هناك خيط رفيع يفصل بين الاكتشاف العلمي والاختراع، فالاكتشاف يتحقق عندما يتوصل الإنسان إلى فهم ظاهرة ما موجودة في الطبيعة أو في المجتمع، ويحول هذا الفهم إلى نظرية أو قانون يفسرها الظاهرة، ويحدد العوامل التي تحرّكها وطريقة السيطرة عليها.
بهذا المعنى، نقول: إن الإنسان اكتشف القوى الكامنة في عوامل الطبيعة كالريح والنار والماء، كما نقول إن نيوتن اكتشف قانون الجاذبية، في حين اكتشف جاليليو حركة دوران الأرض حول الشمس، وأينشتين النظرية النسبية.. إلخ.
لكن منذ أن بدأ الإنسان يسخر قوى الطبيعة والمواد الموجودة فيها لتحسين ظروف حياته، فقد أخذ بذلك يتحول تدريجياً إلى مخترع، فالاختراع إذن يقوم على استغلال الخامات المتوافرة في الطبيعة وتحويلها إلى مواد جديدة أو عدة أو آلة أو أسلوب جديد، فالمخترع هنا كالفنان يستخدم عقله والخامات والعدة المتاحة له ليخلق معجوناً جديداً يعطيه الفنان أشكالاً تعبيرية مختلفة، في حين أن المخترع يحول هذا المعجون إلى أشكال وأشياء تزيد من فعالية وإنتاجية الإنسان والمجتمع.
وتجدر الملاحظة إلى أنه من الممكن أن يتحول الاكتشاف إلى اختراع في مراحل لاحقة، وهكذا بعد أن اكتشف الإنسان النار في الطبيعة، واكتشف إمكان توليدها من خلال فرك قطعتين من الصوان، فقد توصل بعد ذلك إلى اختراع طرق وأساليب أخرى لتوليد النار، واختراعه للكبريت وعود الثقاب هو إحدى الطرق الممكنة، وبالمعنى نفسه، فإن النظرية الذرية هي اكتشاف علمي تحول فيما بعد إلى اختراع الذرة والأسلحة الذرية. وإذا كان من الضروري التفرقة بين الاكتشاف العلمي والاختراع، فإنه غالباً ما يكون من الصعب تحديد ما إذا كانت مادة أو سلعة جيدة تشكّل في الواقع اكتشافاً أو اختراعاً.
شخصية المكتشف
من الواضح أن عملية الاكتشاف والاختراع لا يمكن فصلها عن شخصية المكتشف أو المخترع أو المؤسسات التي تشرف على هذا النشاط. وهناك مدرستان فكريتان أساسيتان في مجال تحليل العملية التي تقود إلى الاكتشاف أو الاختراع، وفي تحديد هوية المكتشف أو المخترع.
ويربط أصحاب المدرسة الأولى عملية الاكتشاف والاختراع بظهور عدد قليل من الأفراد العباقرة يأخذون على عاتقهم دور الريادة في مجال الاكتشافات العلمية والاختراعات، وفي هذا المجال يقول الكاتب الفرنسي رينيه تاتون إن تحقيق اكتشاف علمي مهم يتطلب فرداً يملك حاسة حدس قوية ومواهب واضحة في المنهجية العلمية، وجرأة فكرية لا تنكر.
وبالمعنى نفسه تقريباً، يقول العالم الفرنسي الشهير هنري بوانكري الذي يعتبر أحد أكبر عباقرة الرياضيات في القرن العشرين بأن الحدس عند العالم هو جوهر الاكتشاف.
وهكذا فالاكشافات والاختراعات الكبرى راجعة إلى عباقرة من أمثال أرخميدس وجابر بن حيان وابن الهيثم والرازي وابن سينا وكبلر وجاليليو ونيوتن ووات وباستور وأينشتين وأديسون وسلسلة طويلة من العلماء والفنيين وحتى بعض العمال المهرة.
