الغزو الثقافي وسائل وأهداف
عدد مرات المشاهدة 1961
لقد سبق الغزو العسكري لبلاد المسلمين غزو ثقافي لبناء رأس الجسر الذي سوف يعبر عليه الغزو العسكري لبلاد المسلمين، وهذا ما تنبه إليه الغرب الكافر حين هُزم لويس التاسع وقال عقب هزيمته (لنبدأ حرب الكلمة فهي وحدها القادرة من تمكيننا من هزيمة المسلمين) ثم أعقبه غلاديستون في بريطانيا بعد ذلك بقرون حين قال (إنه لا يمكن السيطرةُ على المسلمين مادام هذا الكتاب (القرآن) باقياًَ في الأرض).
لقد أدرك هؤلاء أن الغزو العسكري يضر بالغزاة أكثر مما يحقق أهدافهم ، فهو يحرك في الأمة عاطفة الولاء للدين والدفاع عن بيضته، وأما الغزو الثقافي فهو لا يعتمد المواجهة أو استخدام القوة، إلا أنه أكثر خطراً وأنفع للغزاةِ من نواحٍ كثيرة:-
1) إنه يفقد المعرضين للغزو الإستعداد مما يوقعهم في أحابيله بسهولة ويسر ، بل ويتفادى جميع أسباب المقاومة والدفاع التي يمكن أن يتعرض لها في حالة المواجهة بالقوة.
2) إنه يجد له أتباعاً وأنصاراً لايستنكفونَ عن التعاون معه إما عن طريق إنخداعهم به أو بظنهم بأن ما يفعلونه هو لصالح امتهم أو ظنهم أن خيانتهم لا يمكن ان تنكشف للناس بل ويُعتبروا من المجددين.
3) أنه يسير وقليل التكلفة مع أن نتائجه أبعد مدىً من نتائج الغزو العسكري، فالغزو العسكري تنتهي آثاره بانسحاب الجيش في حين أن أثر الغزو الثقافي تبقى آثاره في عقول وقلوب أُناس كثيرين، فنابليون مثلاً بقيت جيوشه في مصر ثلاث سنين(1799-1802) ولكن آثار غزوه الثقافي ما زالت في مصر إلى اليوم.
4) إن وسائل الغزو الثقافي ناعمه وخادعه ومحفوفة بالشهوات كطريق جهنم، والإستجابة إليها أسرع وأكثر بخلاف وسائل الغزو العسكري المنفرة والتي تقوم على القتل والدماء.
5) إن قادة الغزو الثقافي يختفون في الغالب عن مسرح العمليات ويعملون من خلال عملائهم من أبناء المسلمين وفي وضح النهار وتحت سمع القانون وبصره لا بل وقل وحمايته ويلخص هذا الفهم ما قاله اللورد كرومر ( إن الإسلام دين صحراوي وإننا لا أمل لنا إلا بالمتفرنجين الذين يكونوا أيدٍ مصرية مع عقول أوروبية).
وأما أهدافه فإنها:-
1) ضرب الإسلام من الداخل عن طريق إضعاف فاعليته وعزله عن التأثير في حياةِ المسلمين فلا يتقيدونَ بأحكامه ومن ثم تحويله إلى دين كهنوتي لا يأبه بالحياةِ ولا يتقيد الناس بعلاقتهم به لا من قريب ولا من بعيد، وتوهين المسلمين وإشاعة روح اليأس في النفس المسلمة بل وتشويه الإسلام تشويهاً يسقطه من نظر أهله ومن ثم يتطلعونَ إلى مَثل أعلى عند أصحاب الحضارةِ الغارقة والفكر الوثني الزائف مخدوعين بذلك البريق الزائف الذي يتمثل في الأضواء والشهوات والأوحال.
2) منع الإسلام من الإنتشار خارج ديار المسلمين وفرض الإقامة الجبرية عليه حتى تسهل مهاجمته وجعله محصوراً على غرار حاضرةِ الفاتكان ضمن حدود لا يتجاوزها وذلك بإثارةِ دعوات تحديد النسل والإنفاق عليها وإشاعة ثقافة الجنس لتتحلل الأسرة المسلمة، والحيلولة دون وصول التكنولوجيا الصناعية إلى بلاد المسلمين وفي هذا يقول القس المبشر (لورنس براون) وهو أحد أقطاب المبشرين في العالم ( ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام وفي قوته على التوسع والإخضاع وفي حيويته، إنه الجدار الوحيد في وجهة الإستعمار الأوروبي).
