المتنبي
حياة المتنبي
أسرته
نشأته
شخصيته
أثر علمه وثقافته على شعره
اللغة
ثقافته الدينية والفلسفية
معرفته التاريخية
معارفه الجغرافية
معرفته بالقرآن
رحلاته
مقتله
ديوانه وأغراضه الشعرية
الديوان
الأغراض
مكانته الشعرية
أسئلة
________________________________________
المتنبي (303-354هـ، 915-965م). أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعْفي الكندي. سيد شعراء القرن الرابع الهجري ويعده البعض أكبر شعراء العربية، ومن أبرز شعراء العالم. ينتهي نسبه إلى كَهْلان من اليمن، وهي قبيلة عربية ذات فصاحة ولسن.
حياة المتنبي
أسرته. ولد المتنبي سنة 303هـ في حي كندة بالكوفة وأرضعته امرأة علوية. لاتذكر كتب التاريخ شيئًا ذا بال عن أسرته، ولم يذكر المتنبي نفسه عن أسرته سوى جدته وكان يعدها أمّه إذ هي التي تولت تنشئته ورعايته. ويدل رثاؤه إياها على تعلقه بها وحبه لها. ولايحفظ التاريخ من أسرته سوى ابن واحد له يسمى ¸محسَّد•، على خلاف في زوجته أشامية هي أم عراقية. ولا تنبئ مصادر المتنبي إن كانت أسرته تصحبه في أسفاره أم لا، ولكن شعره ـ بوجه عام ـ يكاد ينفي اصطحابه الأسرة.
وأرجح الأقوال أن أسرته كانت رقيقة الحال، وشهر والده بعيدان السقاء للدلالة على مهنته. ولعلّ رقة حال أسرته كانت دافعًا قويًا إلى تكسبه بالمدح وإثبات ذاته المتفوقة.
نشأته. نشأ بالكوفة، وكان يختلف أول أمره في التعليم إلى كُتّاب فيه أولاد الأشراف من العلويين. وبدأ بتعلم العربية لغة وإعرابًا وشعرًا. وارتحل إلى البادية طلبًا لفصاحة القبائل العربية فاكتسب في مجالسها شيئًا من الفصاحة والبلاغة حين جالس الأعراب وشافههم. ولكن لم يطل به ذاك المقام فعزم سنة 320هـ على الرحيل إلى بغداد. وواصل مسار رحلته مصعدًا من بغداد إلى ديار ربيعة بين النهرين، ثم إلى الموصل ونصيبين ورأس عين. وانحدر بعد ذلك إلى بادية الشام، فقيل: ادعى النبوة وتبعه خلق كثير من البدو، فخرج إليه لولو أمير حمص فقبض عليه وسجنه، وتضاربت حول ذلك الروايات، ولكن الثابت أنه أودع السجن في سنة 321هـ. وكان مستخفًا بالسجن أول أمره، ولكن لمّا طال مقامه ولم يُطلق سراحه أرسل قصيدة يستعطف فيها الأمير الذي أودعه السجن. فخرج من السجن وقد لصق به لقب المتـنبي.
شخصيته. وُصف المتنبي بأنه كان رجلاً ملء العين، تام الخلقة، لايخلو من جفاء وخشونة. وعرف بالجرأة والإقدام والبعد عن ضعف النفس وخورها. ولعلّ حياته الأولى في البادية كان لها أثر في صفاته وأخلاقه. ومن مشهور قوله خطابه لنفسه حاضًا إياها على الجرأة والمخاطرة:
ردي حياض الردى يا نفس واتـَّركي حياض خوف الردى للشاء والنَّعَم
أما بيته:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فكان ولايزال من الأبيات السَّيارة.
أدت حياة الفقر التي نشأ المتنبي عليها إلى اتخاذه الشعر حرفة يأكل بها الخبز. ويكشف شعره أبدًا إصراره في طلب الرزق:
ضاق صدري وطال في طلب الرز ق قيامي وقل عنه قعودي
ومن أجل هذا الرزق، كانت صفاته وأخلاقه تتشكل في اتصاله بممدوحيه. فلم يكن شاعرًا يمدح فحسب وهو في بلاط سيف الدولة بل كان فارسًا يخوض غمار الحروب ويصفها أجمل وصف.
ويرتبط بهذه الصفة من أخلاق المتنبي إيمانه بالقوة وتمجيده للأقوياء واحتقاره للجبن والجبناء. فكانت القوة من صفاته اللازمة. وكثيرًا ما وصف في شعره ـ بفخر واعتزاز ـ مدار هذه القوة وما تفجرّه في نفسه من مكامن الإبداع. يقول في إحدى قصائده:
فنال حياة يشتهيها عدوه وموتًا يشهِّي الموت كل جبان
عاهد المتنبي نفسه أول عهده أن يجعل الحرب ـ ومدارها القوة ـ سبيله لتحقيق الغايات وإدراك الأماني. فجاء تعبيره عن نفسه قويًا حين حمل على الزمان وأهله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس روى رمحه غير راحم
ومدار أخلاق المتنبي أن نفسه كانت مفتونة بهذه القوة: قوة في الحرب، وفي مواجهة النفس، وصبر على الشدائد، واحتمال للأذى، هي قوة حتى في مواجهة الموت:
غير أن الفتى يلاقي المنايا كالحات ولا يلاقي الهوانا
وقد ترجم المتنبي هذ القوة في مواقف عملية ارتبطت بصدق وصفه للحروب واحتقاره لمظاهر الضعف لدى الجبناء:
وإذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العجز أن تموت جبانا
إن من أبرز صفات المتنبي ـ التي انعكس أثرها على أخلاقه ـ طموحه؛ طموح لا تحده حدود، طموح جعله لايدري ما يريد من الأيام: تارة يطمح في ولاية يدير أمرها فيكون له عِزٌ وجاه وسلطان، وأخرى يطمح في مجهول لايستطيع له تحديدًا. لذلك شقي المتنبي بطموحه كثيرًا. فكان الطموح، مع إيثاره القوة عاملين مؤثرين في صلته بالحياة والأحياء من حوله. ودفعه هذا الطموح أن يلقي مراسيه مطوفًا في بلاطات الحكام والأمراء. يقول لكافور في لقاء بينهما:
وغير كثير أن يزورك راجل فيرجع ملكًا للعراقيين واليا
ويلح على كافور في هذا الطلب حين يحس تراخيًا منه:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله فإني أغنِّي منذ حين وتشرب
ويرجِّح بعض الدارسين أن طموحه كان ثمرة لعصره المثقل بالاضطرابات والدسائس؛ فشهوة المجد في نفسه لم تكن أقل منها في نفوس غيره من أولئك الطامحين في إمارات تتقاذفها الأيدي كل زمان وحين. وجد المتنبي أن طموحه يخرجه من داره ليلقي به في صدر هذا الأتون الملتهب.
وكان الصدق من صفات المتنبي؛ صدقٌ جعله يترفع عن الكذب إذ لايليق بأمجاد الرجال، وهذا الصدق ـ لدى المتنبي ـ صنو للجد:
في الصدق مندوحة عن الكذب والجد أولى بنا من اللعب
وكان في أخلاق المتنبي ترفع عن حياة أهل عصره، وما تمور به من تهافت على اللذات والشهوات. فأخلاقه محمودة وسيرته خالية من الموبقات.