أما المدرسة الفكرية الثانية فلا تنكر أهمية العباقرة عند بعض الأفراد الذين أتوا بالاكتشافات والاختراعات العظيمة، إلا أنها لا تقبل بالتسليم بخرافة أن يكون تقدم العلوم والتكنولوجيا خلال التاريخ راجعاً فقط إلى دور عدد من العباقرة، لأن تقدم التكنولوجيا يعكس اهتمام الحضارة في فترة ما. وبقدر ما يكون الرجل عظيماً بقدر ما يكون منغمساً في بيئة زمانه، ولهذا السبب بالذات يستطيع أن يدرك واقعه ويكون قادراً على إحداث تغيير جذري في نمط المعرفة والفعل.
الحاجة أم الاختراع
وبهذا المعنى، فإن التوصل إلى اكتشافات واختراعات مهمة يكون مرتبطاً بالحاجات الملحة التي تواجه المجتمع، وبطبيعة العلاقات والحوافز السائدة أو المتاحة في المجتمع، وإذا كان من المستحيل التنبؤ بلحظة حصول اكتشاف أو اختراع ما، فإن أي اختراع أو اكتشاف لا يمكن استغلاله والاستفادة منه علمياً واقتصادياً واجتماعياً، إلا إذا كان المستوى العام للمعرفة والعلوم والاقتصاد متلائماً مع تحقيق مثل هذه الاستفادة والاستغلال، فهناك في التاريخ اكتشافات واختراعات مهمة ضاعت، أو استغلتها حضارات أخرى. لعدم توافر حوافز ومستوى كاف من التقدم الاقتصادي والاجتماعي في البلد الذي تم فيه الاكتشاف أو الاختراع أصلاً، أو لأن القيم الاجتماعية السائدة كانت عائقاً لاستخدام واستغلال هذه الاكتشافات والاختراعات في مجالات تتناقض مع هذه القيم. وهكذا فإن الصين - مثلاً - كانت السبّاقة في اختراع البارود إلا أنها اكتفت باستخدامه في مجال الألعاب النارية، في حين أنه بعد أن أوصله العرب إلى أيدي الأوربيين تحول إلى مادة للتفجير والدمار، وكذلك هناك الكثير من الاكتشافات والاختراعات العربية لم يحسن العرب استغلالها لأن تطورهم الاقتصادي والاجتماعي والقيم السائدة آنذاك لم تساعد على ذلك، وذهبت كلها تقريباً بما في ذلك المنهجية العلمية عند العرب لقمة سائغة إلى أوربا. وأكثر ما ينطبق ذلك على الاكتشافات العربية الحاسمة في البصريات والكيمياء والفيزياء والطب والفلك، فنادراً ما نجد في تاريخ البشرية أن تكون حضارة كالحضارة العربية قد قامت بالزرع، وجاءت حضارة أخرى مثل الحضارة الأوربية لتقطف الثمار وتقلع الأشجار والأغصان وتنقلها إلى أرضها.
وهكذا عندما تصبح حاجة المجتمع ملحة، وعندما تتوافر الحوافز والقيم الملائمة، وعندما يصل مستوى تقدم العلوم والاقتصاد إلى الحد المناسب، يصبح ظهور الاكتشاف أو الاختراع المطلوب مسألة وقت، وتصبح قدرة المجتمع على استغلال الاكتشاف أو الاختراع أمراً محسوماً، عندما يتزاحم العلماء والمخترعون على تحقيق السبق.
وهذا ما يفسر حدوث الاكتشاف أو الاختراع في الوقت نفسه تقريباً من قبل أكثر من فرد وفي أكثر من مكان، أو كما قال أحدهم عندما تنضج اللحظة يصبح الاكتشاف أو الاختراع أمراً لا مفر منه، أو كما عبّر عن ذلك كاتب آخر بأنه لكي يتم الاكتشاف يجب أن يكون ناضجاً.
