لقد نشطت الأبحاث الأثرية مؤ ُ بهدف الكشف عن حقيقة هذه العصور السحيقة وبغرض إلقاء مزيد من الضوء على تلك الفترة التاريخية الهامة من حياة البشرية وتوصلت تلك الأبحاث والدراسات إلى نتائج غاية في الأهمية بالنسبة لكثير من الأحداث الجسام في هذه العصور، ومنها حادثة الطوفان التي تمت في عهد نبي الله نوح- عليه السلام-وفى الفترة من عام )1922-1934( قامت بعثة من المتحف البريطاني وجامعة بنسلفانيا للتنقيب والبحث.وأثبتت البعثة أن الطوفان الذي حدث أيام نوح كان حوالي عام4300 ق.م،كان في العراق ولم يشمل الكرة الأرضية كلها بل كان سيلا فياضا طغى على وادي دجلة والفرات وأغرق كل المنطقة المأهولة بين الجبال والصحراء ،وأن هذه المنطقة كانت بالنسبة لسكانها هي الدنيا بأسرها.وقضى هذا الطوفان على مظاهر العصر الحجري الحديث التي كانت سائدة حتى ذلك العصر في تلك المنطقة)1)
واكتشف (سير هنري أوستن لبار)ألواح فخارية تضم منسوجات وتجمعات لنصوص يرجع تاريخها إلى سنة(2000ق.م)وبين هذه الألواح (ملحمة جلجامش) التي تحكى قصة الطوفان والتي جاءت تأكيدا مذهلا لما يذكره سفر التكوين)2).
وذكرت التوراة في الإصحاح الثامن من سفر التكوين أن مرسى سفينة نوح هو أراراط،((واستقر الفلك في الشهر السابع فى اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط .)3)
وإذا علمنا أن أراراط فى عبرية التوراة يعنى أرمينية نفسها فلم يسم سفر التكوين جبلا بعينه لمرسى سفينة نوح وإنما قال ببساطة إن السفينة رست على جبال أرمينية)4)
ويرى الدكتور رءووف أبو سعدة أن الناس تناسوا أو أنسوه،فوهموا أن ثمة جبلا بعينه اسمه((أراراط))رست عليه السفينة،وأن رحالة عثروا فى قمته على حطام رجحوا أنه حطام ((الفلك المشحون))،رغم أن الفلك لم يتحطم على قمة الجبل بل رست السفينة بسلام(قيل يانوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) (هود:48) (5)
ولو تمعنا النظر في مراحل بدء الطوفان وانحساره ورسو الفلك وقارنا بين ماذكره سفر التكوين من ذلك وبين ما قاله القرآن .نجد أن سفر التكوين ينبئنا أن السفينة رست على جبال أراراط في السابع عشر من الشهر السابع لبدء الطوفان وكانت المياه تنقص نقصا متواليا إلى الشهر العاشر،وفى العاشر في أول الشهر ظهرت رءووس الجبال وكانت المياه تنقص نقصا متواليا وفى الشهر العاشر فى أول الشهر ظهرت رءووس الجبال(6)
ومن ذلك نفهم أن السفينة رست قبل نحو 73 يوما من ظهور رءوس الجبال وعلى أي الجبال رست إن لم تكن قد رست على أعلاها. بل وعلى أمعنها ارتفاعا الذي يصل ارتفاع إحدى قمتيه كما تقول المعاجم إلى 182و 5 متر وهذا غير منطقي لأنه بالغ المشقة على نوح والذين معه شبابا وشيوخا ونساء وأطفال الذين سيهبطون إلى السهول من هذا الارتفاع الشامخ،وتثبت التسمية فى المعاجم الاوروبيةعلى أن السفينة رست على جبل في أرمينية شرقي تركيا قرب حدود أرمينية المشتركة مع إيران يبلغ إحدى قمتيه حوالى128 و5مترا0(7)
ويذكر القرآن الكريم ((وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربى لغفور رحيم )8()كان بسم الله مجراها ومرساها،أي كان بسم الله حملها على سفح الماء،وكان باسمه عز وجل إهباطها إلى سفح من الأرض،شاطئ نهر أو ناحية جبل، و أن الماء غيض أولا،ثم استوت السفينة ،استوت بعد أن غيض الماء تماما حتى استوت السفينة على قاع من الأرض ،هبط إليه نوح بسلام (( وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء اقلعي وغيض الماء واستوت على الجودىوقيل بعدا للقوم الظالمين)9)
ونفهم من ذلك أن القرآن الكريم ذكر أن السفينة استقرت على الجودى،وقد ورد ذكره في القرآن الكريم مرة واحدة .. وهنا يتبادر سؤال للذهن .. هل الجودى اسم جبل كما ذكره مفسرو القرآن الكريم والمؤرخون أم اسم مكان..؟
يذكر ابن عبد المنعم الحميري فى الروض المعطار فى خبر الأقطار:أن الجودي هو الموضع الذي استوت عليه السفينة وذكر أنه ثلاثة أجبل بعضها فوق بعض، يصعد إلى الأول وفي أعلاه جب للماء ثم يصعد إلى الثاني وفي أعلاه جب للماء أيضاً ثم يصعد إلى الجبل الثالث وهو الذي استقرت عليه السفينة،وهناك حجر يقولون إن عليه نزلت وهو شبيه سفينة،)10)
ويذكر القرطبي في تفسيره إن الجودى من جبال الجنة ،ولهذا استوت السفينة عليه ويقال :أكرم الله ثلاثة جبال بثلاثة نفر ،الجودى بنوح،وطور سيناء بموسى ،وحراء بمحمد-صلى الله عليه وسلم -،ويرى أن الله تعالى أوحى إلى الجبال أن السفينة ترسى على واحد منها فتطاولت الجبال ،وبقى الجودى فلم يتطاول تواضعا لله فاستوت السفينة عليه وبقيت على أعوادها،وفى حديث للرسول صلى الله عليه وسلم قال)) لقد بقى منها شيء أدركه أوائل هذه الأمة((.
