الذي يسكن في أعماق الصحراء يشكو مر الشكوى لأنه لا يجد الماء الصالح للشرب.
والمليونير ساكن باريس الذي يجد كل ما يحلم به، يشكو الكآبة و الخوف من الأماكن المغلقة والوسواس والأرق والقلق.
والذي أعطاه الله الصحة والمال والزوجة الجميلة يشك في زوجته الجميلة ولا يعرف طعم الراحة.
و الملك الذي يملك الأقدار و المصائر و الرقاب تراه عبدا لشهوته خادما لأطماعه ذليلا لنزواته.
وبطل المصارعة أصابه تضخم في القلب نتيجة تضخم في العضلات.
كلنا نخرج من الدنيا بحظوظ متقاربة برغم ما يبدو في الظاهر من بعد الفوارق.
وبرغم غنى الأغنياء و فقر الفقراء فمحصولهم النهائي من السعادة و الشقاء الدنيوي متقارب.
فالله يأخذ بقدر ما يعطي و يعوض بقدر ما يحرم و ييسر بقدر ما يعسر..
ولو دخل كل منا قلب الآخر لأشفق عليه و لرأى عدل الموازين الباطنية برغم اختلال الموازين الظاهرية..
ولما شعر بحسد و لا بحقد و لا بزهو و لا بغرور.
إنما هذه القصور و الجواهر و الحلي و اللآلئ مجرد ديكور خارجي من ورق اللعب..
وفي داخل القلوب التي ترقد فيها تسكن الحسرات و الآهات الملتاعة.
والحاسدون والحاقدون والمغترون والفرحون مخدوعون في الظواهر غافلون عن الحقائق.
ولو أدرك السارق هذا الإدراك لما سرق ولو أدركه القاتل لما قتل ولو عرفه الكذاب لما كذب.
ولو علمناه حق العلم لطلبنا الدنيا بعزة الأنفس ولسعينا في العيش بالضمير ولتعاشرنا بالفضيلة فلا غالب في الدنيا ولا مغلوب في الحقيقة
والحظوظ كما قلنا متقاربة في باطن الأمر ومحصولنا من الشقاء و السعادة متقارب برغم الفوارق الظاهرة بين الطبقات..
فالعذاب ليس له طبقة وإنما هو قاسم مشترك بين الكل..
يتجرع منه كل واحد كأسا وافية ثم في النهاية تتساوى الكؤوس برغم اختلاف المناظر وتباين الدرجات والهيئات
وليس اختلاف نفوسنا هو اختلاف سعادة وشقاء وإنما اختلاف مواقف..
فهناك نفس تعلو على شقائها وتتجاوزه وترى فيه الحكمة والعبرة وتلك نفوس مستنيرة
ترى العدل و الجمال في كل شيء وتحب الخالق في كل أفعاله..
و هناك نفوس تمضغ شقاءها وتجتره وتحوله إلى حقد أسود و حسد أكال..
وتلك هي النفوس المظلمة الكافرة بخالقها المتمردة على أفعاله.
وكل نفس تمهد بموقفها لمصيرها النهائي في العالم الآخر.. حيث يكون الشقاء الحقيقي.. أو السعادة الحقيقية..
فأهل الرضا إلى النعيم وأهل الحقد إلى الجحيم.
أما الدنيا فليس فيها نعيم ولا جحيم إلا بحكم الظاهر فقط
بينما في الحقيقة تتساوى الكؤوس التي يتجرعها الكل.. والكل في تعب.
إنما الدنيا امتحان لإبراز المواقف.. فما اختلفت النفوس إلا بمواقفها وما تفاضلت إلا بمواقفها.
وليس بالشقاء والنعيم اختلفت ولا بالحظوظ المتفاوتة تفاضلت ولا بما يبدو على الوجوه من ضحك وبكاء تنوعت.
فذلك هو المسرح الظاهر الخادع.
وتلك هي لبسة الديكور والثياب التنكرية التي يرتديها الأبطال
حيث يبدو أحدنا ملكا والآخر صعلوكا وحيث يتفاوت أمامنا المتخم والمحروم.
أما وراء الكواليس.
أما على مسرح القلوب.
أما في كوامن الأسرار
وعلى مسرح الحق و الحقيقة..
فلا يوجد ظالم ولا مظلوم ولا متخم ولا محروم..
وإنما عدل مطلق و استحقاق نزيه يجري على سنن ثابتة لا تتخلف
حيث يمد الله يد السلوى الخفية يحنو بها على المحروم وينير بها ضمائر العميان ويلاطف أهل المسكنة
ويؤنس الأيتام والمتوحدين في الخلوات ويعوض الصابرين حلاوة في قلوبهم..
ثم يميل بيد القبض والخفض فيطمس على بصائر المترفين ويوهن قلوب المتخمين ويؤرق عيون الظالمين ويرهل أبدان المسرفين..
وتلك هي الرياح الخفية المنذرة التي تهب من الجحيم والنسمات المبشرة التي تأتي من الجنة..
والمقدمات التي تسبق اليوم الموعود..
يوم تنكشف الأستار وتهتك الحجب وتفترق المصائر إلى شقاء حق وإلى نعيم حق..
يوم لا تنفع معذرة.. ولا تجدي تذكرة.
وأهل الحكمة في راحة لأنهم أدركوا هذا بعقولهم وأهل الله في راحة لأنهم أسلموا إلى الله في ثقة
وقبلوا ما يجريه عليهم ورأوا في أفعاله عدلا مطلقا دون أن يتعبوا عقولهم فأراحو عقولهم أيضا،
فجمعوا لأنفسهم بين الراحتين راحة القلب وراحة العقل فأثمرت الراحتان راحة ثالثة هي راحة البدن..
بينما شقى أصحاب العقول بمجادلاتهم.
أما أهل الغفلة و هم الأغلبية الغالبة فما زالوا يقتل بعضهم بعضا من أجل اللقمة والمرأة والدرهم وفدان الأرض،
ثم لا يجمعون شيئا إلا مزيدا من الهموم وأحمالا من الخطايا وظمأً لا يرتوي وجوعا لا يشبع.
فانظر من أي طائفة من هؤلاء أنت.. واغلق عليك بابك وابك على خطيئتك.