الصدفة لمن يستحقها
ويضيف البعض أن الصدفة تلعب دوراً مهماً في بعض الاكتشافات أو الاختراعات، فكم من الاكتشافات والاختراعات تمت على أيدي أشخاص غير متخصصين، وفي لحظة لم يكونوا يبحثون عن اكتشاف أو اختراع في مجال ما أو كم من المرات تم اكتشاف أو اختراع شيء من قبل أناس كانوا يبحثون عن أمور أخرى، وتوصلوا إلى اكتشافهم أو اختراعهم بالصدفة. وإذا كان من الواضح أن الصدفة لعبت بالفعل دوراً في بعض الاكتشافات والاختراعات المهمة، فإن كثيراً من الصدف قد مرت من دون شك بغير أن تتحول إلى اكتشافات علمية لأن الأشخاص الذين واجهوا مثل هذه الصدف لم تكن عندهم الفطنة والاستعداد لاستغلالها. واكتشاف البنسلين بالطريقة التي تم بها يبرر رؤية العالم الفرنسي باستور بأنه في مجال البحث، فإن الصدفة لا تساعد إلا العقول المهيأة.
وفي مجال البحوث النظرية أو الأساسية، فإن العالم أو الباحث بوانكري يرى بأنه بالإضافة إلى حاسة الحدس التي يجب أن يتمتع بها العالم، فإن اللاوعي عند العالِم أو الباحث يلعب دوراً مهماً في التوصل إلى الاكتشافات النظرية المهمة، ومن خلال تجربته الشخصية التي تكللت بنجاحات نظرية مهمة في مجال الرياضيات، يصف لنا العالِم المراحل والحالات التي مرّ بها قبل التوصل إلى نظرياته، فقد توصل إلى أحد أهم اكتشافاته نتيجة الصدفة حيث إن تناوله القهوة مرة منعه من النوم طيلة الليل الذي أمضاه في التفكير، ويقول بوانكري بأن العالم عندما يواجه مشكلة صعبة، فنادراً ما يستطيع أن يجد حلاً لها في أول محاولة، لكن بعد أخذ فترة راحة تطول أو تقصر، فإن العالم وهو جالس أمام مكتبه يجد نفسه فجأة أمام الفكرة التي تفتح أمامه طريق الحل للمسألة المطروحة. ويرجع بونكاري ذلك إلى عمل اللاوعي خلال فترة الراحة التي تعيد العقل إلى قوته وبرودته.
وما إن تتحقق لحظة الإلهام حتى يتوجب على العقل أن يستخلص في الحال النتائج، ثم يرتب ويصنّف هذه الخلاصات، ويأتي بالبراهين للتأكد من صحتها.
وإذا ركزنا للحظة على الاختراعات العلمية، فإن الكاتب المعروف «أوشر» يميز بين أربع خطوات يمر بها الاختراع قبل أن يتكلل بالنجاح. في الخطوة الأولى يتم تحديد مشكلة معينة يتوجب حلها، وفي الخطوة الثانية يتم تجميع المعلومات والبيانات المتعلقة بالمشكلة بقدر ما تكون متوافرة ومتاحة. أما الخطوة الثالثة فيحدث خلالها إدراك من قبل العالِم أو المخترع لطبيعة المشكلة المطروحة، ويظهر فجأة الحل. أما الخطوة الرابعة والأخيرة فيتم خلالها إعادة تقويم للمشكلة وللحل، ويتم وضع المشكلة والحل في إطار أوسع قابل للتعميم.
ضرورة الحرية
وهناك شبه إجماع بين المهتمين بأن من أهم الشروط الأساسية والضرورية للبحث والاكتشاف والاختراع العلمي توافر الحرية.وقد عبّر عن ذلك الكاتب الفرنسي رينيه تاتون بأن العلوم لا يمكن أن تتطور بشكل طبيعي، إلا إذا تمتع العلماء بحرية كاملة في التفكير والتعبير. وكل شكل من أشكال إخضاع وتقييد الفكر يحمل في طياته أسوأ الأثر بالنسبة للتقدم العلمي. وأسوأ أنواع الإخضاع الفكري وتقييده يتجسد في المسلّمات العقائدية أي الدينية والسياسية والفلسفية السائدة في المجالات التي يخضع تحليلها للعقل والمنطق والاختبار، والمصير الذي آل إليه جاليليو في هذا المجال يقدم مثالاً حياً على ذلك.