ولعل الإحساس بالعظمة الذي جعل ذاته المتفوقة تبلغ حدًا مرضيًا ـ كان من صفات المتنبي التي خاض فيها الباحثون كثيرًا. رأى بعضهم أنه يعاني من جنون العظمة أو من عقدة نرجسية ورأى آخرون أن هذا الإحساس بالعظمة استجابة طبيعية لذكائه وتفوقه. وزاد من إحساس المتنبي بذاته المتفوقة أن حساده كانوا له بالمرصاد، فربط مدحه بهجائهم:
إن أكن مُعْجَبًا فعجبُ عجيبٍ لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا تِرب الندى ورب القوافي وسمام العدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود
وديوان المتنبي حافل بشعر كثير يعبر تعبيرًا صادقًا وعميقًا عن هذا الاعتداد بالنفس والشعور بالتفوق. وقد أدى هذا الاعتزاز بالمتنبي إلى مخاطبة الأمراء دون مهابة؛ مخاطبة الصديق للصديق والند للند. ورد أنه كان ينشد الشعر جالسًا أمام سيف الدولة وأن طاهرًا العلوي أجلسه على سريره وجلس بين يديه.
فأدت هذه النفس المتفوقة بالمتنبي إلى قدر وافر من الإحساس بالإباء والشمم:
خليليَّ إني لا أرى غير شاعر فَلـِمْ منهم الدعوى ومنِّي القصائد
فلا تعجبا إن السيوف كثيرة ولكن سيف الدولة اليوم واحد
لم يكن المتنبي يعرف المداراة وتلك صفة فتحت عليه أبواب الأذى وأكسبته العداء. لم يكن يصانع أو يجامل. وقصصه مشهورة في هذا المقام في مواقفه مع أبي فراس وابن خالويه والمهلبي والصاحب بن عبَّاد وغيرهم كثير. أصابوه بكثير من الأذى إذ لم يصانع في أمورهم، فلو صانع لعاش في حمى وأمان.
ومن أنبل مقومات شخصيته إخلاصه في حبِّه ووفائه لمن أحب:
خلقتُ ألوفاً لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وكان هذا الوفاء نابعًا من كريم خلق وصدق مشاعر، ومن ثم فهجاؤه الأمراء الذين سبق أن مدحهم من قبل لم يكن لعدم إخلاص وود، إنما كان احتقارًا لهم وازدراءً ومراجعة للنفس.
ولعل من سلبيات شخصيته مزاجه المتقلب وتناقضه في بعض المواقف. فلم يكن من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. ولم يكن يخلو من مزاج متشائم مرده سوء الظن بهم:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع إن حاربوا جبنوا أو حدثوا شجعوا
كما رُمِي بالبخل والحرص على المال وكان يدافع عن هذه الدعوى وإن نقلت الكتب والمرويات قصصًا عن بخله. ولايُنكر أن المال كان للمتنبي وسيلة لتحقيق آماله المفقودة؛ فقد نشأ في أسرة فقيرة وأدرك أن الجاه والسيادة يحتاجان إلى سلطان المال، ولكن فلسفته في ذلك أن جمع المال مخافة الفقر، هو الفقر نفسه.
ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر
فالمتنبي لم يكن بخيلاً ولكنه صاحب فلسفة تنبع من معاناة حقيقية أدرك خلالها قيمة المال وأثره البالغ في الحياة. ليس المال لديه مطلبًا لذاته ولكنه عون لدفع عاديات الحياة:
وما رغبتي في عسجد أَستفيده ولكنها في مفخر استجدُّه
وقوام هذه الفلسفة ـ التي قد تبدو بخلاً ـ يتضح في نصحه كافورًا ألا يسرف في العطاء فيذهب ماله في طلب المجد فيذهب المجد إذا ذهب المال. فصاحب المال بلا مجد فقير زري، وصاحب المجد بلا مال يوشك أن يزول عنه مجده، فالمال ـ من وجهة نظره ـ وسيلة لا غاية:
فلا ينحلِل في المجد مالك كلُّه فينحلَّ مجد كان بالمال عقده
ودبِّره تدبير الذي المجد كفه إذا حارب الأعداء والمال زنده
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
أثر علمه وثقافته على شعره
يُظهر ديوان المتنبي فيضًا من المعارف المتنوعة المشارب. فشعره يبين عن شاعر عالم ومثقف ولكنه لم يكن ممن يتعمدون إثقال الشعر بهذه المعارف التي تُخرج الشعر عن عفو الخاطر ولمحات الإحساس. فالمتنبي كان كثير الدرس والاطلاع، شهر بارتياده دكاكين الوراقين وملازمته لها. كما لازم أشهر علماء عصره من اللغويين والأدباء كالزجَّاج وابن السرَّاج والأخفش الأصغر وابن دُريد وأبي علي الفارسي وجلس إلى نفطويه وابن درستويه. وأخذ عنهم جميعًا. وكان بجانب حفظه القرآن الكريم، قد أفاد فصاحة ولسنًا حين شافه الأعراب وجالسهم في البادية. وقد تنوعت ثقافته وشملت المجالات الآتية:
اللغة. كان المتنبي مبرزًا في مجال اللغة، مكثرًا في نقلها، مطلعًا على غريبها وحوشيها. وأكثر استشهاده بكلام العرب نظمًا ونثرًا. قرأ عليه ابن العميد كتابه الذي جمعه في اللغة وكان يعجب من حفظه وغزير علمه. كما قرأ عليه أهل مصر كتاب المقصور والممدود لأبي العباس ابن ولاد فصححه وأخذ على مؤلفه بعض الغلطات. قيل إن كتبه بعد موته كانت تحمل ملاحظات نفيسة دونها بيده. وكان حريصًا على حمل مكتبته في أسفاره.
ثقافته الدينية والفلسفية. كان القرن الرابع الهجري قرنًا ثريًا بالمذاهب الفكرية ذات الدلالات الفلسفية. فهو عصر السنة والشيعة والقرامطة والمعتزلة والمرجئة. وتأثر المتنبي بالفلسفة ظاهر في شعره، وهي فلسفة تنم عن طول تفكير وعمق رؤية جعلت الحكمة من أغراض شعره المقدمة. وقد ألف الحاتمي رسالة أبان فيها ما أخذه المتنبي من أقوال أرسطو. ويظهر شعر المتنبي أثر قراءته في الفلسفة واتصاله بأساليبها مما ترك سماته في تقسيمه المنطقي لأجزاء الكلام وفي توليده للمعاني وإشاراته إلى ما يتصل بآراء الفلاسفة من غير العرب.
معرفته التاريخية. يعكس ديوان المتنبي صورة للأوضاع التاريخية والصراعات السياسية التي كانت دائرة في عصره. فيفسر الديوان كثيرًا من أحوال الحمدانيين وحروبهم مع الروم وحمايتهم للثغور كما يشير إلى مواقع ومعارك وأحلاف وعداوات تنقلت بين الشام والعراق ومصر. ويظهر شعره جانبًا من تقلب الحياة في القرن الرابع الهجري بفعل الولاءات السياسية والتزام الناس تارة وتحللهم من الالتزام أخرى.
