في الزرقاء في بلد الصفاء, نزل جهاد بعد رحلة طويلة كأداء, كانت أياما بغيضة لكنه يشعر بلذة العناء, فقلبه متيم بالمغامرات, يعتقد أن الحياة إما أن تكون مغامرات أو لا شيء, أو لا قيمة, عبارة عن روتين قاتل, استأجر منزلا متواضعا في أحد أحيائها, ومارس حياته اليومية, كان صامتا هادئا لا يريد أن يثير الشكوك حوله, فهو لا يعرف أهل الحي جيدا, ويخشى أن يشتبه أحد فيه فيفسد كل شيء, ويخسر كل جهد.
يذهب إلى المسجد القريب, يقضي الصلاة وسرعان ما ينصرف, وبعد برهة ألف أهل الحي وألفه الحي كذلك, فصار يسامر أبا ياسر جاره القريب, وخليلا جاره الثاني, ونضالا البقَّال, وأبا سعد الوَرَّاق صاحب أكبر مكتبة في الحي.
وذا صباح مشرق بهيج بالنسمات الغضة, كانت سارة ترتمي في سبيل النسائم على شرفة المنزل, تنظر من خلف الستائر إلى شوارع الزرقاء الساحرة, أخذت تغمغم: (ما أجمل هدوء الصباح!! آه لو أن هذا الصفاء يدوم), وقبصت فنجان القهوة, وما أن لامس لَمَى شفتيها الرقيقتين أبصرت الشاب الذي كثيرا ما جذب قلبها, فأنزلت فنجانها وحرمت رضابها من ممازجة قهوة الصباح, ونادت عبيرَ (أختها الصغرى):
- عبيرُ... يا عبيرُ, تعالَيْ وانظري هناك، هل تدرين من يكون ذلك الشاب؟ أراه في الحي كثيرا.
حملقت الصغيرة في حيث تشير سارة, وقالت:
- أتقصدين ذاك الشاب ذا اللحية الخفيفة.
- نعم, هو, هل رأيتِه؟
- آه, أجل.. أجل, هذا اسمه جهاد وهو يسكن بجوارنا من مدة يسيرة, وقد استأجر منزل العم يعقوب.
- سكن بجوارنا!!
- نعم، سكن بجوارنا, وهو من فلسطين.
- ومن أخبرك هذا يا بنت؟
- أخبرتني صديقتي فاتن، فأخوها يعرفه جيدا.
نظرت عبير التي لم تتجاوز العاشرة إلى أختها نظرة استغراب ممزوجة بالحياء، ثم قالت بصوت خافت: - سارة... ولماذا تسألين عنه؟!!
- ماذا .. لا .. لا شي.
عبير باستهزاء وقد علا صوت ضحكتها الطفولية: آها.. تقولين لا شي.
ابتسمت سارة ابتسامة خفية : اسكتي يا بنت.
لم يكن سؤالها عنه عفويا بل هو صدى الأعماق, واللسان ترجمان, ويبدو أن قلبها وقع في أسر الغرام، لكن كيف لها أن توصل هذا الحب للمحبوب؟ ولو استطاعت فهل سيبادلها جهاد نفس الشعور؟ ولو لم يكن ذلك فكيف ستنجح في إيجاده؟
كلما أضحى النهار سارعت الفتاة الولهانة إلى شرفة المنزل، فقد حان وقت ذهابه إلى السوق، تراقب خطوه المهيب, ولم يبق للصبر على كتم أحاسيسها عندها سبيل، فرأت أنه يجب عليها أن تبدي ما تخفيه في صدرها.
بادرتها فكرة شيطانية, وزُيِّن لها نجاحُها, فرأت أن تكتب في قصاصة ورق صغيرة: (إن لي أقرباء في فلسطين وأريد أن أراك لأسألك عنهم لو سمحت لي بذلك) وترسلها له.
نادت على عبير بصوت خافت يملؤه الحياء تمده مداً: عبير يا عبير.
