كنت أنظر في أحوال المسلمين، وفي أحوال أبناء الحركات الإسلامية على وجه الخصوص، التي تعمل لنشر دين الله، ووضعت لذلك البرامج والمناهج، ورصدت المعلمين والمربين، ومع ذلك فقد يبقى الأخ المسلم سنين طويلة في محاضن الحركة الإسلامية التربوية ولا يتحول إلى ذلك الإنسان الرباني الذي هو عدة النصر في معركة الحق والباطل. بينما كان الأعرابي يُقبل على رسول الله (ص)، يؤمن بما جاء به، ويدفعه رسول الله (ص) إلى بعض أصحابه يعلمونه ويفقهونه، فيكون بتعاليم النبي، والتزود من زاده، والتخلق بأخلاقه، والتأسي بسلوكه، ذلك الإنسان الرباني يبني نفسه ومجتمعه، ويتهيأ بتغيير حاضره لبناء مستقبله، وبتغيير نفسه لتغيير المجتمع.
لماذا فشلت الكثير من الهيئات والحركات الإسلامية في هذه المهمة الهامة والخطيرة؟
هل لضعف في البرامج التربوية وقصورها؟
هل الوسائل المستخدمة ما زالت متخلفة؟
هل التطبيقات العملية ما زالت مهملة والتركيز ينحصر في الموضوعات النظرية؟
قد يكون الأمر يتعلق نسبياً بكل هذه الأسباب.. ولكن السبب الرئيس (في نظرنا) هو غياب المربي الرباني الأخلاقي الذي يزرع الحب قبل الدرس، والذي يعتبر الطالب الذي يربيه أخاه أو ابنه قبل أن يكون رئيسه.. وبكلمة واحدة أن يتعرف على شخصية النبي (ص) التربوية ويتأسى بها.
يقول النبي (ص): "إنّما بعثت معلماً".. ولهذا فلم يكن غريباً أن ترافق التربيةُ الدعوةَ الإسلامية منذ لحظاتها الأولى.. وأن يكون رسول الله (ص) – وهو خريج المدرسة الإلهية – أو معلم في الإسلام.. وبالتالي الأسوة الحسنة للمعلمين.
إنّ إستعراض حياة الرسول (ص) العملية، ودراسة طرائقه التربوية، التي غيّر بها سلوك أصحابه.. فنقلهم من ظلمات الجهل إلى أنوار المعرفة، ومن خشن الطباع إلى الأدب الرفيع.. ومن الأنانية الطاغية إلى الإنسانية الرحيمة، ومن جبروت القبلية والعصبية العمياء إلى الأخوة الغامرة في الله.. ومن ضياع الحاضر إلى بناء الحاضر والمستقبل.. هذا الإستعراض يؤكد لنا أن رسول الله (ص) هو المربي العظيم لأجيال المسلمين.. ولكن من تأثر بقوله أو فعله أو إرشاده في الفكر والعاطفة والسلوك.. وسنحاول هنا.. أن نتبين بعض ملامح شخصيته (ص) التربوية:
1- حضه على التعلم والتعليم:
قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (الجمعة/ 2).
علّمهم وزكّاهم.. وأمرهم بأن يشيعوا العلم والحكمة بينهم.. قال لهم (ص): "والله ليعلمن قومٌ جيرانَهم، ويفقهونَهم، ويفطنونهم، ويأمرونهم، وينهونهم، وليتعلّمن قومٌ من جيرانِهم، ويتفقهون، ويتفطنون، أو لأعاجلنّهم العقوبة في الدنيا".
إنّ هذا الموقف العظيم الذي يعتبر التقصير في التعلم والتعليم جريمة إجتماعية، يستحق مرتكبها العقوبة الدنيوية: موقف لم يرو التاريخ له مثيلاً في تقديس العلم، قبل النبي (ص) ولا بعده.
والأمر هنا هو (التعلّم والتعليم) ليس لمجرد الندب.. بل هو فريضة لقوله (ص): "طلب العلم فريضة على كل مسلم". فإذا قصّر العالم في واجب التعليم، أو قصّر الجاهل في تعلّم القدر الواجب من العلم.. استحقا عقوبة التعذير.
والعلم المطلوب هو كل علم نافع في أمور الدنيا والدين، يبني الفرد ويبني المجتمع ويفيد الإنسانية.. أمّا العلم الذي لا ينفع فقد حذرنا منه المعلم الأوّل (ص) فقال: "اللّهمّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع".