كذلك من المتطلبات التي تساهم في خلق البيئة العلمية والبحثية الملائمة أن يكون العلماء الكبار المسيطرون على العلوم في مرحلة وبلد ما مستعدين للأخذ بأيدي العلماء الناشئين. وأن يكونوا منفتحين على أفكارهم الجديدة والحديثة والتي لم يتم جمعها في نظريات واضحة، كما لم يتم بعد اختبار صحتها.
فتشجيع هؤلاء وعدم تيئيسهم من قبل العلماء الأكبر سناً ومعرفة، وتوجيههم بشكل ذكي باتجاه التركيز على العناصر الإيجابية والواعدة في أفكارهم يعتبر أمراً غاية في الأهمية. ذلك أنه لوحظ أن نظرة بعض العلماء الكبار مع تقدمهم في السن إلى النظريات التي أتوا بها أو ساهموا فيها تصبح نظرة دوغماتية لا تقبل النقد، وإذا كانت سلطة مثل هؤلاء العلماء واسعة أكثر من اللزوم، فقد يستغلونها لإسكات منتقديهم من العلماء الشباب وبذلك فإنهم يساهمون في كبح تقدم العلوم.
وإذا كان علماء الاقتصاد لم يعطوا حتى فترة حديثة اهتماماً يذكر لمسألة شروط الاختراع، فقد أخذوا في الآونة الأخيرة يسلطون النظرية الاقتصادية وأدواتها التحليلية القوية على هذا الموضوع الحسّاس.
وحتى فترة حديثة نسبياً كانت عملية الاختراع تتم على أيدي الأفراد، وانطلاقاً من مبادرة وحوافز فردية وإدراك ذاتي عند المكتشف أو المخترع بحاجة ملحة عند المجتمع. لكن منذ نقطة معينة في القرن التاسع عشر يصعب تحديدها بالضبط، وإن كانت في الثلث الأخير منه بدأت عملية الاكتشاف والاختراع تنتظم في إطار مؤسسات متخصصة عامة أو خاصة تجمع بين التمويل المطلوب والعلماء والفنيين وخطط البحث النظري والتطبيقي الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى تطوير السلع والأساليب الإنتاجية والإدارية المعروفة واستحداث ما هو غير معروف.
وهكذا شاهدنا تاريخياً تفتت المصدر التقليدي للاكتشاف والاختراع: المكتشف الفرد في مكتبه أو مختبره أو المخترع في معمله أو ورشته، فقد اختفى تدريجياً المخترع الذي كان يستوحي حاجات السوق والذي كان ينتقل بعد ذلك إلى إيجاد الممول المناسب من أجل بناء النموذج الأصلي Prototype، والذي كان يبحث بعد ذلك عن القادرين على استغلال الاختراع في العملية الإنتاجية.
العمل الجماعي والاكتشافات
تطورت عملية الانتقال من تصميم الاخترع إلى إدخاله في العملية الإنتاجية بشكل معقد إلى درجة تتطلب تعبئة قدرات تقنية كبيرة، ومتداخلة التخصصات ومصادر تمويلية مهمة.
وهذا لا يعني - بالطبع - اختفاء دور المكتشف أو المخترع الفرد، أو اختفاء دور المؤسسات الصغيرة أو المتوسطة الحجم في عملية الاكتشاف والاختراع وعملية البحث والتطوير Research and Development، وإن كان هذا الدور قد تضاءل عمّا كان عليه في السابق بما لا يقبل الجدل.
فقد أظهرت دراسة علمية جادة أن 50 من المخترعين الذين شملتهم الدراسة كانوا جامعيين، وأن أكثرية هؤلاء كانوا مهندسين وكيميائيين وأخصائيين في الصناعات المعدنية ومدراء مراكز بحوث وتطوير.
