درس الجمعة بمناسبة عيد الاستقلال 05 جويلية1962
الذكرى الخمسون
أما بعد: يومكم هذا اجتمع لكم فيه عيد وذكرى، أمَّا العيد فهو يوم الجمعة، وأمَّا الذكرى إنَّها ذكرى استقلال الجزائر. والجزائر قطعة من أرض الإسلام، فيها نبتنا، وعلى حبِّها ثبتنا.
والاستقلال نعمة تستوجب شكر الله تعالى، ولا يشكر الله عليها حقَّ شكره، إلاَّ من عرف مخازي الاستعمار، وذاق مرارة الذلِّ والاستعباد، وعانى حياة البؤس والشقاء في ظلِّ الاستعمار، أو تواترت إليه بذلك الأخبار.
فإلى الله نتوجَّه بالشكر على ما أنعم به علينا من تخليصنا من أنياب شيطان الاستعمار، وأعاد أرض الإسلام إلى أمَّة الإسلام، وأحال كنائس التثليث إلى مساجد للتوحيد.
ونستنزل من رحمات الله الصيِّبة، وصلواته الزكيَّة الطيبَّة، لشهدائنا الأبرار ـ والله أعلم بمن مات شهيدًا في سبيله ـ ما يكون كفاء لبطولتهم في الدفاع عن شرف الحياة وحرمات الدين وعزَّة الإسلام وحقوق هذا الوطن الغالي، وطن الجزائر.
والجزائر ـ أيُّها السامعون ـ من أزكى المغارس التي غرست فيها شجرة الإسلام، فنمت وترعرت ثمَّ آتت أكلها طيِّـبًا مباركًا فيه، من القرن الأوَّل للهجرة: فقد حمل الفاتحون وفيهم أولو بقيَّة من أصحاب رسول الله تعاليمَ الإسلام إلى شمال إفريقيا، وقلب هذا الشمال هو الجزائر، نشروا عقائد الإسلام حتَّى استقرَّت في النفوس. ومن قرأ تاريخ المدن الجزائريَّة التي كانت لها في الحضارة الإسلامية أوفر نصيب؛ كتلمسان وبجانية وقلعة بني حمَّاد والمسيلة وبسكرة وقسنطينة وغيرها، من قرأ التواريخ علم أيَّة سمات خالدة وَسم بها الإسلام هذا القطر.
فلم يزل حصنًا منيعًا في وجه أطماع المستعمر الصليبي، لأنَّ من دخله سهل عليه دخول بقيَّة أوطان المسلمين، ولهذا لم يزل فيه طامعًا، متربِّصًا به مبيِّتًا الفرصة المواتية، فكانت الفرصة في عام 1246 هـ، الموافق لعام 1830م، حين تدهورت أمور البلاد، واختلَّ الدين واعتلَّ الاعتقاد، وفشا في الحاكم والمحكوم الفساد، فتداعت علينا عساكر الاستعمار، وانقضَّت علينا جيوش الاستدمار.
احتلَّت فرنسا الجزائر المسلمة احتلالاً مدبَّرًا مبيَّتًا على برنامج يدور كلُّه على محور واحد، ويرمي إلى غاية واحدة، وهي إذلال المسلمين ومحو الإسلام في الشمال الإفريقي كلِّه، وكان الإسلام في الجزائر يوم الاحتلال قويًّا بمعنويَّاته ومادِّيَّاته، مكينًا في النفوس، متمكِّنًا في الأرض بمقوِّماته من مساجد لإقامته، ومدارس لعلومه، وأوقاف دارَّة الريع للقيام به وحمايته، وكان هو المرجع في التشريع والتنفيذ.
فماذا صنع الاحتلال الفرنسي من أوَّل يوم؟ بدأ بخطَّة كانت مرسومة من قبل، وكشف عن مقاصده المبيَّتة للإسلام بعد أسابيع من احتلال الجزائر العاصمة، بدأ بمصادرة الأوقاف الإسلاميَّة بجميع أنواعها في العاصمة وإلحاقها بأملاك الدولة المحتلَّة، وأصدر قانونًا بتعميم المصادرة في كلِّ شبر يحتلُّه، ثم عمد إلى المساجد فأحال بعضها كنائس وبعضها مرافق عامَّة، وهدم بعضها لتوسيع الشوارع وإنشاء الميادين، ثمَّ عمد إلى المساجد الباقية فاحتكر التصرُّف فيها لنفسه،{وكمم الأفواه} واستأثر بتعيين الأئمَّة والخطباء والمؤذِّنين والمفتين،
وأجرى عليهم الأرزاق من خزينته العامَّة ليبقوا دائمًا تحت رحمته، يدورون في فلكه، ويخدمون مصالحه.
وهدفه وغاية واحدة وهي محو الإسلام من الجزائر حتَّى تصفو له، وتصبح فرنسيَّة الهوى واللسان والعاطفة والفكر والاتجاه.
ومن مكائده الخفيَّة لمحو الإسلام تشجيعه للخرافات والبدع والضلالات الشائعة بين مسلمي الجزائر لعلمه أنَّها تفسد عقائد الإسلام الصحيحة، وتحبط عباداته، وتبطل آثارها، وتخلط الموازين، فتلتبس السنَّة بالبدعة، والحق بالباطل، خبَّ الاستعمار وأولع في هذا المضمار,{قصة الحضرة}
وجمع على حرب الإسلام كلَّ ضالٍّ من أبنائه، وكلَّ دجَّال وكلَّ مبتدع وكلَّ متَّجر بالدين، يشجِّعهم ويرعاهم.
وظاهرهم بجيش آخر من المبشِّرين يحميهم ويمهِّد لهم الطريق.
ثمَّ بجيش آخر من الملاحدة الذين أنشأتهم مدارسه على درجات تبدأ بالزهد في الإسلام، ثمَّ بالتنكر له، ثمَّ بالخروج منه والازدراء بأهله والسخرية بهم، وسمَّوهم: المفكِّرين والمثقَّفين والمتنوِّرين ونخبةَ المجتمع، والحقيقة أنَّهم دوابٌّ مسيَّرة بخطَّة مدبَّرة، أعدَّهم المستعمر إعدادًا، ليكونوا له امتدادًا، وللهدم والتدمير إمدادًا، ولنشر الإلحاد والفساد أعوانًا ومددا.
فإنَّ نشره للإلحاد بين المسلمين وسيلة لمحو الإسلام، وحمايته للفواحش كالخمر والبغاء والقمار، وسيلة أخرى لنفس الغرض والمرام.
ففي الجزائر يبيح الاستعمار الفرنسي فتح المقامر لتبديد أموال المسلمين، وفتح المخامر لإفساد عقولهم وأبدانهم، وفتح مواخر البغاء والزنا لإفساد نسلهم ومجتمعهم، لكنَّه في المقابل لا يسمح بفتح مدرسة عربيَّة تحيي لغتهم، ولا بفتح مدرسة دينيَّة تحفَظ عليهم دينهم.{وهذا مانكتوي بناره إلى اليوم}
هذا بعض ما فعله المستعمر الفرنسي من موبقات نحو الإسلام، وما جنَّده من جنود لحرب الإسلام في الجزائر، لعلمه أنَّه لا بقاء لسلطانه وجبروته ما دام القرآن محفوظًا، والعقائد الصحيحة ثابتة، والشعائر المرفوعة قائمة، والسنن المأثورة مشهودة، ولغة القرآن مالكة للأسنة، ومظاهر الإسلام ظاهرة.
فنحمد الله ونشكره على ما منَّ به علينا من نعمة الاستقلال.