سأضرب مثالا قد يبدو للوهلة الأولى بعيدا تماما عن السياق، لكنه يوضح الرؤية التي أود الانطلاق منها؛ عندما نحتار بين فكرتين و لا ندري أيهما الأصلح لنطبقه في واقعنا، نلجأ إلى الله في الاستخارة فنقول: “اللهم إنا نستخيرك بعلمك و نستقدرك بقدرتك” و هنا يتبين لنا الشقين الأساسيين في هذا الدعاء النبوي المعجز.
الشق الأول، نستخيرك بعلمك ؛ هنا لجوء إلى علم الله من أجل اختيار “الفكرة الصالحة”، و لكن لماذا لم ينتهي الدعاء إلى هنا و تمت إضافة الشق الثاني، “نستقدرك بقدرتك” ؟ أليس اللجوء إلى علم الله من أجل “امتلاك” الفكرة الصالحة كافيا؟ ما فائدة امتلاك الفكرة الصالحة إذا لم تتحول إلى واقع معاش إذن؟
إنها القدرة.. القدرة هي التي تجعل من هذه الفكرة واقعا مُفَعّلا ملموسا !
و بعيدا عن القدرة الإلهية المطلقة، و التي لا يُعجزها شيء في الأرض و لا في السماء، نتطرق إلى قدرة الإنسان النسبية و التي من خلالها يستطيع تفعيل أفكاره واقعيا، هذه القدرة التي تتميز بخصائص كثيرة متشابكة فيما بينها أحاول توضيحها حسب ما توصل إليه تأملي، و أقسمها بذلك إلى صنفين:
قدرة الإنسان الروحية: و هي مرتبطة بكيان الإنسان الداخلي و بتفاعله الروحي مع الفكرة محل التفعيل.
قدرة الإنسان المهراتية: مرتبطة بملكات و مهارات الإنسان وبتفاعله مع الواقع الذي هو مجال التفعيل.
وانطلاقا من هذه الخطاطة التي حاولت من خلالها تلخيص الكيفية التي يتم بها تفعيل الأفكار و العوامل المساعدة على ذلك، يظهر بوضوح أن بعض العوامل مرتبطة بتفاعل الإنسان مع الفكرة و البعض الآخر مرتبط بتفاعله مع الواقع. إذ لا يمكن تفعيل فكرة في واقع ما دون مراعاته و دراسة حيثياته و امتلاك أدواته، كما أن مراعاة الواقع و التمكن منه لا تغني عن ضرورة تشرب الفكرة و التفاعل معها روحيا.
أسرد العوامل إذن، كما وضحتها في الرسم مع شيء من التفصيل:
العوامل المتعلقة بالتفاعل مع الفكرة محل التفعيل:
- الإيمان بالفكرة:
امتلاك الفكرة، بمعنى العلم بها، معرفتها و الوعي بها ليس كافيا، إنما تحتاج الأفكار إلى إيمان ! ذلك الإيمان الذي يجعل من الأفكار جزء لا يتجزأ من كيان الإنسان، ذلك الإيمان الذي يشكل منها قناعة لا تتزعزع و جوهرا لا يتلاشى و لا يغير الوجهة إذا ما غيرتها رياح الواقع، فهي تظل ثابتة صلبة في مكانها، عميقة بما يكفي كي تتمثل واقعا في جوارح الإنسان الذي لن يكون أمامه سوى الاستجابة لروحه..
ولقد عبر عن ذلك الدكتور أديب الدباغ بشكل ممتاز عندما قال: “عندما لا يملأك الشعور بأن دعوتك هي قلب الكون، و روح الوجود، و أنها صمام أمن و أمان له، فكيف تواتيك الشجاعة لمواجهة العالم كله؟ !”[i]
- الحماس لها:
الحماس هو وليد الإيمان و الاعتقاد الشديد بالفكرة ، و لا يمكن التعويل على تفعيل فكرة ما إذا لم يتوفر الحماس لها، فهو كالوقود الذي يحرك عجلة العمل، و يبث روح الإقناع ، ولهيب كلمات إنسان متحمس هو الذي قد يغرس إيمانا بالفكرة في قلوب أخرى غير قلبه، و حماسه هو الذي ينشط جوارحه كي تكدح و تعمل في سبيل تفعيلها.
- علو الهمة و قوة العزيمة:
قد يؤدي الحماس إلى رفع الهمة، و لكن الهمة العالية وحدها من يجعل من الحماس مستمرا و ليس مرحليا آنيا فقط. الهمة العالية هي جوهر الفعل الإنساني، هي الرصيد الذي يضمن الأمد الطويل للفكرة، وكما قال ابن الجوزي فإن الهمة خروج النفس إلى غاية كمالها الممكن لها في العلم والعمل[ii]. أما قوة العزيمة فهي التي تولد الإصرار و تساعد على تخطي العقبات.