معارفه الجغرافية. كان لرحلات المتنبي أثر بالغ على شعره وشخصيته معًا. فيظهر شعره سياحته بعد خروجه من بغداد متجولا: تارة في شمال سوريا وطرابلس واللاذقية وأخرى حالاً بمصر أو ماضيًا إلى بلاد مابين النهرين. كان لهذه الرحلات أثر قوي في معرفته بجغرافيا الأماكن التي حل بها حين يجتاز الصحاري أو يعبر الجبال مستهديا بالأنواء والنجوم والجبال. وقد يسلك طرقًا لا يدركها سواه؛ طرقًا تدل على حسن معرفته بمجاهل الأرض ومعالمها. أدى كل ذلك إلى رفد شعره بعدد غير قليل من الأسماء والمواضع والأماكن ذات الدلالات الجغرافية لمختلف الأماكن التي طوَّف بها.
معرفته بالقرآن. يعكس شعر المتنبي شدة تأثره بالقرآن الكريم: قوَّم القرآن لسانه كما استولى إعجازه على عقله. فتفتَّحت مواهبه الفنية في شعر هو نسيج وحده. انفعل المتنبي ببلاغة القرآن وروعة معانيه وجمال قصصه وبديع استعاراته. ويبدو هذا التأثر أوضح ما يكون في شعره حين يستوحي تارة القصص وأخرى المعاني وثالثة الاستعارات.
رحلاته
خرج المتنبي من السجن في حمص بعد أن عرف جور الزمان وكيد الأعداء. فلحق بالتنوخيين في اللاذقية وأقام عندهم حينًا من الزمان. وتوثقت صلته بأبناء إسحاق التنوخي محمد والحسين ونظم فيهما قصائد من أجمل شعره.
ارتحل بعد ذلك إلى الكوفة وأمضى زمنًا يشتغل بالعلم، راغبًا عن مدح الناس أو التعرض بشعره لأحداث تلك الفترة. ثم خرج في 326هـ من الكوفة ـ ولا نعلم سبب خروجه ـ متوجهًا إلى الشام للمرة الثانية، وبدا في هذا الطور من حياته شديد التأثر بحال الأمة العربية بعد أن ملك زمامها الموالي من الترك والديلم. وخرج من اللاذقية إلى طبرية وعاد إلى اللاذقية مرة أخرى. ثم ارتحل منها إلى حلب ومنها إلى أنطاكية قاصدًا المغيث بن علي بن بشر العجلي. كما مدح عددًا من وجوه القوم بها. ولكنه مل المقام فخرج إلى حمص ولبنان.
استقر في عام 328هـ في رحاب بدر بن عمار. وكان بدر عربيًا حلو الشمائل فوجد المتنبي في بلاطه شيئًا من الاستقرار، فابتهجت نفسه وتجدد أمله. يقول:
أحلماً نرى أم زمانًا جديدًا أم الخلق في شخص حيّ أعيدا
تجلى لنا فأضأنا به كأنا نجوم لقين سعودا
ورأى في بدر الأمير كل الأمير، والجود كل الجود، وكان شديد الإعجاب به وظل في حضرته حتى سنة 333هـ. وبادله بدر حبًا بحب فتفتحت شاعريته وكتب لاميته في وصف الأسد التي مدح فيها بدرًا. وتعد من عيون شعره:
أَمعفِّر اللَّيث الهزبر بسوطه لمن ادَّخرت الصارم المصقولا
ولكن المقام لم يطب له كل المطاب؛ فأعداؤه وحساده سعوا لإفساد ما بينه وبين أميره، وأغروا به الشعراء ليكيدوه بألسنتهم، وبدأ الأمير ينصرف شيئًا فشيئًا عنه بعد أن كان المقدم لديه. ولعل اعتداد المتنبي بذاته وعدم تمرسه بحياة القصور ودسائسها كان مما وسع الشقة بينه وبين أميره. فخرج من بلاط بدر قاصدًا دمشق ونزل بجبل جرش عند أبي الحسن علي بن أحمد الخراساني وكانت بينهما مودة واستظل بحماه ومدحه بقصيدة قال فيها:
لا افتخار إلا لمن لا يضام مدرك أو محارب لا ينام
وخرج قاصدًا أنطاكية عام 334هـ وبها أبو عبدالله محمد بن عبدالله بن محمد الخصيبي. ووصله في هذه الفترة كتاب من جدته تسأله السير إليها وتبثه شوقها، فقصد الكوفة ولكن حيل بينه وبين دخولها. وتوفيت جدته فرثاها بقصيدته المشهورة:
ألا لا أرى الأحداث حمدًا ولا ذمًا فما بطشها جهلاً ولا كفها حلمًا
انحدر المتنبي إلى دمشق، وكان سيف الدولة قد صد الروم واستولى على أكثر الشام. وصار ملء السمع والبصر، وكان أبو العشائر والي سيف الدولة على أنطاكية قد مهد للمتنبي الانتقال إلى بلاط سيف الدولة بحلب. وكان سيف الدولة يحتاج شاعرًا مثل المتنبي على كثرة شعراء بلاطه؛ شاعرًا يصور تلك المرحلة من البطولات التي كانت تعيشها الأمة العربية. فوجد كلٌّ منهما بغيته في صاحبه، فكتب المتنبي أجمل شعره ـ الذي يمثل ديوانًا خاصاً هو سيفيات المتنبي ـ كله أو جله خلال إقامته بالشام. لم يمدح أحدًا غيره خلال هذه الفترة، ولم يبخل الأمير على شاعره ولكن ذات الشاعر القلقة وطموحه الذي لا يُحَدُّ، فضلاً عن أسباب أخرى أسهب الرواة في ذكرها، جعلت المتنبي يشد الرحال من حلب قاصدًا دمشق سنة 346هـ. واتجه إلى الرملة في فلسطين ومدح الأمير ابن طغج عامل كافور الذي زين له الرحلة إلى كافور.
قصد المتنبي مصر مؤملاً أن يجد في حضرة كافور ما لم يجده لدى سيف الدولة. ولكن كافورًا كان سياسيًا داهية وأديبًا بارعًا، فأدرك مقاصد المتنبي وجعله يتأرجح بين اليأس والأمل. وتمثل هذه المرحلة ديوانًا شعريًا عُرف بالكافوريات من أشهره قصيدته التي مطلعها:
عيد بأية حال عدت يا عيد ؟ بما مضى أم لأمر فيك تجديد ؟
وهي آخر قصائده بعد أن يئس مما كان يأمله من كافور. ففر من مصر بعد أن كتب قصيدة الهجاء الخالدة في كافور. واتجه إلى الكوفة ودخلها سنة 351هـ. وشارك في الأحداث التي ألمت بها، وذلك أن رجلاً خارجيًا من بني كلاب ثار بها فقصد إليه أبو الفوارس دلَّير بن لشكروز، فهرب الخارجي قبل وصول القائد إلى الكوفة فمدحه أبو الطيب. وأقام الشاعر أشهرًا بالكوفة ثم خرج إلى بغداد ونزل على صديق له اسمه علي بن حمزة البصري، ولم يمدح أحدًا من أرباب السلطان ببغداد. ثم عاد إلى الكوفة وظل بها إلى سنة 354هـ ثم ارتحل ثانية إلى بغداد. وراسله ابن العميد وكان بأرَّجان، يطلب منه القدوم عليه فقصده المتنبي ومدحه في صفر سنة 354هـ وأقام عنده شهرين أو تزيد قليلا.ً ثم شد الرحال إلى عضد الدولة بشيراز ومدحه، وكان آخر الملوك الذين مدحهم.
