قد يكون لإيماءات الصامتين صوت أعلى من أى صوت، وربما تكون إشاراتهم أبلغ من أى حديث، وقد تكون أنّات صدورهم أفصح من أى رسالة، فليس الصيام عن الكلام عجز عن التعبير، وليس الامتناع عن البوح بمكنونات الضمائر عجز عن استخدام مفردات اللغة، إنما لكل وقت لغته، ولكل حدث حديثه، ولا يدرك ذلك إلا العقلاء الذين تساوت عندهم حالة الصمت مع حالة الكلام، أو الحكماء الذين ينقشون بالصمت أروع الكلمات، ويصنعون بالصمت أجمل المواقف.
إن الكلام مثل الحركة، والصمت مثل السكون، والبشر يحتاجون بين الحين والحين إلى لحظات توقف وسكون لترتيب الأفكار، وتنظيم الخطوات، ولملمة شظايا النفس المبعثرة فى متاهات الهوى والبحث عن التافه والمجهول من عرض الدنيا، وهنا يكون الصمت لحظة تجول وتحول، تجول فيما مضى لمراجعة النفس ومحاسبتها، وغربلة المواقف وفرزها، وتصحيح المسار كشأن الأذكياء الذين يتعلمون من سقطاتهم وأخطائهم، ثم يتحولون من الخطأ إلى الصواب، ومن الكبوة إلى النهوض والمواصلة.
إن الثرثرة بعثرة لما مضى فى دروب النسيان أو التناسى، وطمس لما انقضى من مآثر وفضائل ولو كانت مثل الجبال، وحَجْرٌ وحَجْبٌ طويل الأمد على الآتى من الفعل والقول، فالإنسان يخسر خسرانًا كبيرًا إن سبق لسانه عقله، وإن تغلبت شهوة كلامه على فطرة صمته، بل إن المجتمع يخسر إن كَثُر فيه الضجيج الذي تتوارى بين أنقاضه شاهقة الحق، وتضيع فى متاهاته بَيِّنَةُ الرشد، فلا يتبين الناس الطريق، ولا يهتدى الخلق إلى صواب، لأن الكل يثرثر، فلا مجال للسمع أو للتعقل.
أن الكلام بلا روية كشف للهوية، وإظهار للطوية، وبيان لحالة المتكلم، ومن ثم زوال غموضه وتَكَشُّف أسراره، وعليه فلا تعب ولا نصب فى استبيان ما أراد أن يخفيه، وهذه أحد دروب السذاجة.. أن تكون بائعًا لا مشتريًا، وأن تكون متحدثًا لا مستمعًا، فيومًا ما سوف يجف بئر الكلام، أو سوف يزهدك الغير من كثرة التكرار، والدوران فى نفس المدار، وسوف يصبح الحكم عليك أمرًا سهل المنال، بعدما كشفت نفسك للآخرين بلا ثمن، إذ قدمت لهم الفرصة بكثرة الكلام الذى لا يفرضه موقف أو تستوجبه قضية.
يجب أن نعرف متى يجب أن نتكلم؟، ومتى يجب أن نصمت؟، فليس الصياح والعويل دليل حياة، وليس الرد العشوائى الانفعالى أسلوب دفاع، ومن حكمة الخالق أن خلق لنا لسانًا واحدًا وخلق لنا أذنين كى نسمع أكثر مما نتكلم، بل ووضع على جارحة اللسان سدَّين..أسنان وشفتين.. كى لا تخرج الكلمة إلا نقية هادفة مؤثرة.
وهنا أتذكر حكمة نطق بها لسان خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز لما سُئل: متى تحب أن تتكلم؟، قال: أحب أن أتكلم عندما أشتهى الصمت، قيل له: ومتى تحب أن تصمت؟، قال: أحب أن أصمت عندما اشتهى الكلام، والمغزى من وراء هذه الحكمة رائع للغاية، خاصة عندما يصدر من صاحب أكبر منصب بدولة الخلافة، فالكلام عند اشتهاء الصمت سيكون مغلفاً بالحكمة، ممزوجاً بالتأنى، محاطًا بالتعقل، ومن ثم يمضى نحو أهدافه بلا إثارة، والصمت عند اشتهاء الكلام وقار وهيبة، وكبح لجماح مفردات متأججة، ومن ثم تضييق الخناق على بواعث الشر ومكامن التناحر، وعليه فالصمت على طول الخط سلبية مخيفة، والكلام على طول الخط مصيبة وفضيحة.
وبنظرة سريعة على واقعنا المتوتر نجد أن كمًا هائلاً من المشكلات التى تهدد استقرار المجتمع يكمن فى العجز عن الصمت، وما الأخبار الكاذبة، والشائعات المغرضة، والفتاوى المنحرفة، والشعارات البراقة، والنميمة، والغيبة إلا أمراض خطيرة تنشرها كلمات رنانة فى محيط المجتمع، فتزلزل استقراره وتهدد أمنه.. نعم إن اختلاف الرأى وتباين الرؤى أمر طبيعى بين البشر لأنهم هكذا خُلقوا، لكن يجب أن نواجه أنفسنا بعدة أسئلة قبل أن نتحدث عن حق الاختلاف.. يجب أن نعلم أولاً لماذا نختلف؟، وكيف نختلف؟، وما هى مبررات الاختلاف؟، وما هى أهداف الاختلاف؟، حتى لا يكون الاختلاف مجرد معارك كلامية جدلية لا تسمن ولا تُغنى من جوع.