كما أظهرت دراسة أخرى أن معظم الاختراعات المهمة تأتي على أيدي مخترعين في سن الشباب تتراوح أعمارهم في الغالب بين ثلاثين وأربعة وثلاثين عاماً، فقد جاء متوسط العمل لـ554 مخترعاً شملتهم الدراسة المذكورة في حدود السابعة والثلاثين عاماً، والأرجح أن يكون السبب في السن المبكرة لصاحب الاكتشافات والاختراعات العلمية راجعاً إلى كون العقل البشري يصل إلى ذروة قدرته على العطاء قبل سن الأربعين، وبعض المختصين يخفضها إلى سن الثلاثين عند أكثرية الناس. إلا أن تاريخ الاكتشافات والاختراعات يثبت أن هناك من حقق أهم اكشتافاته أو اختراعاته بعد سن الخمسين أو حتى الستين. غير أن هذه الاستثناءات من شأنها إثبات القاعدة العامة أكثر من إلغائها. كذلك أظهرت واحدة من أكثر الدراسات جديّة أن أكثر من 50 من أصل 61 اختراعاً مهماً في القرن العشرين تحققت على أيدي أفراد لا يعملون لمصلحة شركات كبرى، وإنما لحسابهم الخاص. على أنه يجب ملاحظة أن معظم الاختراعات التي تحققت على أيدي أفراد أو شركات صغيرة وقعت عاجلاً أو آجلاً في أيدي الشركات الكبرى، التي تملك إمكانات مالية هائلة لتطوير الاختراع الأصلي وتسويقه. وأحسن مثال على ذلك اختراع شركة يونيفاك للحاسب الإلكتروني الذي استطاعت شركة أي.بي.إم IBM العملاقة أن تضع يدها عليه وتطوّره وتسوّقه ثم تحتكره لمدة طويلة، فما إن يصبح الاختراع ناجحاً ومربحاً من الناحية التجارية حتى يظهر أن الشركات ذات الحجم الصغير والمتوسط التي تحقق على أيديها الاختراع أقل قدرة من الشركات الكبرى الوطنية والمتعددة الجنسية على استغلال واستنفاد الإمكانات التجارية للاختراع، وذلك نتيجة التفاوت الكبير في الحصة التي تتمتع بها كل منها في السوق المحلية والدولية، ونتيجة التفاوت الكبير في ميزانية الترويج والإعلان المتاحة لكل منها. وهكذا فإن نسبة مهمة من الاختراعات التي تحققها الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم تنتهي في أيدي الشركات الكبرى من خلال آليات مختلفة، أهمها استيعاب وضم الشركات المخترِعة بكسر الراء، وعليه فإن دور هذه الشركات يشبه دور أنابيب الاختبار لمصلحة الشركات الكبرى. ولكل هذه الأسباب، يمكن القول إن دور الشركات الكبرى في الإنتاج ، وبالأخص في إتمام المستحدثات التكنولوجية من الناحية التقنية والتجارية هو دور مهيمن وبالأخص من الناحية الكميّة.
ويمكن القول بوجه عام إن الاكتشافات العلمية الكبرى أكثر قدرة على خلق آثار وتموجات قوية في مجال المعرفة، في حين تكون الآثار والتموجات التي يخلقها الاخترع أقل بكثير، إلا في حالات نادرة كما حصل مع اختراع التلسكوب، وهذا ما يؤكده الكاتب المعروف ج.ج تومسون حين يقول بأنه إذا كان البحث العلمي التطبيقي يؤدي إلى إحداث تعديلات في المعرفة، فإن البحث في العلوم البحتة يؤدي إلى ثورات علمية. فالأبحاث الأساسية هي الأصل الذي يغذي الفروع في يومنا هذا، والفروع هي الاختراعات والتحسينات اليومية المتواصلة.