مقتله
خرج المتنبي من بلاط عضد الدولة بشيراز سنة 354هـ قاصدًا بغدادًا فلما وصل إلى دير العاقول خرج إليه جماعة من الأعراب من بني أسد وبني ضبة فقتلوه وانتهبوا أمواله. واختلفت الروايات حول سبب مقتله ولكنها أجمعت على أن الذي قتله هو فاتك الأسدي خال ضبة الذي هجاه المتنبي من قبل. وكان مقتله في السابع والعشرين من رمضان من تلك السنة.
ديوانه وأغراضه الشعرية
الديوان. يحوي ديوان المتنبي خمسة آلاف وأربعمائة وتسعين بيتًا في إحصاء الواحدي. وقد رتب المتنبي ديوانه بنفسه، وقرأه تلاميذه عليه وتدارسوه معه. وما ظفر ديوان شاعر في القديم والحديث بما ظفر به ديوانه من العناية والشرح؛ فقد ذكر له صاحب كشف الظنون نيفًا وأربعين شرحًا؛ ومن شراحه تلميذه وصديقه ابن جني، ومنهم علي بن أحمد الواحدي والعكبري وأبو العلاء المعري الذي سمى شرحه معجز أحمد. ومنهم البرقوقي في العصر الحديث. ولم يحو ديوانه كل أشعاره؛ فعن ابن جني أنه أسقط من شعره الكثير وبقي ما تداوله الناس. ثم إنه أضاف شيئًا من شعر صباه إلى الديوان لـمَّا سأله بعض فضلاء أهل الأدب بمصر ذلك.
وقد عكف على ديوانه كثير من الأدباء والنقاد منذ حياته إلى يومنا هذا، ولذلك قال ابن رشيق في حقه: ¸إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس• واختلف النقاد في حكمهم على شعره فانقسموا فريقين: الفريق الأول لايراه شيئًا ويتتبع سقطاته؛ فقد ذكر ابن خلدون أن شيوخه كانوا يعيبون شعر المتنبي والمعري لعدم النسج على الأساليب العربية، فكان كلامهما كلامًا منظومًا. ومن هؤلاء أبوهلال العسكري صاحب الصناعتين وهو الذي يقول: ¸لا أعرف أحدًا يتبع العيوب فيأتيها غير مكترث غير المتنبي فإنه ضمَّن شعره جميع عيوب الكلام ما أعدمه شيئًا منها•. ومنهم الصاحب بن عباد في كتابه الكشف عن مساوئ المتنبي، والعميدي في كتابه الإبانة عن سرقات المتنبي وغيرهم. وأما الفريق الثاني فتصدى لهذه التهم، فدافع عن شعره، وفنه كالقاضي الجرجاني في كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه والثعالبي في يتيمة الدهر وغيرهما كثير.
وظلت حركة التأليف حول المتنبي مزدهرة حتى العصر الحاضر. ودخل المستشرقون الحلبة وعنوا بالمتنبي وشعره فترجموا أجزاء منه. ومن هؤلاء يوليوس الذي نشر قطعة منه مع نبذة عن حياته. ومنهم ج. ج رسك الذي نشر ست عشرة قطعة غزلية وقطعتين من الرثاء، كل ذلك مصحوبًا بالترجمة الألمانية. كما كتب بعضهم مؤلفات اتصفت بالشمول وبقدر غير قليل من الدقة ككتاب شارل بيلا عن ديوان المتنبي.
رُزق شعر أبي الطيب قبولاً ما حظي به شعر شاعر سواه؛ ففضلاً عن الجدل الذي أثاره ويثيره في مختلف المجالس الأدبية بكافة الأصقاع بين الأدباء والنقاد، قد نجد لشعره ذيوعًا حتى بين العوام. والقصة التالية تدل على هذا الذيوع: قال أحد أصحاب ابن العميد: ¸دخلت عليه يومًا قبل أن يتصل به المتنبي فوجدته واجمًا وكانت قد ماتت أخته من قريب، فظننته واجدًا لأجلها فقلت له: لايحزن الله الوزير ما الخبر؟ قال: إنه ليغيظني هذا المتنبي واجتهادي في أن أخمل ذكره. وقد ورد عليَّ نيف وستون كتابًا في التعزية ما منها إلا مصدّر بقوله:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر فزعتُ فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقُه أملاً شرقتُ بالدمع حتى كاد يشرق بي
فكيف السبيل إلى إخماد ذكره؟!• وقد أشار الثعالبي إلى ما لشعره من القبول التام بين الخاص والعام. كما أشار الواحدي إلى شغف أهل عصره بديوانه وعكوفهم على حفظه وروايته. ومن طريف ما يُروى في هذا الصدد أن رجلاً من أهل بغداد كان يكره المتنبي، وآلى على نفسه ألا يسكن بمدينة يُذكر فيها أو يُنشد شعره، فهاجر من بغداد، وكان كلما دخل مدينة وسمع بها ذكره يرحل عنها؛ حتى وصل أقصى بلاد الترك فسألهم عن المتنبي فلم يعرفوه فأقام بينهم، فلما كان يوم الجمعة سمع الخطيب ينشد بعد أن ذكر أسماء الله الحسنى:
أساميًا لم تزده معرفة وإنما لذة ذكرناها
فعاد إلى بغداد•. والقصة على ما فيها من مبالغة تبيِّن شيئاً من الحق، وهو اشتهار ذكر المتنبي وشعره كأنه كان يعني نفسه بقوله:
وتركُك في الدنيا دويًا كأنما تداول سمعَ المرء أنمله العَشْر
الأغراض. طرق المتنبي مختلف أغراض الشعر وأبوابه من مدح وفخر وغزل ووصف للطبيعة والمعارك الحربية والحكم والأمثال والهجاء والطرَد وغيرها. فأجاد في شتى أبواب الشعر، وانفرد بفنون منها قل أن يزاحمه فيها مزاحم.
المدح. بدأ المتنبي حياته الشعرية بالمدح وأحصى الدارسون في ديوانه 112 قصيدة مدح عدا القطع. وأهم صفة كان يسبغها على ممدوحيه الشجاعة مقرونة بالكرم مع ذكر أسلاف الممدوح. ثم هو يشبِّه ممدوحه بالغيث والمطر والسحاب والأسد، وهو أسلوب تقليدي. ومما أنفرد به أو كاد تشبيه ممدوحيه بالأنبياء في الهيبة والجمال كقوله:
من يزره يزر سليمان في الملك جلالاً ويوسف في الجمال
ومن ميزاته أنه ينقطع لممدوحه فلا يمدح أحدًا معه إلا نادرًا، وأبرز ما في مدحه أنه يتغنى بنفسه ويقاسم الممدوح القصيدة ويجعل من نفسه ندًا له.
الرثاء. أغلب رثائه يعد من رثاء المناسبات وتقديم واجب العزاء، ويستثنى من ذلك رثاؤه جدته ورثاؤه فاتكًا، وبدرجة أقل رثاء خولة أخت سيف الدولة. ولذا نراه يميل إلى تحكيم العقل في رثائه ويحث على التعزية والسلوان ويرسل الحكم في فلسفة الموت:
سُبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها مُنعنا بها من جيئة وذهوب
تملُّكها الآتي تملَّك سالب وفارقها الماضي فراق سليب
وكثيرًا ما ينتقل إلى الحديث عن فقدان الأحبة وفناء الدنيا وسطوة الموت.
