وهل يستطيع الإنسان أن يغيّرَ نفسَه ، ويُسعِدَ حياته .؟! فأينَ قدرُ الله إذن .؟! وأين ما يتحدّث الناسُ عنه من الحظوظ ، التي هي في نظرهم أشبهُ بالمنايا ، تخبط فيهم خبط عشواء .؟! إنّها إشكاليّة تثار في الأذهانِ وعلى الألسنة ، كلّما دُعيَ الإنسان إلى التغيير ، وإلى بذل الجهد وتحمّل المسئوليّة ..
ومن ثمّ فقد أردت أن أقطع الطريق عليها بهذا العنوانِ المستوحى من الآية الكريمة : ( .. إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .. ) الرعد .
وتوضيحاً لهذا الأمر بما لا يدع مجالاً للريب ، فإنّ الإنسان يستطيعُ في هذه الحياة أن يصنعَ مستقبله الزاهرَ ، ويشيد برجَ سعادته بيديه مستمدّاً عون ربّه وتوفيقه قبل كلّ شيء .. وذلك منطقُ التكليف الذي تقوم عليه حياة العباد في هذه الدنيا ، وهو سرّ وجودهم فيها ..
وإذا كان علماء النفس والاجتماع يختلفون ، ويشتدّ الجدل العقيم بينهم ، والتنازعُ بغير جدوى : أيّ الأمرين أشدُّ تأثيراً في حياة الإنسان وأعمقُ نفوذاً : الوراثةُ أم البيئة .؟! فإنّ ممّا ينبغي ألاّ يختلفَ عليه اثنان : أنّ الإنسان أعطي الإرادةَ والهمّةَ والعزيمةَ ، ليكون له قوّة التغيير لما يكون عليه بفطرته ، وما يرثه من بيئته ، وليكون في نهاية المطاف مسئولاً عن عمله ، مجزيّاً بسعيه ..
فإن لم ينل بسعيه ما تصبو إليه نفسه ، وتسمو إليه همّته فحسبه أن ينال الأجر على نيّته الصادقة ، وافياً غير منقوص ..
فقد يكون الإنسان ذكيّاً بفطرته ، أو متوسّط الذكاء أو غبيّاً .. وقد يكون هادئ الطبع ، أو حادّ المزاج عصبيّاً .. وقد ينشأ في بيئة متقدّمة ، أو متخلّفة ، فقيرة أو غنيّة .. وقد يعتاد عاداتٍ حسنةً ، أو سيّئة .. ولكنّه يستطيع في ذلك كلّه ألاّ يكونَ كأمثاله سلباً أو إيجاباً .. وواقع الحياة يشهد بهذه الحقيقة ، ويقدّم عليها ما لا يحصى من الأمثلة ..
ـ يستطيع حادّ الذكاء أن يوظّف ذكاءه في عمل جادّ مثمر ، فيكون ذكاؤه خيراً عليه ، وعلى مجتمعه وأمّته ، كما يستطيع أن يوظّف ذكاءه في الشرّ والمكر والفساد ، فيكون مجرماً عاتياً ، ويكون ذكاؤه شرّاً عليه ، وعلى مجتمعه وأمّته ..
ـ ويستطيعُ محدود الذكاء أن يبذلَ جهداً أكبر ويجتهدَ ، فيسبق من هو أذْكى منه ، وأوفرُ حظّاً في المال ، ورقيّ البيئة ..
ـ ويستطيع الناشئ في بيئة فقيرة متخلّفة أن يسبق أولي الجدّ والغنى ، ومن توفّرت لهم كلّ أسباب الرقيّ والتقدّم ..
وكم رأينا في الناسِ نماذج من ذلك : فكم من فقير معدِمٍ أصبح من أثرياء العالم .؟! وكم من وارثٍ لمجدٍ مؤثّل ، وغنىً لا يحيط به نظر أو فكر .. آل أمره إلى فقر مُدقِعٍ ، وعُدمٍ موجع .؟! ومقدّمات ذلك ظاهرة لمن نظر وتدبّر ، وبحث عن الأسباب ، ووضع يده على العلل ..
ومن ظنّ الأمر ضرباً من الحظّ الأعمى ، لا معنى له ولا تبرير ، فقد ركب مركب الشطط الأحمق ، وتمادى في سوء الظنّ بربّه ، والجهل بحكمته وعدله ، ولم يفقه سنن الحياة ، ولم ينتفع بعبرها .. ولا يظلِمُ ربّك أحداً ..
وإنّ العظماء بحقّ هم الذين نهضوا ببيئتهم ، وسموا بأحسابهم وأنسابهم ، ولم يركنوا إلى تراث موهوم ، ولا مجد مزعوم ..
