المصطلح العلمي للعقل الذي سنتحدث عنه هنا هو العقل "الدوغمائي" أي العقل الوثوقي،العقل الذي يثق في معرفته ثقة تمنعه من اكتشاف نواقص هذه المعرفة أو التغيرات التي تجري عليها وحولها مع مرور الزمن. ووصف هذا العقل بالتحجر هو بسبب أنه يأخذ الكثير من صفات الحجر. فهو يأخذ من الحجر انغلاقه وصلابته وجموده. هذا العقل له آلية عمل تكاد تكون واحدة وإن اختلف المضمون. فالعقل الدوغمائي واحد مهما اختلفت العقيدة أو الأيديولوجية التي يتبناها.هدفنا هنا محاولة الكشف عن هذه الآلية وطريقة العمل التي يتعامل بها هذا العقل مما يعطينا الفرصة والقدرة على تطبيق هذه المعلومات على العقل الدوغمائي مهما تنوعت مضامينه وتوجهاته.
العقل المتحجّر إذن موجود في كل الثقافات والمجتمعات، الفرق أن هذه العقلية تمت دراستها في بيئات ثقافية عديدة فيما لا تزال هذه العقلية بعيدة عند الدرس والفحص والنقد في بيئات أخرى. الثقافة العربية غنية بالعقلية الدوغمائية بل إنها متشكّلة منها وتمثل فيها السيادة والمرجعية. أيضا في البيئة الثقافية والعلمية العربية لم تتم دراسة العقلية الدوغمائية بشكل يكشف عن طبيعتها وطريقة اشتغالها. وهذا غير مستغرب. إلا أنه وكما قلنا سابقا إن العقلية الدوغمائية المتحجرة واحدة في كل مكان وإن حدث اختلاف فهو في الدرجة لا في النوع.هذا يجعل من الاستفادة من الدراسات التي تعرضت لهذا الموضوع أمرا أساسيا وفي غاية النفع. من أهم من درس العقلية الدوغمائية المفكر الأمريكي"ميلتون روكيش".وأنا هنا سأعتمد بشكل أساسي على آرائه كما عرضها هاشم صالح في مقدمته لكتاب محمد أركون"الفكر الإسلامي... قراءة علمية".
يرى روكيش أن العقل الدوغمائي بتنوعاته يقوم على موقف حاد من مجموعتين من الأفكار والمبادئ فهو من جهة يؤمن إيمانا مطلقا بمجموعة من المبادئ ويتشكل منها ثم هو في نفس الوقت يأخذ موقفا حادا من الأفكار المخالفة لما يؤمن به. يقول هاشم صالح:" العقلية الدوغمائية ترتكز أساسا على ثنائية ضدية حادة هي : نظام من الإيمان أو العقائد/ونظام من اللاإيمان و اللاعقائد". أعيد التذكير هنا أن العقل الدوغمائي ليس بالضرورة عقلا دينيا ولكنه لا يتعامل مع الأفكار إلا من منظور الإيمان والاعتقاد. روكيش يرى أننا يمكن أن نحدد درجة دوغمائية أو وثوقية أو تحجر عقل ما بناء على مجموعة من المعايير . من أهمها : أولا : يمكن تحديد دوغمائية عقل ما من خلال حدة و شدة فصله بين المعتقدات التي يقتنع بها والمعتقدات التي يرفضها. نتذكر هنا نظرية الفسطاطين التي يطرحها العقل المتطرف الإرهابي مثلا حيث لا يستطيع أن يتصور أن في العالم سوى فريقين فريقه هو وفريق خصمه. لاحظ هنا مستوى الحدة والفصل وانعدام منطقة الوسط. هذه الفكرة هي ذاتها التي تطرحها الإدارة الأمريكية تحت شعار"إن لم تكن معي فأنت ضدي". ومن أجل أن يحافظ العقل الدوغمائي على هذا الفصل الحاد فإنه يؤكد باستمرار على الخلافات بينه وبين المخالفين له، أغلب خطابه يوجه لتحقيق هذا الهدف مما يضمن له عمليا تجييش أتباعه وشحنهم معه باستمرار.أيضا يهاجم هذا العقل أية محاولة للتقريب والحوار بين الطرفين. أتذكر هنا فتاوى تكفير كل من يشارك في حوار الأديان. هنا نجد تفسيرا علميا لهذا التكفير، فهذا الحوار بين الأديان كفيل بكشف نقاط تقاطع واشتراك بين المتحاورين ستؤدي إلى إحداث نوع من التقارب بينهما وهذا ما يخشاه ويخافه العقل الدوغمائي المتحجّر. أيضا يلجأ العقل المتحجّر إلى تجاهل وإنكار الوقائع التي تكشف زيف ادعاءاته. ولذا لا نستغرب أن نجد داعية ما يصور العالم الإسلامي على أنه العالم المتحضر والعالم الغربي يقبع في الظلام والتخلف متجاهلا كل الوقائع والأحداث التي تكشف زيف دعواه كما كان يفعل رئيس إحدى الدول الأفريقية البائسة والتي يموت الناس فيها من الجوع، حين كان يرسل طائرات إعانات لبريطانيا ودول أوروبا الغنية فقط انسياقا خلف جنونه الذي يعميه عن رؤية الحقيقة. أيضا لدى العقل الوثوقي قدرة على تقبل التناقضات داخل منظومته الفكرية وحياته. من شواهد هذا الأمر أن تجد شخصا ما يحارب أمريكا ويعتبرها عدوّه الأول وتجد سيارته أمريكية وأثاث منزله أمريكياً بدون أن يشعر بالتناقض.