كانت الصغيرة تلهو في حديقة المنزل، وعندما سمعت النداء أسرعت تجيب,
- نعم، أتريدين شيئاً.
- أريد منك طلباً صغيراً، أرجو أن تلبيه لي.
- إن استطعتُ...
- تستطيعين لكنْ عديني أن تفعلي.
- قولي هيا.
- طيب, خذي هذه الورقة, وضعيها في يد جهاد, لكن دون أن يراك أحد.
وببراءة الأطفال ابتسمت عبير وقالت: لكِ ذلك, لكن بشرط.
- وما هو؟
- تشتري لي حلوى من التي أحبها.
ضحكت سارة بعيون حائرة وقلب هائم, ثم قالت: وأنا موافقة.
ولَّت عبير وتركت أختها في حيرتها والوساوس تراودها (يا تُرى هل سيأخذ الورقة؟! وهل سيستجيب لما فيها؟ يا الله كم سأكون سعيدة لو استجاب!)
أسرعت الصغيرة مسرورة بوعد الحلوى لتوصل الورقة, وبعد صلاة العصر, انتظرت الفتاة الصغيرة خروج جهاد من المسجد, تنظر يمينا ويسارا (هل يراني أحد؟ لا, لا, يا رب يخرج الآن يا رب), وبعد لحظات أشرق المكان بوجهه, لم تتعجل, انتظرتْ, ها هو يقترب, مرَّ عنها, والآن.. الآن حان الوقت.
- عبير بصوت خافت ناعم: عمو.. عمو..
- التفت جهاد نحوها: آه, هل تنادي عليَّ؟
- أجل.. أجل.
- وماذا تريدين أيتها الصغيرة؟
- خذ هذه الورقة, فهي لك.
- ورقة!!
ثم مد يده مترددا ليمسك الورقة, نظر إليها, قلَّبَها من الخارج, وقبل أن يقرأ ما بها, قال للفتاة الصغيرة: ما هذه الورقة؟ ومن أعطاك إياها؟
- اقرأها وستعلم.
ثم ضحكت ضحكة طفولية وأدبرت مسرعة.
- يا بنت.. يا صغيرة.. توقفي, توقفي.
لكنها واصلت سيرها وكأنها لا تسمع شيئا.
غمغم بقوله: (أمرها غريب! ما هذه الورقة؟! سأقرؤها لاحقا) ثم وضع الورقة في جيبه ومضى إلى المنزل في استغراب ودهشة, وعند باب المنزل استوقفه أحد الجيران, تحدثا قليلا, ثم دلف المنزل وقد أنساه الحديثُ الورقة.
استلقى على الأرض, وأرسل فكره ثم صمت هنيهة واعتدل بلهفة: (آه, الورقة تذكرت الورقة).
فتح الورقة وقرأها, وأخذ يغمغم: (أقرباء في فلسطين!! وما شأني بذلك؟! والتوقيع سارة!! سارة, مَن سارة هذه؟!) وضع الورقة جانبا ولم يشغل باله بها, فلقد جاء هنا لما هو أهم من ذلك.
كانت سارة تنتظر عبير, وما أن أهلَّت الصغيرة حتى بادرتها قائلة: ها.. ماذا حدث؟
- لن أخبرك حتى أرى الحلوى.
- سأعطيك ما تريدين, لكن قولي لي, هل أعطيتِه الورقة.
- نعم أعطيتُه إياها, وانصرفت بسرعة.
- وضعتِها في يده!
- نعم في يده.
- أمتأكدة أنت؟
- ما لك يا أختي؟! أنا متأكدة, متأكدة تماما.
انبسط وجه سارة ابتهاجا, لكن ليس بعد, فستكون سعيدة أكثر عندما يستجيب لها.
توالت الأيام ولكن لا رد, والشوق لا يعطيها مجالا للصبر, لكنها لم تقطع حبال الأمل فالظنون والوساوس لا زالت تنبش عقلها.