وأحر مراثيه كانت في جدته التي كان يحبها حبًا جمًا. وقصة موتها تزيد في الفاجعة؛ يروى أنها أرسلت إليه لتودعه وداعها الأخير فانطلق من الشام إلى العراق وأرسل إليها لتقدم عليه في بغداد. ولما وصلها كتابه اشتد بها السرور فحُمَّت وماتت، فقال محرِّمًا على نفسه السرور الذي قتلها وشارحًا سبب موتها:
أتاها كتابي بعد يأس وترحة فماتت سرورًا بي فمتُّ بها غمًا
حرام على قلبي السرور فإنني أعد الذي ماتت به بعدها سُمَّا
ومراثيه الأخرى على جودتها في بابها، يغلب طابع التعزية عليها كما أُخذَ عليه إلغاء الحواجز بينه وبين الأمير وأهل بيته كقوله في أم سيف الدولة:
بعيشك هل سلوت فإن قلبي وإن جانبت أرضك غير سال
وفي قصيدته في رثاء خولة أخت سيف الدولة طفرات ووثبات ما كان المجتمع في وقته ليقبلها كقوله:
أرى العراق طويل الليل مذ نعيت فكيف حال فتى الفتيان في حلب
الهجاء. هجاء المتنبي قليل لايتعدى مائتي بيت. ونَفَسُه الشعري قصير فيه، وأغلبه مقطوعات. وأطول هجائه قصيدة في كافور وأخرى في إسحاق بن كروس. وهجاؤه وجداني صادق التعبير عميق الألم، وهو لا يهجو إلا إذا أوذي. ويعد هجاؤه كافورًا من أجمل شعره؛ حيث وصفه وصفًا كاريكاتيريًا ساخرًا، ولكنه ظلمه في كثير من هجائه له؛ فوصفه بقلة الوفاء والمطال والمكر وخلف المواعيد، وعيَّره بأصله الوضيع وبأنه كان عبدًا لحجَّام، وبضخامة مِشْفره وغلظ يديه ورجليه، ونسي أن هذه الصفات لم يجلبها كافور لنفسه فلا يستحق أن يُذم بها، بل يستحق الإشادة لما وصل إليه وهو على هذه الصفة. وأشهر أهاجيه فيه:
عيد بأية حال عدت يا عيد ؟ بما مضى أم لأمر فيك تجديد ؟
وفيها:
من علَّم الأَسْوَد المخصيّ مكرمة أقومه البيض أم آباؤه الصِّيد
أم أذنه في يد النخاس دامية أم قدره وهو بالفلسين مردود
الوصف. المتنبي شاعر واصف طويل الباع إذا تفرغ لفنه. ولكن أنى له هذا التفرغ وهو أبدًا مشغول بما يريده الإنسان المثقل بالمطامح والهموم، المطارد من مكان إلى مكان. لم يسعد نفسه بالتمتع بمنظار الطبيعة وقد مر بقسط صالح منها في لبنان ودمشق وغوطتها، وحلب وبساتينها، وشواطئ النيل، وهذا لا يعني أنه مقفر من الوصف، فله الوصف الجيد المنثور في القصائد من مثل قوله في الثلج:
لـَبـَسَ الثلوجُ بها عليَّ مسالكي فكأنها ببياضها سوداء
أو قوله في وصف لبنان:
وعقاب لبنان وكيف بقطعها وهو الشتاء وصيفهن شتاء
أو قوله في السحاب:
ألم تر أيها الملك المفدى عجائب ما لقيت من السحاب
تشكَّى الأرض غيبته إليه وترشف ماءه رشف الرضاب
وأشهر ما وقع له من وصف نكتفي منه بالإشارة إلى ثلاث قصائد هن من أروع ما قيل في الوصف لا في شعره فحسب بل في الشعر العربي، الأولى: قصيدته في بدر بن عمار ووصف فيها الأسد والثانية في وصف بحيرة طبرية، والثالثة في وصف شعْب بوَّان.
كما أنه خص الخيل بطائفة من الأوصاف لأنها وسيلة مهمة من وسائل الحرب. كما وصف كلاب الصيد والظبي في الطرَد.
الغزل. لم يخص المتنبي هذا الفن بقصيد وإنما كان يأتي في مطالع قصائده مما دفع بعض النقاد إلى القول إنه غليظ القلب لايحب، وليس كذلك. ولعل طغيان النظرة التي حاول أن يشيعها في شعره من عنف في الرجولة وانشغال بمعالي الأمور، والأحداث الجسام التي مرت به، هي التي أخفت بريق الغزل في شعره فبدا باهتًا متكلفًا:
وكان أطيب من سيفي معانقة أشباه رونقه الغيد الأماليد
لم يترك الدهر من قلبي ولا كبدي شيئًا تتيمه غيد ولا جيد
ولكن هذا العنف يخفي وراءه نفسًا رقيقة تحس الجمال وتنفعل به، يقول:
أصخرة أنا ما لي لا تحركني هذي المدام ولاهذي الأغاريد
وقد تناول في مطالع قصائده مختلف فنون العشق والغزل: من سهاد وسقم، وطيف خيال، وتأثر بجمال المحبوبة، واشتهر عنه حبه للأعرابيات وازوراره عن الحضريات، لأنه تنقل في القبائل وعايش الأعرابيات فرأى الجمال الطبيعي، لا أصباغ ولا ألوان:
ما أوجهُ الحضَرِ المستحسناتُ به كأوجه البدويات الرعابيب
حُسْنُ الحضارة مجلوب بتطرية وفي البداوة حسن غير مجلوب
أفدي ظباء فلاة ما عرفن بها مضغ الكلام ولاصبغ الحواجيب
الفخر. كان فخره نتيجة طبيعية لزهوه وتعاظمه وشعوره بامتيازه؛ وكان يقرن فخره بمدح الممدوح. ومن عجيب أمره أنه يفخر ويمدح في بيت واحد كقوله:
شاعر اللفظ خدنه شاعر المجـ ـد كلانا رب المعاني الدقاق
وكثيرًا ما كان يفخر بشخصه مُعليًا شأن ذاته المتفوقة:
أمِطْ عنك تشبيهي بما وكأنه فما أحد فوقي ولا أحد مثلي
وقوله:
لتعلم مصر ومن بالعراق ومن بالعواصم أني الفتى
وأني وفيت وأني أبيت وأني عتوت على من عتى
كما يفخر بشعره وكان يعلم قدره:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
أو:
وعندي لك الشرد السائرات لا يختصصن من الأرض دارا
ويرتبط بهذا احتقاره للحساد ومصاولته الأعداء من الشعراء:
أفي كل يوم تحت ضبني شويعر ضعيف يقاويني قصير يطاول
وكان المتنبي يفتخر بالقوة وبتحمل المصائب، وهو يرفض الضيم، فارس لايهاب الموت، ولا يرعوي عن رمي نفسه في المهالك. وقد أدى به فخره إلى التهلكة، يحكى أنه عندما كاد ينجو بالهرب ناداه غلامه: ألست القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فقال له قتلتني قتلك الله، وعاد إلى القتال وقاتل حتى قُتل.
