هذا هو الذكر لا يحرّك اللسان وحسب بل ويحرّك معه القلب ، ومع تحرّك مسنن القلب تتحرك مسننات العقل والنفس لينتج عنها برامج عجيبة من أجل حياة طيبة لابن آدم في الدارين الأولى والآخرة.
هذا الحديث الجميل الذي يصف لحوار عائلي لأسرة محمد صلى الله عليه وسلم حول مشكلة اشتكت منها ابنته فاطمة وزوجها علي رضي الله عنهما، وهي ما تلقى رضي الله عنها من أثر الرحى ، وطلبها لخادم يقوم بذلك العبء ، فكان هذا هو الإرشاد النبوي :
أذكار قبل النوم: التكبير المكرر 34 مرة ، التسبيح المكرر 33 مرة ، التحميد المكرر 33 مرة
ولي مع كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم ثلاث وقفات:
الوقفة الأولى: من المعلوم أن التكرار يرسخ الفكرة أكثر ، ولكن لمَ هذا العدد ؟! وما هو تأثيره على الدماغ أو النفس أو القلب أو الروح ؟ تساؤلات حقيقة لا أعلم جوابها وما الحكمة من هذا العدد بالذات ، والذي بالتأكيد له علاقة سببية عرفها من عرفها وجهلها من جهلها ، علماً أنه ليس من الضرورة معرفتها ، ونسلم بها بالتأكيد.
الوقفة الثانية: إن المعوّل من ترديد تلك الكلمات الصالحة هو ما تفعله من برامج في حياة ابن آدم وكيف سيتفاعل معها * ، على أساسات راسخة من قوة الإيمان بها عبر إدراك معانيها والتفكّر بها، ومن معانيها:
من معاني تكبير الله وأنه - جل شأنه - هو الأكبر بالمطلق : أن أستشعر ضعفي وضعف كل شيء دون الله، فأشعر بالقوة لأني عبدٌ له فلا أخشى أحد سواه. والأثر النفسي هو الإندفاعية والديناميكية في الحياة اليومية Motivation . لاحظ أن التكبير مرتبط مع كل حركة من حركات الصلاة ، وكذلك حركة العمرة والحج والتحرك للصلوات في الأذان.
أما تسبيح الله تعالى فيعني أني أعبد من فيه الكمال المطلق والتنزه عن كل عيب، الأثر النفسي هو الراحة والاسترخاء. لاحظ أن السجود والركوع مرتبط مع التسبيح ليتحقق الخشوع للجوارح والسكن للنفس ، وكذلك مع مناظر الجمال في المخلوقات والاستئناس به.
أما التحميد للمولى جل وعلا فيعني أني محاط بنعم كثيرة وعليّ استثمارها بشتى الطرق ، مما يهوّن أمامي المصائب التي أتعرض لها يومياً، والأثر النفسي الناتج هو التفكير الإيجابي Positive Thinking. لاحظ ارتباط التحميد لله تعالى مع النعم خاصة ، وفي كل وقت لأن نعمه لا تنقطع أبداً عن ابن آدم.
من جانب آخر: ربط الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ما بين هذه الكلمات والاستقلالية بالذات Autonomy دون الاعتماد على الغير في تسيير أمور الحياة ، من خلال ترسيخ التوكل على الله وحده في نفس ابنته وزوجها رضي الله عنهما، ومن المعروف كم وكم لهذه الصفة من أهمية في نجاح مواقفنا في الحياة !. ولو تحدّثنا عن الأثر الإيجابي النفسي للاستقلالية لطال وامتد بنا الحديث.
الوقفة الثالثة والأخيرة: أن اختيار الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لهذا الوقت من اليوم ( أي قبيل النوم ) لتنفيذ هذه الوصفة، له عدة دلالات: منها أن هذا الوقت هو ساحة تنشط فيها الوساوس والمضعفات والأفكار المزعجة والمثبّطة، ومن الأهمية بمكان مكافحتها عبر كلمات مطلقة معمّمة قوية المعنى ( الله أكبر - سبحان الله - الحمد لله) تردد صوتياً ويرجع صداها في نفس من يرددها، فتحدث راحة وصفاء في نفس ابن آدم تساعده على تحقيق نوعية جيدة من النوم Sleep Quality ** ، يعقبها في النهار راحة وقوة وقدرة أكبر على التفاعل والتكيف Adaption مع ظروف الحياة.
وهنالك دلالة أخرى هامة لاختيار التوقيت، وهي أن فترة قبيل النوم تمثل بوابة الدخول إلى ساحة تحت الوعي ثم اللاوعي Sub-conscience , Non-conscience عند الإنسان , ومن المعلوم أن ما يترسخ باللاوعي يفعل فعلاً كبيرا بأفكارنا الواعية العقلانية من البرمجة والتغيير ، وأفكارنا وقناعتنا هي من أهم العوامل التي تسعدنا أو تشقينا وتقوينا أو تضعفنا في هذه الحياة.
أعاننا الله على حسن الفهم وزادنا علماًَ إنه ولي ذلك والقادر عليه
إعداد الدكتور ملهم زهير الحراكي. أخصائي الطب النفسي العام والعلاج النفسي للأطفال والمراهقين
---------------------------------------
* ملاحظة: إن عصرنا الحالي ضعف فيه تمثل الكلمة المسموعة في الأذهان وبالتالي التأثر بها ، مقارنةً بالصورة البصرية ، فعصرنا عصر الصورة والحركة بامتياز. والسبب طبعاً يعود لوسائل الإعلام والتقنية. في حين كان القدماء شديدي التأثر بالكلمة المسموعة. لذلك كان لا بد لكل من اعتلى منبر التعليم ألا ينس أن معلومة حتى تفهم وتطبق لابد أن تصوّر في الأذهان كصورة عبر التخيل والتمثيل الحسي أو المشاهدة لصورة أو مقطع فيديو حتى نتناغم مع عصرنا.
** ملاحظة: راجع مقالة المبادئ الأساسية للنوم الصحي في الموقع.
ملاحظة ختامية: ولا تنتهي الوقفات والتأملات من كلام المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وكلما أنهيت الكتابة توقفني بعض عبارات الحديث متأملاً في معاني أخرى من كلامه ومواقفه صلوات ربي وسلامه عليه، استوقفني هذه العبارة من الحديث ((فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا فَذَهَبْتُ لِأَقُومَ فَقَالَ عَلَى مَكَانِكُمَا فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي)) ، تأملت هذا المكان الذي اتخذه عليه الصلاة والسلام بين ابنته وزوجها رضي الله عنهما ، وتساءلت مستعجباً : أيُّ حميمية وعاطفة يملكها ذلك الأب وذلك الحمى صلوات ربي عليه !!، تخيل معي عزيزي القارئ كيف كانت تلك الجلسة !!! ، وأي كلام سيسكب بعدها في آذنهما إلا وسيجد طريقه لا محالة إلى أعماق القلب والشعور و الفكر الواعي واللاوعي ليرسخ فيه كالمرساة لا يتزحزح ، ومن هنا كان صدى النصيحة النبوية يتردد كل يوم في حياة علي - رضي الله عنه - سلوكاً يؤديه قبيل نومه حتى في أشد الأوقات أوقات صفين !!!!.