شخصية العالم
رأينا كيف أن بوانكري يجد أن من أهم صفات العالم امتلاكه لحاسّة الحدس لأن الاكتشاف يتطلب قبل كل شيء القدرة على التمييز والاختيار بين عدد كبير من الإمكانات والبدائل النظرية المتاحة.
بالإضافة إلى حاسة الحدس، هناك صفات أخرى مشتركة بين معظم العلماء، فعالِم النفس بول سوريان - على سبيل المثال - يرى أن العالِم يملك صفة العناد والكبرياء والتي تشكّل المصدر الأساسي للنشاط الإبداعي والذي يتجسّد في رغبة العالم العميقة في المشاركة في عملية التقدم البشري وفي اكتشاف الحقيقة.
وهذه الرغبة عند العالِم هي التي تمنحه الطاقة على مجابهة شتى المصالح المكتسبة المادية والأدبية والأحكام والمسلمات والروتين، ويخرج من هذه المعركة المريرة منتصراً.
ويتصف العالِم أيضاً بالموضوعية والحياد العلميين، ويعني ذلك أن يكون هدف العالِم الوحيد هو بلوغ الحقيقة مهما كانت طبيعتها، ولو تعارض ذلك مع توقعاته ومع مصالحه المادية والأدبية. وتتطلب هذه الخاصة قدرة عالية عند العالم لكبح نوازعه الذاتية وتفضيلاته المسبقة، ودرجة عالية من التجرّد والسمو فوق العوامل الذاتية بأنواعها.
كما يفترض في العالِم درجة قصوى من النزاهة التي تتجسد في الاعتراف بإنجارات العلماء الآخرين الذين سبقوه وفي عدم خلق الانطباع بأنه أول من كتب في موضوع معين حتى عندما يكون ذلك صحيحاً، إذ إن هذه المهمة تترك لمؤرخي العلوم. وهكذا فإن صفة النزاهة ترتبط في أحد جوانبها بصفة التواضع العلمي، دون أن يعني ذلك إلغاء الثقة بالنفس ودرجة من العناد العلمي التي يملكها معظم العلماء، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك.
ومن الصعب - إن لم يكن من المستحيل - للإنسان أن يصبح عالِماً، إن لم يكن يتحلى بروح النقد الذاتي ونقد الآخرين من العلماء. فبالنسبة لنقد الآخرين فإن ذلك يعني أنه يتوجب على العالِم أن يملك الجرأة الأدبية والثقة بالنفس التي تسمح له بتحدي النظريات التي لم تعد قادرة على تفسير الواقع مهما كانت شهرة أصحاب تلك النظريات، ومهما كانت التضحيات التي ستترتب على هذا التحدي. وفي كثير من الأحيان، كان نقد هذه المسلمات يصدم الناس صدمة عنيفة، ولكن العالم لم يكن يأبه إلا للرأي الذي اقتنع به.
يبقى أن نذكر خاصية مهمة يجب أن يتمتع بها العالم في يومنا هذا، بعد أن أصبح من الضروري أن يعمل في معظم الأحيان في إطار فريق عمل مكون من علماء ينتمون إلى تخصصات مختلفة ومتداخلة - كما سبق أن أشرنا - وهذه الخاصة هي القدرة على التكيّف على العمل المشترك والجماعي. وتتطلب هذه الخاصية القدرة على الحد من المزاج الشخصي والنزوات الشخصية لكي ينسجم العالم مع المزاج العام، لفريق العمل الذي ينتمي إليه، ولا ضرورة للتوسع في القول بأن من أهم العقبات التي تواجه عملية البحث والاكتشاف العلمي في الدول العربية النزوات الشخصية والمزاج عند العالم العربي الذي لم يعتد على العمل الجماعي وعلى الانخراط في فريق عمل من العلماء. بل يمكن القول إنه إذا كان هناك من مكان لايزال البحث العلمي فيه يقوم على أساس فردي فهو في الدول العربية وبعض الدول النامية الأخرى ذات الظروف المشابهة.
ا/علي تركي
مجلة العربى الكويتى
عدد مارس 2009