الحكمة. نثر المتنبي الحكم والأمثال في قصائده وهذه لاتتأتى إلا عن علم غزير وتجارب غنية، ولذلك تأتي حية معبرة يتناقلها الناس. وقلما نجد شاعرًا له هذا القدر من الحكم والأمثال المتداولة حتى عند أولئك الذين تفرغوا لهذا الفن كأبي العتاهية. وساعده على ذلك أيضًا اطلاعه على فلسفة الهنود والفرس واليونان. وقد ذكر له الحاتمي في رسالته مائة بيت مقتبسة من أقوال أرسطو، وعدها وهنًا وسرقة، وليست كذلك، بل تدل على الاطلاع والثقافة. ومن أمثلتها:
قال أرسطو: ¸إذا كانت الشهوة فوق القوة كان هلاك الجسم دون بلوغها•.
وقال المتنبي:
وإذا كانت النفوس كبارًا تعبت في مرادها الأجسام
وقال أرسطو: ¸علل الأفهام أشد من علل الأجسام• وقال المتنبي:
يهون علينا أن تُصاب جسومنا وتسلم أعراض لنا وعقول
وقال أرسطو: ¸الظلم من طبع النفوس، وإنما يصدها عن ذلك إحدى علتين: علة دينية أو علة سياسية لخوف الانتقام• وقال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
حكمة المتنبي مبثوثة في ثنايا قصائده؛ قد تأتي في بيت أو في نصف بيت ومن أمثلة ذلك:
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى عدوًا له ما من صداقته بُدُّ
وفي نصف بيت:
" أنا الغريق فما خوفي من البلل "
" وفي عُنق الحسناء يُستحسن العقد "
" مصائب قوم عند قوم فوائد "
" ومن قَصَد البحر استقل السواقيا "
" وخير جليس في الزمان كتاب "
مكانته الشعرية
يمثل شعر المتنبي عصره أصدق تمثيل بما فيه من قلاقل وثورات ومذاهب وآراء، فهو سجل تاريخي حافل وصادق لعصره. كما أن شعره صورة لحياته المضطربة، وفيه يتجلى طموحه وشهرته وعلمه ومجده وشجاعته. وتميَّز شعره في كل ذلك بقوة المعاني وبعد الأخيلة ورصانة الأسلوب وغنى الألفاظ وتدفق العاطفة.
وبناء القصيدة عنده محكم منطقي، وتأخذ قصيدته نمطين: إما التقديم للموضوع بالغزل الذي سار عليه الشعراء القدامى، وإما الشروع في موضوعه مباشرة، يبث بيتًا من الحكمة هنا وبيتًا هناك. ويختلف شعره في الكهولة عن شعره في الحداثة، وأجود شعره ما قاله في مدح سيف الدولة. ومن أصدق الأقوال التي نقدت شعر المتنبي أن في شعره سرًا من أسرار العبقرية صعب التعليل. ومعاني المتنبي أروع ما تكون حين يأتي بحكم وأمثال مستمدة من تفاعل نفسه مع الحياة الاجتماعية تفاعلاً يحسن فيه المتنبي إدراك فلسفة الحياة، أو حين يصف المعارك ويصور البطولة، ويتغنى بالمجد والشجاعة والشرف. وتميل النفوس إلى هذه المعاني لأن في نفس كل إنسان ميلاً إلى تمجيد القوة.
أُخذ على المتنبي بعض الإبهام في المعاني والتكلف في التعبير عن الصورة، وقليل من الشذوذ اللغوي، ومع ذلك فإن شعر المتنبي في معانيه وأسلوبه ارتفع بصاحبه إلى أكبر شاعر عرفته العربية، وجعل منه أكثر الشعراء حكمة سائرة ومثلاً شرودًا يردده أبناء العربية في كل زمان ومكان.
أكثر شعر المتنبي من المشهور الذي يتمثل به، وتحفل به مصنفات المختارات الأدبية. وبالرغم من ذلك فإن بعض قصائده بلغت من الشهرة حدًا بعيدًا، مثل قصيدته في وصف الحُمّى وفيها يقول:
وزائرتي كأن بها حياء فليس تزور إلا في الظلام
بذلتُ لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
يضيق الجلد عن نفسي وعنها فتوسعه بأنواع السُّقام
كأن الصبح يطردها فتجري مدامعها بأربعة سجام
أُراقب وقتها من غير شوق مراقبة المشوق المُستهام
ويصدق وعدها والصدق شر إذا ألقاك في الكُرَب العظام
أبنتَ الدهر عندي كل بنت فكيف وصلت أنت من الزِّحام
وقد صور شعره معاناته في الحياة وعظيم تمرسه بها، وانعكس ذلك في أبياته السيّارة مثل:
كلما أنبت الزمان قناة ركَّب المرء في القناة سنانا
ومراد النفوس أصغر من أن تتعادى فيه وأن تتفانى
أو قوله:
ما كل ما يتمنى المرء يدركه تجري الرياح بما لاتشتهي السفن
أو:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لايظلم
أو:
من يَهُنْ يسهل الهوان عليه ما لجرح بميِّت إيلامُ
حياة المتنبي
أسرته
نشأته
شخصيته
أثر علمه وثقافته على شعره
اللغة
ثقافته الدينية والفلسفية
معرفته التاريخية
معارفه الجغرافية
معرفته بالقرآن
رحلاته
مقتله
ديوانه وأغراضه الشعرية
الديوان
الأغراض
مكانته الشعرية
أسئلة
________________________________________
المتنبي (303-354هـ، 915-965م). أبو الطيب أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبدالصمد الجعْفي الكندي. سيد شعراء القرن الرابع الهجري ويعده البعض أكبر شعراء العربية، ومن أبرز شعراء العالم. ينتهي نسبه إلى كَهْلان من اليمن، وهي قبيلة عربية ذات فصاحة ولسن.
حياة المتنبي
أسرته. ولد المتنبي سنة 303هـ في حي كندة بالكوفة وأرضعته امرأة علوية. لاتذكر كتب التاريخ شيئًا ذا بال عن أسرته، ولم يذكر المتنبي نفسه عن أسرته سوى جدته وكان يعدها أمّه إذ هي التي تولت تنشئته ورعايته. ويدل رثاؤه إياها على تعلقه بها وحبه لها. ولايحفظ التاريخ من أسرته سوى ابن واحد له يسمى ¸محسَّد•، على خلاف في زوجته أشامية هي أم عراقية. ولا تنبئ مصادر المتنبي إن كانت أسرته تصحبه في أسفاره أم لا، ولكن شعره ـ بوجه عام ـ يكاد ينفي اصطحابه الأسرة.
وأرجح الأقوال أن أسرته كانت رقيقة الحال، وشهر والده بعيدان السقاء للدلالة على مهنته. ولعلّ رقة حال أسرته كانت دافعًا قويًا إلى تكسبه بالمدح وإثبات ذاته المتفوقة.