ثانيا: من معايير الحكم على عقل ما بأنه دوغمائي متحجر أنه لا يميّز بين العقائد والأفكار التي يرفضها. فهو يضعها في سلّة واحدة هي سلّة الخطأ والضلال. دون أن يكلّف نفسه بالبحث في نقاط التقاء وتقارب مع الأفكار المخالفة. نلاحظ هنا أن المتشددين عندنا يجمعون غير المسلمين كلهم في دائرة الكفار دون أن يميّزوا بينهم بينما لو راجعنا الخطاب القرآني مثلا لوجدناه يستخدم أوصافا متنوعة ومختلفة.كـ "أهل الكتاب، النصارى، اليهود، بني إسرائيل، الناس، بني آدم، المشركين". لاحظ هنا تنوع الأوصاف وغياب الحدّية في التصنيف. تجد القرآن يمدح النصارى أحيانا ويحدد أنهم أقرب للمسلمين من غيرهم فيما يشكل خطابا متنوعا يعطي فرصة للمرونة في التعامل عكس الخطاب السائد اليوم الذي يضع المخالفين كلّهم في سلّة واحدة.
ثالثا : من معايير انغلاق عقل ما وثوقيته المغرقة وتكاثر المسلمات في منظومته الفكرية. فإن كانت كل منظومة فكرية تقوم على عدد بسيط من المسلمات تؤسس للفكر ثم تترك الحرية للناس أن يجتهدوا فإننا نجد أن مسلمات العقل الدوغمائي تتوالد باستمرار لتقفل كل منفذ هواء للاجتهاد والتفكير.ولذا تجد عندنا أن مقولات لأشخاص ربما عاشوا في القرن الثامن الهجري تتحول إلى مسلمات لا يجوز النقاش حولها أو نقدها. كذلك تجد أن التفاسير والشروحات والفتاوى تتحول من كونها اجتهادات بشر تقبل الصواب والخطأ إلى كونها مسلمات وثوابت لا يجوز المساس بها ومن اقترب منها تعرّض لأصناف الهجوم من تكفير وتفسيق وتضليل وغيرها من أدوات الإقصاء.
رابعا: تزداد وثوقية عقل ما وانغلاقه كلما توقف عند لحظة زمنية محددة وتشبث بها وعاش فكريا وروحيا فيها. مما يجعله لا يعيش واقعه ولا يفكر من خلاله وهذا ما يتسبب في غربته وإحداث تناقضات وانفصامات هائلة في اتباعه. دائما تكون هذه اللحظة في الماضي، لحظة نشوء الفكر أو لحظة وقوع أحداث مهمة وجذرية في تاريخه. العقل الوثوقي لا يفكر بمنطق تاريخي ولا يعترف بتغير الأزمان وتغير الظروف لأن من صفاته الثبات والاستقرار بينما منطق الحياة والواقع الحركة والتغير والتحول. يحاول العقل المنغلق أن يعوض غربته عن واقعه بأحلام وردية في المستقبل يعيشها لتملأ عليه خواءه وغربته وتناقضاته.
تمكّن هذه المعايير ، الأدوات ، من الاقتراب أكثر من فهم العقل الدوغمائي ، هذا الفهم اليوم يعتبر ضرورة في البيئة الإسلامية العربية ، من المهم البدء بهذا العمل الآن. العقل الدوغمائي متجذّر و يغلف الفهم العام ويعيق بشكل كبير كل محاولات النقد والانعتاق والتغيير والتنوير ، المحاولات التي لن يكتب لها النجاح ، برأيي ، دون تفكيك العقل الدوغمائي أولا.