ولعلّ هذه المقدّمة كافية بين يدي خطوط عامّة لمنهج ، يحقّق لمن يأخذ به التغيير الإيجابيّ ، ويسعد حَياتَه بإذن الله :
1 ـ وأوّل هذه الخطوط العامّة : الإيمان الصادق بالله تعالى ، وما يقتضيه من حقائق إيجابيّة ، كالتوكّل على الله ، وتعلّق القلب بالله ، وتَفويض الأمر إليه ، والاعتقاد الصادق أنّه سبحانه مالك الملك ، وأنّه النافع الضارّ وحده ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع .. وهي حقائق تشمل حياة الإنسان من أوّلها إلى آخرها ، وكلّ ما نذكره بعدها داخلٌ فيها بوجه أو بآخر ..
2 ـ وإنّ من حكمة الله الظاهرة ظهور الشمس في رابعة النهار أنّ الله تعالى ربط الأسبابَ بالمسبَّبات ، والنتائج بالمقدّمات ، ففقه سنن الله تعالى ، والعمل وفقها ، والأخذ بالأسباب التي أقامها لابدّ له من ثمرة بإذن الله ، فكيف يتسرّب اليأس والقنوط إلى نفس من يحمل هذه العقيدة ، ويُقعِدُ همّتَه ، ويقتل طموحه .؟!
وما أكثر الذين يهملون الأخذ بالأسباب ، وينتظرون أن يبتسم لهم الحظّ ، ويبحثون عنه هنا وهناك ، حتّى من أبواب الحرام .؟! ويضيّعون أعمارهم بمثل هذا العبث .!
3 ـ والتصوّر الصحيح للمثل الأعلى من أهمّ ما يعين الإنسان على التغيير في نفسه ، وإسعاد حياته ، وهو يحمل عدّة معانٍ أهمّها :
أ ـ أنّه القيم العليا التي يؤمن بها الإنسان ، ويقيم حياته عليها ، ولا يرضى أن يتنازل عنها أمام أيّ ضغطٍ من الضغوط ..
والإيمان بأسماء الله تعالى وصفاته ، وما يليق به جلّ وعلا من صفات الكمال يضع للإنسان القيم العليا التي يجب أن يؤمن بها ، ويتطلّع إلى تحقيقها ..
2 ـ وهو بمعنى آخر : " الإنسان الكامل " ، الذي يكون الأسوة الحسنة للإنسان في كلّ شأنٍ ، وليس من أحدٍ كذلك إلاّ النبيّ المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ، فقد أمر الله العباد بذلك ، فقال تعالى : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً (21) ) الأحزاب .
وهذا الأمر يقتضي أن يدرس المؤمن سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم دراسة المحبّ الصادق ، الحريص على التأسّي والاتّباع ، وأن يعرف سننه الكريمة ، وشمائله العظيمة في كلّ شأن من شئون الحياة .
ولا يتمّ للإنسان هذا الأمر إلاّ بالتلقّي عن العلماء العاملين ، ومجالستهم ، ودراسة سىر الصالحين وتراجم حياتهم ، وتدبّر كلامهم ، وقد كان لهم أوفر الحظّ من ميراث النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهديه في العلم والعمل ، فلا عجب أن كانوا منارات الهدى للناس في كلّ عصر ..
والتلقّي عن العلماء العاملين لا يعني الرجوع إليهم في كل شأنٍ فحسب ، بل ينبغي أن يكونَ الإنسان قريباً من العلماء قربَ المشْورة الدائمة ، وطلب النصح في كلّ خصوصيّاته ، وذلك ما يجعل الإنسان على بيّنة وهدىً في جميع أموره ..
4 ـ ومن الخطوط العامّة لمنهج التغيير الإيجابيّ : علوّ الهمّة ، والثقة بالنفس ، من غير عجب بها ولا غرور ، " فما ترك من الجهل شيئاً من رضي عن نفسه " ، وعلوّ الهمّة من الإيمان ، وهو يدلّ على شرف النفس وسموّها ، وتطلّبها لمعالي الأمور ، ونفرتها من الدنايا ، وأيّ شيء يدعو دنيّ الهمّة إلى التغيير .؟! وإنّ الله تعالى يحبّ معالي الأمور ، ويكره سفسافها ، وما أحسن قول الشاعر :
وإذا كانت النفوس كباراً تعبتْ في مرادها الأجسامُ
ويقترن علوّ الهمّة بالثقة بالنفس ، فلابدّ لعالي الهمّة من أن يكون واثقاً بنفسه ، ثقة تعينه على العمل بهمّة ، وتذلّل له العقبات ، ولكنّ آفة الثقة بالنفس في كثير من الناس أنّها تبلغ حدّ العجب بالنفس والغرور ، فبينهما حجابٌ رقيق ، لا يدركه كثير من الناس ، ولا يميّزونه .. والعجب بالنفس والغرور هو من ضيق عَطَن الإنسان ، وقلّة خبرته بالحياة ، ومعرفة ما عند الآخرين من طاقات وإبداعٍ ..