العوامل المتعلقة بالتفاعل مع الواقع مجال التفعيل:
- فهم الواقع و التأقلم معه:
في الخطاطة أعلاه، بينت أن الواقع يتكون من ثلاث أسس؛ المكان/الزمان/الإنسان، و هي كلها أمور متغيرة لا يمكن أن تخضع للتعميم، و لذلك فهي تحتاج إلى فهم، ثم إلى تأقلم.
إذ لا يمكن أن نشرع في تفعيل فكرة ما في بيئة ما، دون مراعاة العوامل المكانية و الزمنية و الإنسانية، فهناك أفكار تكون صالحة لمكان ما، و غير صالحة في غيره، و هناك منها ما كان مناسبا لعصر من العصور، و لم يعد كذلك، و هناك من الأفكار ما يمكن تطبيقه على شريحة إنسانية ذات فكر وثقافة محددين، في حين أن تطبيقها على أناس آخرين قد لا يكون مناسبا.
و لذلك فإن فهم الواقع بأبعاده الزمنية والمكانية و الإنسانية فهما عميقا عبر دراسته دراسة متأنية و ممحصة، يبدو في غاية الأهمية قبل الشروع في عملية التفعيل للأفكار فيه.
وبعد الفهم و الاستيعاب الجيدين للواقع سيكون لابد من التأقلم، ومن المؤكد أن ما أقصده بالتأقلم ليس هو تصغير حجم الفكرة لتحاكي الواقع، أو تشويها كي تتناسب معه.. ما أقصده بالتأقلم هو المرونة في الطرح .فأي فكرة في تصورها النظري لن يتم تنزيلها واقعيا إذا ما سلكت طريق الجمود، فالواقع يتطلب نوعا من المرونة و القابلية للتغيير أحيانا، و للتنازل أحيانا أخرى، و لكن دون أن يكون هذا التنازل يضر بقيمة الفكرة في حد ذاتها، و هنا لا بد من الحكمة من أجل تقديم المصالح العليا دون إفراط أو تفريط..
- مهارات القيادة:
القيادة هي ملكة أساسية لإنجاح أي مشروع، فلا يوجد مشروع ناجح ما لم يكن له قيادة ناجحة، و ما المشاريع في النهاية إلا أفكار نحتاج إلى من يمتلك القدرة على التأثير في سلوك الآخرين و توجيه سلوكهم من أجل إنجاحها، و هذا هو الدور التي يلعبه القائد، و من الملاحظ أن أغلب الأفكار التي تم تنزيلها على أرض الواقع تكون مرتبطة بأشخاص و رموز كان لهم الفضل في هذا التأثير و التوجيه. لذلك فغياب الأشخاص القياديين قد يتسبب في ضياع و اندثار الأفكار الجيدة.
- أدوات الإدارة:
الإدارة هي مجال الفعل و التفعيل و التطبيق و التنزيل الواقعي، و امتلاك أدواتها هو الذي يجعل الفكرة تنتقل من كونها مجرد حلم غير واضح المعالم في الذهن، إلى فكرة واضحة ناصعة، لها رؤيا و أهداف و مراحل و أبعاد إستراتيجية، إذ أن المهارات الإدارية هي التي تسهل عملية التنزيل الواقعي و تساعد على تصحيح الأخطاء و تداركها، و تجعل من تطبيق الفكرة يتسم بخطوات واضحة في مسار واضح يتبين لك منه قدر الإنجاز و مكامن الخلل، و شكل المسؤولية. إنه انتقال بالفكرة من عالم الهواية إلى عالم الاحتراف، و إنه سبيل لا مناص منه من أجل تنزيل محكم، متقن و فعّال.
معادلة تفعيل الأفكار:
تفعيل الأفكار = قدرة روحية + قدرة مهراتية
= (إيمان×حماس×همة) + (فهم×قيادة×إدارة)
و أخيرا، إن الأفكار الأصيلة الهادفة للإصلاح تحتاج إلى جهد كبير من أجل تفعيلها، ” فليست المشكلة أن نًعلم المسلم عقيدة هو يملكها، وإنما المهم أن نرد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية وتأثيرها الاجتماعي” كما قال مالك بن نبي، بل و لقد أوضح أكثر مكمن داء “اللافعالية” إذ قال: “إن الذي ينقص المسلم ليس منطق الفكرة ولكن منطق العمل والحركة، فهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاما مجردا بل أكثر من ذلك فهو يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيرا مؤثرا، ويقولون كلاما منطقيا من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط”.
سهام أمسغرو
منقوووووووووووول