الرمال تدفن قرية بكنوزها منذ قرن بتقرت
فوق إحدى تلال وادي ريغ عند المدخل الشمالي لمدينة تقرت، تستدعيك مناظر الأطلال المنتصبة على مساحة شاسعة وسط الصحراء، أين تبرز مجموعة القباب والمنازل الحجرية المغمورة تحت كثبان الرمال في صور بقدر ما تبعث من سحر بقدر ما تثير فيك أكثر من سؤال، ولو أنك اقتربت من تلك المعالم أكثر لزادتك حيرة وأنت تتخطى جذوع الأشجار النائمة في أكثر من موقع.
قطع الأواني الفخارية القديمة المكسورة هنا وهناك، علامات تخبر زائرها أنه هذه الأرض سبق وعرفت نظاما لحياة مدينة أسرارها تختبئ ولا شك وراء الطبيعة العذرية التي لايزال يحتفظ بها الموقع، أين نشأة قرية سيدي راشد التي تعود بنا إلى قبيل حكم بني جلاب بمنطقة وادي ريغ الذي دام أربعة قرون بداية من سنة 1445 م.
الشروق وفي رحلة اكتشاف خصت بها أطلال القرية الأسطورة التي تتبع إداريا لبلدية سيدي سليمان الواقعة حوالي 25 كلم عن دائرة تقرت في ورقلة، وبعد حوالي 20 دقيقة من الترجل بمحاذاة الطريق الوطني رقم 3 أخذ دليلنا المدعو "قادين" وهو باحث مهتم بتاريخ القرية تحديدا وأحد أحفاد أهلها الذي ينتمي إلى الجيل الخامس فيهم، يعاين لنا مسميات المواقع بالقرية التي تحتوي على أكثر من مرفق منها مسجد، مقبرة وقصر فضلا عن أحياء طينية تتوزع على مساحة أكثر من 21 متر مربع، ناهيك عن مواقع لآبار ماء وبساتين فانية كلها صور كانت بالنسبة لنا تحاول أن تلمم فصول رواية القرية البائدة، ولسان الحال يقول ماذا يخفي تاريخ هذه البنايات، فيما كان أول ما أثار استفهامنا ذكر دليلنا أن القرية ينتسب اسمها للولي الصالح راشد بن حامد، المشهور بسيدي راشد صاحب قبة جسر سيدي راشد بقسنطينة بوادي الرمال، حيث يذكر المؤرخون أنه غادر القرية التي ينحدر منها وآباؤه سنة 1437م نيةً منه في إصلاح ما عاينه من تسلط اليهود بمدينة الجسور المعلقة التي أسس فيها 19 زاوية لتحفيظ القرآن وكذا تربية الأيتام وهو من نشأ يتيما بعد وفاة والده سنة 1414 م وعمره لم يتجاوز الخمس سنوات، بعد أن كان أسس زاويته بوادي ريغ سنة 1426م لنفس الأهداف الدينية
كنوز تغمرها الرمال منذ قرن ونصف
من بين أغرب ما يتناقله أحفاد الرواشد، وجود مجموعة من الكنوز المدفونة تحت قصر غانم بالقرية الذي يعود تأسيسه للدولة الرستمية، وهي كنوز تذكر الرواية أنها متواجدة تحت نفق أرضي من المفترض أن الأهالي خبؤوا كل ما هو ثمين لديهم في المكان المذكور كي لا يقع بين يدي المستعمر، فيما تجدر الإشارة إلى أن المكان عرف محاولات البعض حفره لكنها محاولات باءت بالفشل للطبيعة الصخرية للأرض إضافة إلى دفن الرمال مدخل النفق المزعوم، في ذات السياق يجمع أحفاد المهجرين من قرية سيدي راشد، أن كافة مخطوطات الزاوية الراشدية وكتب زاويتها لا تزال تحت الرمال التي اعتبروها آية من آيات الإعجاز التي سخرها الله ليحفظ بها معالم القرية من الاندثار، على اعتبار أن الرمال تحمي كل ما هو تحت الأرض من التلف رغم طول السنين، إلى حين توفر إمكانية إزاحتها وإخراج ما تخفيه من أسرار لذلك الزمن الغابر.
الاستعمار الفرنسي أراد إبادة القرية فهجّر أهلها بالقوة
كانت أولى أهداف المستعمر الذي احتل المنطقة رسميا سنة 1854م، ضرب قرية سيدي راشد لعدة أسباب تذكر كتب التاريخ أن أهمها تطور المستوى العلمي لأهل القرية واعتبار زاوية الشيخ راشد من أهم مدارس وادي ريغ، التي كانت تعمل على نشر العلم والتأثير على المجتمع، لذا تكررت محاولات العسكر الفرنسي في ضرب استقرار القرية بأساليب تنوعت بين الترهيب، والترغيب كانت أبرزها إشاعة فتنة العثور على رسائل حب كانت ترسلها إحدى فتيات القرية إلى ابن عمها، وهو أمر أدى إلى قرار منع التعليم على النساء بسبب طبيعة المجتمع المحافظ الذي لا يقبل بمثل هذه الأمور، وهي الضربة القاسية التي رأى مهتمون أنه راح ضحيتها جيلين كاملين من الأمهات عانين الجهل بعدها، كما حاولت فرنسا قتل أهل القرية عن طريق وضع السم في آبار الشرب وهي المكيدة التي نجا منها السكان، لكن خروج قانون كريمو في سنة 1870 الذي قسم أملاك الأهالي ممن يملكون البساتين الكبيرة والممتلكات الكبرى وأغرت البقية ببريق الدينار لبيع مالهم ومغادرة القرية التي كانت تحتوى على أحسن بساتين وادي ريغ وتنتج أجود تمورها، أنهت أمر مدينة الرواشد وأدت إلى تشتت عائلاتهم بين الأمصار العربية، فمنهم من ذهب إلى المشرق بمصر وسوريا ومنهم من استقر بتونس، وقلة هم من لم يغادروا أرض الوطن وعاشوا في القرى المجاورة.
الأحفاد يأملون في إحياء دار الأجداد وإعادة تاريخهم المطموس
بين أوراق التاريخ المتناثرة وآثار التأريخ المتبقية، لم ينس أحفاد قرية سيدي راشد الذين ينتمون إلى الجيل الخامس، رائحة أرضهم التي لا تزال تعبق بالقرب من أنفاسهم وهم الذين يتجمعون في كل عام عند ما تبقى من أحجارها يأملون في غد أفضل يعود فيه الوجه الأصلي لأرض أجدادهم، ويُنعم عليهم القدر بمنحهم تاريخهم المدفون تحت رمال صحراء وادي ريغ لإعادة تثبيته على صفحات التاريخ الحديث الذي لا يعلم عنه إلا القليل مما حملته بعض التواترات.