وتقول مجلة العالم الإسلامي الإنجليزية ( إن شيئاً من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي، ولهذا الخوف أسباب: منها أن الإسلام منذ أن ظهر في مكة لم يضعف عددياً بل هو دائمٌ في إزدياد وإتساع، ثم إن الإسلام ليس ديناً فحسب، بل إن أركانه الجهاد، ولم يتفق قط أن شعباً دخل الإسلام ثم عاد نصرانيا).
3) إثارة الشبهات والسموم حول مفاهيم الإسلام الأساسية وخاصة مفهوم الإسلام وما يعنيه هذا الإسلام بوصفه منهج حياة حتى أصبح الإختلاف بين المسلمين على تعريف الإسلام بل وإلحاق ما ليس منه به ؛ فشعار (الإسلام هو الحل) شعار لا يختلف عليه مسلم ومسلم ولكن الإختلاف قائم حول فهم الإسلام حتى أُلحق به وصف أو قُل أوصاف عديدة مثل إسلام معتدل إسلام اصولي إسلام متطرف وإسلام سياسي وإسلام ديمقراطي وإسلام اشتراكي وإسلام واقعي وحدث بعد ذلك ولا حرج ! .
ومن هذه الشبهات أيضاً فيما يزعمه القسيس هارولد سميث ( من أن جميع الصياغات اللفظية نسبية ومن ثم فهي غير معصومة ويجب تعديلها بين حين وآخر ويقول ( وليست القوانين الإنسانية في أحسن صورها إلا تقريباً للقانون الإلهي وهي لهذا يحكم عليها بالقصور ويتضح قصورها عندما تقاس بما تقرره الإرادة الإلهية من مطلقات وهذا يشعر المشرعين بالحرية في أن يعدّلوا ويحسنوا وأن يلائموا بين قوانينهم وبين الأحوال المتغيرةِ التي تواجه العالم الحديث) الإسلام والحضارة الغربية صـ 153 محمد محمد حسين.
ومثال ذلك ما ورد في مجموعة رسائل الإمام الشهيد - رسالة المؤتمر الخامس ص175...177...178 القاهرة دار الشهاب ( كثيراً ما تتوزع أفكار الناس في هذه النواحي الثلاث الوحدة القومية (الوطنية) والوحدة العربية والوحدة الإسلامية ثم تنطلق الألسنة بالموازنةِ بينها والتشيع لبعضها دون البعض الآخر فما موقف الإخوان من هذا الخليط من الأفكار والمناحي ..؟؟ ) ثم أجاب ( إن الإخوان المسلمين يحترمون قومياتهم الخاصة بإعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود ولا يرون بأساً بأن يعمل كل إنسان لوطنه وأن يقدمه في العمل على سواه ، ثم هم بعد ذلك يؤيدون الوحدةَ العربية بإعتبارها الحلقة الثانية في النهوض ، ثم هم يعملونَ للجامعة الإسلامية بإعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام ).
وحول هذه الفكرة يقول المستشرق ( سميث و . ك في كتابه ( الإسلام والعصر الحديث 1957) إن العرب المسلمين لا يعتبرون غير المسلمين من بني جنسهم كاملي العروبة كما أنهم لا يعتبرون المسلمين من غير العرب كاملي الإسلام.
وهذا عبد الحميد بن باديس ( جمعية العلماء المسلمين ) في ذكرى المولد النبوي الشريف يكتب مقالاً تحت عنوان ( محمد صلى الله عليه واله وسلم رجل القومية العربية ) يقول (واختار الله محمداً صلى الله عليه واله وسلم رسول الإنسانية ورجل القومية العربية الذي نهتدي بهديه ونخدم القومية العربية خدمة ونوجهها توجيهه ونحيا لها ونموت عليها وعيد مولده الشريف هو عيد الإسلام والعروبة والإنسانية كلها) كتاب آثار بن باديس مجلد 2 ص21.