2- رؤوف رحيم:
والعلم لن يتعدى الشفاه.. ما لم تقم علاقة محبة ورحمة بين المعلم والمتعلم. لقد كان رسول الله (ص) من الرأفة والرحمة، وترك العنت وحب اليسر، والرفق بالمتعلم، والحرص عليه، وبذل العلم والخير له في كل وقت ومناسبة: بالمكان الأسمى والخلق الأعلى قال تعالى: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة/ 128).
لقد كانت الرحمة عنده (ص) تعاليماً وسلوكاً.. قال: "لا يُرحم من لا يَرحم الناس". وقال: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي". وقال: "الراحمون يرحمهم الله تعالى، ارحموا مَن في الأرض يرحمكم مَن في السماء". وقال: "إنّما مثلي ومثل أُمّتي كمثل رجل استوقد ناراً فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه، فأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقتحمون فيه".
والمربي المحروم من الرحمة، الغليظ القلب، لا ينجح في عمله، ولا يُقبل الناس عليه. قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...) (آل عمران/ 159).
3- رفيق بالمتعلمين:
لم يستخدم (ص) العنف والفظاظة وهو يواجه المواقف الصعبة. أخذ الناس بالرفق واللين فهما الطريق الأقرب إلى القلوب. قال تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران/ 159).
وهذه آية شاملة لأهم الخصائص النفسية في شخصية المربي مثل:
- الرحمة اللينة الواعية بدل الشدة أو الغلظة التي تحطم العلاقات السوية الإيجابية. وحتى إذا سبق من المتعلم خطيئة.. فعلى العلاقات المتبادلة أن تظل قوية.. وقوتها إنّما تفد من العفو والسماح.
- ثمّ لابدّ من إشعار المتعلم بكرامته وشخصيته وأهميته (وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ)، لأنّ المرء لا يتعلم إلا إذا أحب معلمه، وعلاقات المحبة إنّما تنمو سعيدة بالإحترام المتبادل.
لقد وضّح لنا ربنا – عزّوجلّ – كيف نترفق بالناس رغم إيذائهم، قال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 134). وأن ذلك من عزم الأمور، قال تعالى: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت/ 34-35).
4- يعطي كل جلسائه حقهم:
وهذه ميزة عظيمة كان يتمتع بها رسول الله (ص).. فلم يكن أحدٌ من أصحابه يشعر بأنّ غيره أقرب إلى قلب النبي منه.
- روى سيدنا علي (ع) في وصفه لمجلس رسول الله (ص)، قال: "كان يعطي كلّ جلسائه بنصيبه، لا يحسب جليسُه أن أحداً أكرم عليه منه".
5- يحسن الإستماع ويتواضع للسائل:
والإستماع الجيِّد ضرورة لإستيعاب الأمر.. وبدونه لا يمكن إتّخاذ القرار الصائب.. ونصف الكلام لا جواب له. ومن حسن الإستماع:
- التفرغ لمحدثك فلا تنشغل عنه بقضية أخرى. الأمر الذي يساعدك على فهم عبارة محدثك وملاحظة إشارته وصوته ووجهه، وكلها ضرورية لفهم الحديث.
- التركيز على صلب الموضوع والإبتعاد عن الأمور الهامشية.
- الإبتعاد عن سرعة الإستنتاج أو إتّخاذ أحكام متسرعة بحق السائل. ولننظر إلى سلوك النبي وهو يحسن الإستماع ويتواضع للسائل:
- عن أبي رفاعة العدوي – رضي الله عنه – قال: "انتهيت إلى النبي (ص) وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدري ما دينه.
قال: فأقبل عليَّ رسول الله (ص)، وترك خطبته حتى انتهى إليَّ، فأُتي بكرسي، قال: فقعد عليه وجعل يعلمني مما علّمه الله، ثمّ أتى خطبته فأتمّ آخره".
لقد فرّغ النبي (ص) نفسه لهذا السائل: فقام إليه وجلس بجانبه، واستمع منه، ثمّ أجابه.
6- كلامه فصل:
روى أنس – رضي الله عنه – قال: "كان رسول الله (ص) يعيد الكلمة ثلاثاً لتعقل عنه".
- وكان رسول الله (ص) يفتتح الكلام ويختتمه باسم الله تعالى، ويتكلّم بجوامع الكلم، كلامه فصل، لا فضول ولا تقصير.
بهذا الصوت الأليف والنبرة الحانية الوادعة.. والهدوء في تناول الأمور.. كان (ص) يفتح القلوب لتلقي الموعظة.
