء غير المشروع سواء بابتزازهم لأموال الدولة، أم ارتشائهم على حساب بعض الحقوق، وما أعسر محاسبته لعماله في ذلك.
سابعها: رفع الضرائب عن كواهل الطبقة الضعيفة، ممن لا تملك ضرورة ما تحتاج إليه من زاد أو كساء، أو أداة عمل، ومن ذلك ما جاء في كتابه السابق: (ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها...).
وبالطبع إن هذه الإجراءات ونظائرها لا تستأصل الفقر من أساسه وإنما تعمل على تقليصه، فهناك من لا يقوى لمرض أو شيخوخة أو صغر، ولا ينهض عمله بسد حاجته لكثرة في عياله، وربما كان فيهم من يقوى على العمل ولا يتوفر لديه مجاله.
ولمثل هؤلاء شرع الإسلام مبدأ الضمان الجماعي، وكفل لهم ذلك في أيام حكمه، ففي عهده لمالك الاشتر: (... الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، من المساكين والمحتاجين، وأهل البؤسى والزمنى - أرباب العاهات المزمنة - فان في هذه الطبقة قانعا ومعترا - سائلا ومتعرضا للعطاء بلا سؤال - واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسما من بيت مالك، وقسما من غلات صوافي الإسلام.. ثم يقول: وتعهد أهل اليتم وذوي الرقة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه...).
وقد لاحظ الإمام أن اكثر هؤلاء لا يمكن أن يصلوا إلى الولاة بحوائجهم، لما يتركه الفقر في نفوسهم من ضعف، فأمر في تشكيل لجنة لتتبعهم، ورفع أمرهم إلى المعنيين بالأمر.
وهذا الضمان لا يتناول - بحكم الإسلام - من يتوفر لديه العلم ويقوى عليه، ثم لا يعمل حبا بالبطالة، فان أمثال هؤلاء يعتبرهم الإسلام أغنياء، ويحرمهم من هذا الضمان.
والغني في عرفه من كان يملك قوت سنته أما بالفعل أو القوة، وهؤلاء يملكونها بالقوة لقدرتهم على العلم وتوفره لديهم.
وهذا هو السر في قصر الإمام هذا الضمان على الأصناف التي عدها في كلامه، ليس فيها ما يشمل نظائر أولئك من الأغنياء.
ووجود الفئات العاجزة عن العمل، وشعورهم به، لا بد وان يحدث في أعماقهم عقدا نفسية يحتاج مثلها إلى علاج.
وكان للإمام عدة طرق في علاجها نذكر منها طريقين مهمين:
1- تهوينه من شأن الفقر واعتباره ظاهرة طبيعية لا تنقص من وزن صاحبها، وربما رفعت قدره في أخراه.
وكان يضرب لهم الأمثال بعظماء من البشر كأنبياء الفقراء فلو كان الفقر سبة لما اتصف به أنبياء الله.
2- مشاركة إمامهم الوجدانية لهم، بمواساتهم في خشونة العيش، والتشبه بهم في لباسه، ومأكله، وما إلى ذلك من لوازم الفقر، وربما كان أعظم أثرا من سابقه قال: (ولو شئت لاهتديت الطريق، إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز. ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة - ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع - أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرّى أو أكون كما قال القائل:
وحسبــك داء أن تبيت ببطنة***وحولك أكباد تحن إلــى القد
أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش!! فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة، همها علفها...).
وأي فقير يرى هذه المشاركة من أمامه فلا تزول عن أعماقه رواسب ما تركه الفقر فيها من آثار، وهكذا عمّ في عدالته الاجتماعية جملة رعاياه؟