نشأته. نشأ بالكوفة، وكان يختلف أول أمره في التعليم إلى كُتّاب فيه أولاد الأشراف من العلويين. وبدأ بتعلم العربية لغة وإعرابًا وشعرًا. وارتحل إلى البادية طلبًا لفصاحة القبائل العربية فاكتسب في مجالسها شيئًا من الفصاحة والبلاغة حين جالس الأعراب وشافههم. ولكن لم يطل به ذاك المقام فعزم سنة 320هـ على الرحيل إلى بغداد. وواصل مسار رحلته مصعدًا من بغداد إلى ديار ربيعة بين النهرين، ثم إلى الموصل ونصيبين ورأس عين. وانحدر بعد ذلك إلى بادية الشام، فقيل: ادعى النبوة وتبعه خلق كثير من البدو، فخرج إليه لولو أمير حمص فقبض عليه وسجنه، وتضاربت حول ذلك الروايات، ولكن الثابت أنه أودع السجن في سنة 321هـ. وكان مستخفًا بالسجن أول أمره، ولكن لمّا طال مقامه ولم يُطلق سراحه أرسل قصيدة يستعطف فيها الأمير الذي أودعه السجن. فخرج من السجن وقد لصق به لقب المتـنبي.
شخصيته. وُصف المتنبي بأنه كان رجلاً ملء العين، تام الخلقة، لايخلو من جفاء وخشونة. وعرف بالجرأة والإقدام والبعد عن ضعف النفس وخورها. ولعلّ حياته الأولى في البادية كان لها أثر في صفاته وأخلاقه. ومن مشهور قوله خطابه لنفسه حاضًا إياها على الجرأة والمخاطرة:
ردي حياض الردى يا نفس واتـَّركي حياض خوف الردى للشاء والنَّعَم
أما بيته:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فكان ولايزال من الأبيات السَّيارة.
أدت حياة الفقر التي نشأ المتنبي عليها إلى اتخاذه الشعر حرفة يأكل بها الخبز. ويكشف شعره أبدًا إصراره في طلب الرزق:
ضاق صدري وطال في طلب الرز ق قيامي وقل عنه قعودي
ومن أجل هذا الرزق، كانت صفاته وأخلاقه تتشكل في اتصاله بممدوحيه. فلم يكن شاعرًا يمدح فحسب وهو في بلاط سيف الدولة بل كان فارسًا يخوض غمار الحروب ويصفها أجمل وصف.
ويرتبط بهذه الصفة من أخلاق المتنبي إيمانه بالقوة وتمجيده للأقوياء واحتقاره للجبن والجبناء. فكانت القوة من صفاته اللازمة. وكثيرًا ما وصف في شعره ـ بفخر واعتزاز ـ مدار هذه القوة وما تفجرّه في نفسه من مكامن الإبداع. يقول في إحدى قصائده:
فنال حياة يشتهيها عدوه وموتًا يشهِّي الموت كل جبان
عاهد المتنبي نفسه أول عهده أن يجعل الحرب ـ ومدارها القوة ـ سبيله لتحقيق الغايات وإدراك الأماني. فجاء تعبيره عن نفسه قويًا حين حمل على الزمان وأهله:
ومن عرف الأيام معرفتي بها وبالناس روى رمحه غير راحم
ومدار أخلاق المتنبي أن نفسه كانت مفتونة بهذه القوة: قوة في الحرب، وفي مواجهة النفس، وصبر على الشدائد، واحتمال للأذى، هي قوة حتى في مواجهة الموت:
غير أن الفتى يلاقي المنايا كالحات ولا يلاقي الهوانا
وقد ترجم المتنبي هذ القوة في مواقف عملية ارتبطت بصدق وصفه للحروب واحتقاره لمظاهر الضعف لدى الجبناء:
وإذا لم يكن من الموت بدٌ فمن العجز أن تموت جبانا
إن من أبرز صفات المتنبي ـ التي انعكس أثرها على أخلاقه ـ طموحه؛ طموح لا تحده حدود، طموح جعله لايدري ما يريد من الأيام: تارة يطمح في ولاية يدير أمرها فيكون له عِزٌ وجاه وسلطان، وأخرى يطمح في مجهول لايستطيع له تحديدًا. لذلك شقي المتنبي بطموحه كثيرًا. فكان الطموح، مع إيثاره القوة عاملين مؤثرين في صلته بالحياة والأحياء من حوله. ودفعه هذا الطموح أن يلقي مراسيه مطوفًا في بلاطات الحكام والأمراء. يقول لكافور في لقاء بينهما:
وغير كثير أن يزورك راجل فيرجع ملكًا للعراقيين واليا
ويلح على كافور في هذا الطلب حين يحس تراخيًا منه:
أبا المسك هل في الكأس فضل أناله فإني أغنِّي منذ حين وتشرب
ويرجِّح بعض الدارسين أن طموحه كان ثمرة لعصره المثقل بالاضطرابات والدسائس؛ فشهوة المجد في نفسه لم تكن أقل منها في نفوس غيره من أولئك الطامحين في إمارات تتقاذفها الأيدي كل زمان وحين. وجد المتنبي أن طموحه يخرجه من داره ليلقي به في صدر هذا الأتون الملتهب.
وكان الصدق من صفات المتنبي؛ صدقٌ جعله يترفع عن الكذب إذ لايليق بأمجاد الرجال، وهذا الصدق ـ لدى المتنبي ـ صنو للجد:
في الصدق مندوحة عن الكذب والجد أولى بنا من اللعب
وكان في أخلاق المتنبي ترفع عن حياة أهل عصره، وما تمور به من تهافت على اللذات والشهوات. فأخلاقه محمودة وسيرته خالية من الموبقات.
ولعل الإحساس بالعظمة الذي جعل ذاته المتفوقة تبلغ حدًا مرضيًا ـ كان من صفات المتنبي التي خاض فيها الباحثون كثيرًا. رأى بعضهم أنه يعاني من جنون العظمة أو من عقدة نرجسية ورأى آخرون أن هذا الإحساس بالعظمة استجابة طبيعية لذكائه وتفوقه. وزاد من إحساس المتنبي بذاته المتفوقة أن حساده كانوا له بالمرصاد، فربط مدحه بهجائهم:
إن أكن مُعْجَبًا فعجبُ عجيبٍ لم يجد فوق نفسه من مزيد
أنا تِرب الندى ورب القوافي وسمام العدا وغيظ الحسود
أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود
وديوان المتنبي حافل بشعر كثير يعبر تعبيرًا صادقًا وعميقًا عن هذا الاعتداد بالنفس والشعور بالتفوق. وقد أدى هذا الاعتزاز بالمتنبي إلى مخاطبة الأمراء دون مهابة؛ مخاطبة الصديق للصديق والند للند. ورد أنه كان ينشد الشعر جالسًا أمام سيف الدولة وأن طاهرًا العلوي أجلسه على سريره وجلس بين يديه.
فأدت هذه النفس المتفوقة بالمتنبي إلى قدر وافر من الإحساس بالإباء والشمم:
خليليَّ إني لا أرى غير شاعر فَلـِمْ منهم الدعوى ومنِّي القصائد
فلا تعجبا إن السيوف كثيرة ولكن سيف الدولة اليوم واحد
لم يكن المتنبي يعرف المداراة وتلك صفة فتحت عليه أبواب الأذى وأكسبته العداء. لم يكن يصانع أو يجامل. وقصصه مشهورة في هذا المقام في مواقفه مع أبي فراس وابن خالويه والمهلبي والصاحب بن عبَّاد وغيرهم كثير. أصابوه بكثير من الأذى إذ لم يصانع في أمورهم، فلو صانع لعاش في حمى وأمان.
ومن أنبل مقومات شخصيته إخلاصه في حبِّه ووفائه لمن أحب:
خلقتُ ألوفاً لو رجعت إلى الصبا لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
وكان هذا الوفاء نابعًا من كريم خلق وصدق مشاعر، ومن ثم فهجاؤه الأمراء الذين سبق أن مدحهم من قبل لم يكن لعدم إخلاص وود، إنما كان احتقارًا لهم وازدراءً ومراجعة للنفس.