7- يختار الأسلوب الأنسب لنفسية المتعلم:
التربية الناجحة هي التي تراعي حالة المتعلم الجسمية، وإستعداده النفسي والعقلي للفهم والإستيعاب والتنفيذ أثناء عملية التعليم.
فمن جاء إلى نائم وألقى عليه درساً، كان عمله عابثاً.. ومن أتى بطالب ناشئ في روضة الأطفال، أو المدرسة الإبتدائية وألقى عليه محاضرة جامعية كان جهده ضائعاً.. وإذا وجدت إنساناً يغرق فليس من الحكمة التربوية أن تلقي عليه محاضرة في أهمية النجاة العاجلة.
وكذلك إذا وجدت إنساناً محاصراً في منزل شبت فيه النار، فصياحك عليه بضرورة المحافظة على سلامته، وإعلامه بآثار الحريق الضارة لا يفيد.. ولننظر في هذا الموقف التربوي الذي سجله النبي (ص) في تعامله مع الآخرين.
ولننظر إلى توجيهات النبي (ص) التربوية، وكيف كان يختار الأسلوب الأنسب لنفسية المتعلم.. ويختار الوقت المناسب الذي يراعي حالة المتعلم الجسمية والإدراكية والنفسية والصحية أثناء العملية التربوية.
- عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله (ص) إذ جاء أعرابي وقام إلى ناحية المسجد، وجعل يبول فصاح به الناس وقالوا: (مه. مه)، فقال الرسول المربي: "لا تزرموه" فتركوه حتى انتهى. ثمّ إن رسول الله (ص) دعاه فقال له:
"إنّ هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنّما هي لذكر الله – عزّوجل -، والصلاة، وقراءة القرآن".
ثمّ إنّه أمر رجلاً من القوم فجاء بذنوب – بدلو من ماء – فشنه – حسه عليه.
في هذا الحديث النبوي توجيهات تربوية بليغة في مراعاة حالة المتعلم النفسية، والإجتماعية، والجسمية، والصحية. لأنّ كل عملية للتعليم تهمل جانب المتعلم هي عملية فاشلة عقيمة.
ثمّ هب أننا أغفلنا كل ما تقدم من الحكم التربوية، وفرضنا أنّ الرجل قد سمع إلينا وحملّناه الآثار السيِّئة في نفسه وجسمه.. فإنّ الغرض الشرعي المطلوب لا يتحقق بل إنّه على العكس من ذلك.. فبدل أنّ المكان الذي أصابته النجاسة صغيراً محدوداً يكفيه دلو من الماء، فإنّه حين يمشي الرجل.. سينشر النجاسة من مكانه إلى مكان في مساحة أكبر في المسجد ولا يكفيه عشرات من الدلاء.
8- رعايته الفروق الفردية في المتعلمين:
لقد كان المعلم الأوّل (ص) شديد المراعاة للفروق الفردية والنفسية بين المتعلمين من المخاطبين والسائلين، فكان يخاطب كلّ واحد بقدر فهمه وبما يلائم منزلته، وكان يحافظ على قلوب المبتدئين، فلا يعلّمهم ما يعلّم المنتهين. وكان يجيب كل سائل عن سؤاله بما يهمه ويناسب حاله.
وللنظر في هذه المواقف التربوية.. وكيف كان النبي (ص) يوجه أصحابه كلا حسب قدرته على الإستيعاب، وحاجته.
إذاً يتكلموا:
عن أنس بن مالك أنّ النبي (ص) (ومعاذ بن جبل رديفه على الرحل) قال: "يا معاذ"، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: "يا معاذ"، قال: لبيك رسول الله وسعديك، قال: "يا معاذ"، قال: لبيك رسول الله وسعديك.
قال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، صدقاً من قلبه إلا حرّمه الله على النار، قال: يا رسول الله، أفلا أخبر به الناس فيستبشروا؟ قال: "لا، إذاً يتكلموا.
لقد خص نبي (ص) بهذا العلم الدقيق قوماً فيهم الضبط وصمة الفهم وأوصى بأنّ لا يبذل هذا العلم لمن يحسنون فهمه فيتكلوا.
ففيهما فجاهد:
وعن عبدالله بن عمرو – رضي الله عنه – قال: جاء رجل إلى النبي (ص) يستأذنه في الجهاد، فقال: "أحيٌّ والداك؟" قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهد".
هذا مع ما عُرف عن النبي (ص) من الحض على الجهاد والهجرة والترغيب فيهما، ولكنه (ص) لاحظ حال هذا السائل.. فرأى بر الوالدين أهم وأفضل من حقه في الجهاد.