5 ـ ومن الخطوط العامّة لمنهج التغيير الإيجابيّ : قطع العوائق ، والتخفّف من الملهيات والعلائق ، فالعوائق تقتل الطموح ، وتصدّ عن تحقيق الأماني ، وكثرة الاشتغال بالملهيات والعلائق يُضيّع العمر في توافه الأمور ، ويجعل الإنسان يدور في فلك ضيّق ، لا يحقّق هدفاً ، ولا يبني شرفاً .. والاعتدال أصل في حياة المسلم لا معدى عنه .. وما أكثر ما تضيع الأعمار بالملهيات ، وتقتل بتوافه الأشياء .! فلا يصحو الإنسان على نفسه إلاّ بعد ضياع الشباب والصحّة والفراغ ..
6 ـ ومن الخطوط العامّة لمنهج التغيير الإيجابيّ : الحذر كلّ الحذر من غلبة اليأس من النفس ، وسوء الظنّ بالآخَرين ، فما من شيء يقعد الإنسان عن العمل ، ويقتل فيه روح الجدِّ والطموح مثلُ اليأس من إصلاح النفس ، ومن قدرتها على تغيير واقعها .. وما اصطاد الشيطان الإنسان في شَرَك لا فكاك له منه ـ إلاّ أن يشاء الله ـ مثل ما اصطاده في شرك اليأس وَالقُنوط من رحمة الله ، ومبدأ ذلك اليأس من إصلاح النفس .. وهو وسوء الظنّ بالآخَرين أخوان متلازمان ، وصنوان لا يفترقان ..
فاليأس من إصلاح النفس ، يعطّل طاقات الإنسان ، ويجعله يتآكل ويضمحلّ ، وسوء الظنّ بالآخَرين .. يمنع من رؤية محاسنهم ، والانتفاع بهم ، فيتأكّد في نفسه اليأس من التغيير .. وتلك مهلكة الإنسان ومقتله ..
7 ـ ومن الخطوط العامّة لمنهج التغيير الإيجابيّ : الحرص على الاستخارة والاستشارة في الأمور كلّها ، فالاستخارة من علامات قوّة الإيمان بالله تعالى ، وما خاب من استخار ، ولا ندم من استشار ، ومن استشار جمع إلى عقله عقل الناس ، وإلى علمه علم غيره وخبرته ..
وإذ كان الإنسان أمام اختيارات عديدة في كلّ مرحلة من مراحل حياته ، فالاستخارة والاستشارة يمكن أن تحدّد له الاختيار الأفضل لمسيرة حياته ، وحسن مآله ..
وينبغي أن يستشار في كلّ شأن أهل الخبرة فيه والاختصاص ، وأن يُحسِن الإنسانُ اختيار من يستشيره ، فما كلّ من كان قريباً من الإنسان تحسن استشارته ، والأخذ برأيه ، وأوّل شرط في المستشار أن يكون من أهل العقل والحكمة ، والدين والأمانة ، والخبرة في الحياة ، المشهود لهم بحسن الفهم والنظر في العواقب ..
وبعد ؛ فما أسهلَ الكلامَ وأصعبَ العملَ ! وما أحسنَ البيانَ إذا ترجمَ إلى عمل ! بل ما أحسن البيان العمليّ ، الذي يتّصل بالقلب ، ويحرّك المشاعر .! أفتطمعُ أيّها المربّي والداعية ! في تغييرِ منْ حولك ، وما حولك ، وتلومُ مَن يُقصّرُ في ذلك ، وأنت تعجزُ عن تغييرِ نفسِك ، ولا تلومها على ذلك .؟!
وقد يظنّ بعض من يقرأ هذا المقالَ أنّه ملْتزمٌ بهذه الحقائق لا يخرجُ عنها ، ولو دقّق النظر في حياته وسلوكه لرأى أنّه إذا أخذ ببعض هذه الحقائق ، فإنّه لا يلتزم بهَا كلّها ، وإذا التزم بها في بعض الأمور ، فإنّه لا يلتزم بهَا كلّ شأن .. وربّما كانت ضرورتُه إليها فيما لا يلتزم به فيها أشدَّ وأكبرَ .. وإنّما ينبغي أن تكون هذه الحقائق هدي سيرة ومنهج حياة ، لِتُؤتي ثمراتها الطيّبة في تقويم السلوك ، وسداد المواقف ، والله الموفّق والهادي إلى سواء السبيل .!