ولعل من سلبيات شخصيته مزاجه المتقلب وتناقضه في بعض المواقف. فلم يكن من الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. ولم يكن يخلو من مزاج متشائم مرده سوء الظن بهم:
غيري بأكثر هذا الناس ينخدع إن حاربوا جبنوا أو حدثوا شجعوا
كما رُمِي بالبخل والحرص على المال وكان يدافع عن هذه الدعوى وإن نقلت الكتب والمرويات قصصًا عن بخله. ولايُنكر أن المال كان للمتنبي وسيلة لتحقيق آماله المفقودة؛ فقد نشأ في أسرة فقيرة وأدرك أن الجاه والسيادة يحتاجان إلى سلطان المال، ولكن فلسفته في ذلك أن جمع المال مخافة الفقر، هو الفقر نفسه.
ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر
فالمتنبي لم يكن بخيلاً ولكنه صاحب فلسفة تنبع من معاناة حقيقية أدرك خلالها قيمة المال وأثره البالغ في الحياة. ليس المال لديه مطلبًا لذاته ولكنه عون لدفع عاديات الحياة:
وما رغبتي في عسجد أَستفيده ولكنها في مفخر استجدُّه
وقوام هذه الفلسفة ـ التي قد تبدو بخلاً ـ يتضح في نصحه كافورًا ألا يسرف في العطاء فيذهب ماله في طلب المجد فيذهب المجد إذا ذهب المال. فصاحب المال بلا مجد فقير زري، وصاحب المجد بلا مال يوشك أن يزول عنه مجده، فالمال ـ من وجهة نظره ـ وسيلة لا غاية:
فلا ينحلِل في المجد مالك كلُّه فينحلَّ مجد كان بالمال عقده
ودبِّره تدبير الذي المجد كفه إذا حارب الأعداء والمال زنده
فلا مجد في الدنيا لمن قل ماله ولا مال في الدنيا لمن قل مجده
أثر علمه وثقافته على شعره
يُظهر ديوان المتنبي فيضًا من المعارف المتنوعة المشارب. فشعره يبين عن شاعر عالم ومثقف ولكنه لم يكن ممن يتعمدون إثقال الشعر بهذه المعارف التي تُخرج الشعر عن عفو الخاطر ولمحات الإحساس. فالمتنبي كان كثير الدرس والاطلاع، شهر بارتياده دكاكين الوراقين وملازمته لها. كما لازم أشهر علماء عصره من اللغويين والأدباء كالزجَّاج وابن السرَّاج والأخفش الأصغر وابن دُريد وأبي علي الفارسي وجلس إلى نفطويه وابن درستويه. وأخذ عنهم جميعًا. وكان بجانب حفظه القرآن الكريم، قد أفاد فصاحة ولسنًا حين شافه الأعراب وجالسهم في البادية. وقد تنوعت ثقافته وشملت المجالات الآتية:
اللغة. كان المتنبي مبرزًا في مجال اللغة، مكثرًا في نقلها، مطلعًا على غريبها وحوشيها. وأكثر استشهاده بكلام العرب نظمًا ونثرًا. قرأ عليه ابن العميد كتابه الذي جمعه في اللغة وكان يعجب من حفظه وغزير علمه. كما قرأ عليه أهل مصر كتاب المقصور والممدود لأبي العباس ابن ولاد فصححه وأخذ على مؤلفه بعض الغلطات. قيل إن كتبه بعد موته كانت تحمل ملاحظات نفيسة دونها بيده. وكان حريصًا على حمل مكتبته في أسفاره.
ثقافته الدينية والفلسفية. كان القرن الرابع الهجري قرنًا ثريًا بالمذاهب الفكرية ذات الدلالات الفلسفية. فهو عصر السنة والشيعة والقرامطة والمعتزلة والمرجئة. وتأثر المتنبي بالفلسفة ظاهر في شعره، وهي فلسفة تنم عن طول تفكير وعمق رؤية جعلت الحكمة من أغراض شعره المقدمة. وقد ألف الحاتمي رسالة أبان فيها ما أخذه المتنبي من أقوال أرسطو. ويظهر شعر المتنبي أثر قراءته في الفلسفة واتصاله بأساليبها مما ترك سماته في تقسيمه المنطقي لأجزاء الكلام وفي توليده للمعاني وإشاراته إلى ما يتصل بآراء الفلاسفة من غير العرب.
معرفته التاريخية. يعكس ديوان المتنبي صورة للأوضاع التاريخية والصراعات السياسية التي كانت دائرة في عصره. فيفسر الديوان كثيرًا من أحوال الحمدانيين وحروبهم مع الروم وحمايتهم للثغور كما يشير إلى مواقع ومعارك وأحلاف وعداوات تنقلت بين الشام والعراق ومصر. ويظهر شعره جانبًا من تقلب الحياة في القرن الرابع الهجري بفعل الولاءات السياسية والتزام الناس تارة وتحللهم من الالتزام أخرى.
معارفه الجغرافية. كان لرحلات المتنبي أثر بالغ على شعره وشخصيته معًا. فيظهر شعره سياحته بعد خروجه من بغداد متجولا: تارة في شمال سوريا وطرابلس واللاذقية وأخرى حالاً بمصر أو ماضيًا إلى بلاد مابين النهرين. كان لهذه الرحلات أثر قوي في معرفته بجغرافيا الأماكن التي حل بها حين يجتاز الصحاري أو يعبر الجبال مستهديا بالأنواء والنجوم والجبال. وقد يسلك طرقًا لا يدركها سواه؛ طرقًا تدل على حسن معرفته بمجاهل الأرض ومعالمها. أدى كل ذلك إلى رفد شعره بعدد غير قليل من الأسماء والمواضع والأماكن ذات الدلالات الجغرافية لمختلف الأماكن التي طوَّف بها.
معرفته بالقرآن. يعكس شعر المتنبي شدة تأثره بالقرآن الكريم: قوَّم القرآن لسانه كما استولى إعجازه على عقله. فتفتَّحت مواهبه الفنية في شعر هو نسيج وحده. انفعل المتنبي ببلاغة القرآن وروعة معانيه وجمال قصصه وبديع استعاراته. ويبدو هذا التأثر أوضح ما يكون في شعره حين يستوحي تارة القصص وأخرى المعاني وثالثة الاستعارات.
رحلاته
خرج المتنبي من السجن في حمص بعد أن عرف جور الزمان وكيد الأعداء. فلحق بالتنوخيين في اللاذقية وأقام عندهم حينًا من الزمان. وتوثقت صلته بأبناء إسحاق التنوخي محمد والحسين ونظم فيهما قصائد من أجمل شعره.
ارتحل بعد ذلك إلى الكوفة وأمضى زمنًا يشتغل بالعلم، راغبًا عن مدح الناس أو التعرض بشعره لأحداث تلك الفترة. ثم خرج في 326هـ من الكوفة ـ ولا نعلم سبب خروجه ـ متوجهًا إلى الشام للمرة الثانية، وبدا في هذا الطور من حياته شديد التأثر بحال الأمة العربية بعد أن ملك زمامها الموالي من الترك والديلم. وخرج من اللاذقية إلى طبرية