9- يتدرج معهم:
كان المعلم الأوّل يراعي التدرج في التعليم، يقدم الأهم فالمهم، ويعلم شيئاً فشيئاً نجماً نجماً، ليكون أقرب تناولاً، وأثبت على الفؤاد حفظاً وفهماً.
عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنّ النبي (ص) بعث معاذاً إلى اليمن، فقال: "إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أنّ لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أنّ الله افترض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنّه ليس بينها وبين الله حجاب".
10- يقابل الإساءة بالإحسان:
إنّ العلاقات المحببة النشيطة، ينبغي أن تكون ركناً أساسياً في تكوين كل شخصية إنسانية كريمة.. لتعيش سعيدة في ذاتها، ولتنشر السعادة فيمن حولها.. بيد أنّ هذا السلوك أشد وجوباً وإلحاحاً في شخصية كل من له سلطان تربوي نفسي، أو سلطان تعليمي توجيهي، أو سلطان إداري إشرافي.. فسلامة الصدر، وكبر القلب، وهدوء النفس.. كل ذلك عوامل عاطفية عقلية هي أساسية في نجاح تلك العلاقات الإنسانية.
دعونا نعش قليلاً في أحد المواقف التربوية النفسية الرائعة التي نجدها ماثلة في حياة الرسول الأكرم (ص)، لتكون مثلاً أعلى لكل مربّ أو معلم.
ذاك أعرابي.. عاش في البادية، وقد أتى أوّل مرّة إلى المدينة. فيفد إلى رسول الله (ص) يطلب شيئاً من الصدقة، فيعطيه النبي (ص) ما كان لديه حاضراً. ثمّ يسأل الأعرابي: "أأحسنت إليك".. قال الأعرابي منكراً بقسوة: (لا، ولا أجملت).. سمع ذلك من كان حاضراً من الصحابة، فغضبوا من هذه الرد السيِّئ يُقابل به الرسول الكريم، ولكنه أشار إليهم فوراً، أن كفوا عنه.. وقام (ص) فدخل منزله وأتى بما يُنعم به على الأعرابي ثمّ أرسل إليه وزاده.. وهنا يسأله رسول الله (ص) "أأحسنت إليك"؟!
قال الأعرابي: نعم أحسنت وأجملت.. وجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً.
إنّه أعرابي يمثل صفاء البادية وتلقائيتها، كل ما فيها ظاهر وصريح، وقاس ومباشر. ولكنه الرسول المربي، وهو يعلم هذه النفسية، عاملها بما يلائمها، وإلى هنا والحادثة لم تنته، إذ قال (ص) للأعرابي بعد أن رضي:
"... إنك قلت ما قلت، من عدم رضائك أو لا، وفي نفس أصحابي عندما سمعوك من ذلك شيء عنك، فإن أحببت – ولننظر لهذا الرجاء المؤدب – فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي، حتى يذهب ما في صدورهم عليك..".
إنّه علاج تربوي نفسي للجانبين معاً في آنٍ واحد. علاج للأعرابي ليصلح ما بدر منه، وعلاج لنفوس الصحابة فيرضون عن ذلك الأعرابي. ويجيب الأعرابي بكل صفاء. نعم. فلما كان العشي وتجمع الصحابة جاء رسول الله (ص) فقال: "إنّ هذا الأعرابي قد قال ما قال.. ثمّ زدناه. فزعم أنّه قد رضي، أكذلك؟".
قال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً..
والختام التربوي الهام للحادثة: كان تحليلاً لنفسية الأفراد ولا سيما في عمليتي التربية والإدارة. إذ أن حسن المعاملة، ورد الإساءة بالإحسان يضفي حسن السلوك، إن عاجلاً أم آجلاً، ويضفي السعادة النفسية فوراً. وفي ختام هذه الحادثة مثل توضيحي لتلك العلاقات الإنسانية النفسية. إذ يقول الرسول الأكرم (ص):
"مثلي ومثل هذا، مثل رجل له ناقة شردت عليه، فاتبعها الناس ليقبضوا عليها، فلم يزيدوها إلا نفوراً.. فناداهم صاحبها: خلو بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها منكم وأعلم، فتوجه إليها بين يديها، وأخذ لها من قمام الأرض من أعشابها، فردها هادئة وجاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها...".
واختتم الرسول الأكرم (ص) هذه الحادثة بقوله:
"وإني لو تركتكم حيث قال الرجل فقتلتموه دخل النار..".