وقال مجاهد تشامخت الجبال وتطاولت لئلا ينالها الغرق فعلا الماء فوقها 15 ذراعا من الجودى وتواضع لأمر الله تعالى ورست عليه السفينة(11).
ويذهب ابن سعد في طبقاته إن الجبل الذي استوت عليه سفينة نوح-عليه السلام –هو جبل الحصينين في ارض الموصل بالعراق وأن نوحا هبط إلى قرية، فبني كل رجل من الثمانين الذين كانوا معه في السفينة،وهم بنوه ونساء بنيه وثلاثة وسبعون من بني شيث فسميت بذلك سوق الثمانين،ولما ضاقت بهم سوق الثمانين تحولوا إلى بابل(12)
ويذكر الشيخ محمد متولي الشعراوى أن الجبل الذي رست عليه السفينة هو جبل قرب الموصل ناحية الكوفة في العراق(13)
ويورد النويرى رواية غريبة فيقول: قال أبو الوليد الأزرقي، ورفعه إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان مع نوح عليه السلام في السفينة ثمانون رجلاً معهم أهلوهم، وإنهم كانوا في السفينة مائة وخمسين يوما، وإن الله جل ثناءه وجه السفينة إلى مكة فدارت بالبيت أربعين يوماً، ثم وجهها إلى الجودي فاستقرت عليه. )14)
ويرجح الدكتور رءووف أبو سعدة أن )الجودى( )الذى فى الموصل على ماذكره مفسرو القرآن،فليس بالضرورة الجودى المعنى فى القرآن الكريم،بل هو جبل تسمى بهذا الاسم بعد نزول القرآن،
ويذهب جوزيف هوريفيتز إلى أن القرآن الكريم أراد تسمية الجودى وهو جبل في بلاد العرب، نقل مرسى نوح من أرمينية إلى بلاد العرب كي يخصها بهذا الشرف،وزعم بأن النبي صلى الله عليه وسلم- عرف الجودى فى وطنه،فوهم أنه أعلى الجبال قاطبة وهذا قول بعيد تماما عن الصحة ،لان الجودى هو اسم لكل جبل)15( ومنه قول عمرو بن نفيل
سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجودى والجمد)16)
ولو بحثنا في المعاجم العربية عن معنى الجودى كما ورد ذكره في القرآن الكريم،فيذكر لسان العرب أن الجودى موضع وقيل جبل وقال الزجاج:جبل بآمد وقيل استوت عليه سفينة نوح عليه السلام وفى التنزيل العزيز وقرا الأعمش ((واستوت على الجودى)) بإرسال الياء وذلك جائز للتخفيف ثم أدخل عليه الألف واللام عن الفراء،وفى موضع آخر عن ابن سيرين أنه كان يختار الصلاة على الجد إن قدر عليه والجد بالضم وتشديد الدال هو شاطئ النهر والجدة أيضا وبه سميت المدينة التي عند مكة
وعن الأعرابي أن جدة النهر بضم الجيم وقيل جدته بضم الجيم أيضا هو مايقرب من الأرض،وقيل جدته ضفته وشاطئه،وعن الأصمعي أن أصله نبطي كد فأعربت.
وعن أبى عمرو قال:كنا عند أمير فقال جبلة بن مخرمة :كنا عند جد النهر فقلت:جدة النهر فما زلت أعرفهما فيه)17)
وفى المعجم الوسيط: من الجد بمعنى جانب الشيء وشاطئ النهر وناحية الجبل(الجد)بضم الجيم أو (الجدة)وهى في العبرية جاداه ومنه اسم الميناء المعروف جدة بالسعودية)18)
والجودى في العربية هي المنسوب إلى الجود أي )ذو الجود(وجاد المطر يعنى كثر،والجود بفتح الجيم يعنى المطر الغزير الذي لا مطر فوقه
ونعلم بأن الجبال العالية التي تذوب ثلوجها في الربيع تقيض أنهارا وسيولا ومنها جبال أرمينية منابع الفرات.،وبعد ذلك نتساءل هل الجودى أصله (الجدي)المنسوب إلى الجد بضم الجيم هو المرسى ،واستعيض عن تشديد داله بمد حركة جيمه،وإن صح ذلك ،كان معنى استوت على الجودى والله أعلم ،إن السفينة رست على مرساها لا أكثر ولا أقل دون تحديد لموقع)19)
وفى النهاية ننتهي إلى انه لا خلاف بين التوراة والقرآن في تسمية مرسى نوح ،لا لأنهما تطابقا ،وإنما لأن التوراة عممت،بمعنى أن السفينة رست في أرمينيا)20(وخصص القرآن الكريم وذكر بأن مرسى السفينة كان الجودى)21(, والله عنده علم الكتاب
منقول للفائدة