وفي يوم مشرق وقد طغى صفاء الضحى على الثرى, خرجت من دارها تمشي الهوينى تقصد الجامعة, وإذا جهاد يصادفها, والتقت العيون.. لأول مرة, التقت الفتاة المتبرجة اللباس السافرة الوجه، تزين الحليُّ شعرها، والعقد اللامع يبرق على جيدها الأبيض، عينان واسعتان اشتد سواد سوادهما وبياض بياضهما، وشعر أثيث مرسل ومجدل ترى فيه الليل إلا أنه براق، وقدٌّ نحيف مهفهف مستقيم، قد جمعت من الحسن صفات, التقت بالشاب الطاهر الجذاب بأخلاقه.
خطف بصره مدبرا عنها حياء, أما هي فوقفت وقد جمدت أركانها, لم يعرفها لكنها تعرفه جيدا, لا مجال للوقوف أكثر, فالشارع لا يرحمه المارون, أوقفت سيارة أجرة تقصد الجامعة, وفي الجامعة كانت تجالسها نادية وتشاركها المقعد الخشبي في باحة الجامعة, تحدثها نادية لكنها شاردة الذهن, تحدث نفسها: (إنه فعلا يستحق ذلك, عيناه تخفيان الكثير, كأنهما بوابتان لكهف غائر مظلم يمتلئ بالأسرار والمفاجآت, ليته يستجيب) ربتت نادية على كتفها لتقطع وصال روحها:
- سارة, ألست محقة فيما فعلت؟!
- آه, نعم.. نعم بالتأكيد.
وبعد السهم الأول الذي أصاب عمق الجَنان, فقدتْ آخر ذرة صبر, وأصبح الأمر لا يحتمل أكثر من ذلك, ويجب أن تمتلك الجرأة للحديث معه في أقرب فرصة ولو كلمة واحدة تثير انتباهه.
اعتقدت أنه تشاغل عن رسالتها فأرادت أن ترسل له مرة أخرى لعله يتذكر, وما علمت أن قلبه يرنو لشأن عظيم أرفع مما تفكر فيه.
أرسلتْ مع أختها الصغيرة مرة أخرى ورقة كتبت فيها: (علمت أن لك علاقة بأقربائي في فلسطين, وأريد أن أطمئن عليهم, فساعدني في ذلك, أرجوك).
وقعت الورقة في يده, قرأها مستغرباً: (ماذا تريد مني هذه الفتاة؟ ألا يوجد غيري من فلسطين ها هنا؟!), ومرة أخرى تجاهل الورقة..
مرَّت أيام ولا زال الشوق يلهب قلب الفتاة المسكينة, وفي يوم مشهود, دخلتِ المكتبة القريبة من الجامعة لبعض شأنها, كانت تنتقل من رفٍّ إلى رفٍّ تنظر في الهدايا والحُليّ, وإذا به يدخل, لحظَ طرفُها ظِلَّه, فبدأ القلب يدُق ويهبط: (إنه هو... ها قد حانت الفرصة.... لو دخل سأتحدث معه... لا..لا, بل سأتحدث بكل جرأة وسأصارحه, نعم سأصارحه), وقطعَ حديثَ نفسِها اقترابُ جهاد من مكانها, وبينما كان يطَّلِعُ على الرفوف ينظر في صفوف الكتب, وإذا بالعيون تلتقي من جديد, أراد أن يصرف بصره لكن شيئا صَلَّبَ عنقه قليلا ثم تدارك الموقف فغضَّ طرفه وردد الاستغفار, وإذا بصوت ندي امتلأ حناناً: (ألا تريد أن تخبرني عن أهلي في فلسطين؟!) رفع بصره ثانية مندهشاً والتقت العيون....
لم يتكلم بكلمة واحدة, أُلجم الصمت, ثم غادر مدبراً بسرعة, جلس في منزله مستغفراً ربه لما حدث, إلا أن شيئا قد وقع في قلبه, حتى طغى على تفكيره, فأصبح يفكر في رسالتها الأولى والثانية وفي حديثها الناعم الحاني, بل إن صورة لها ارتسمت في ذهنه, تتقلب في ذاكرته, فتَغَيَّر قليلاً, بل كثيراً, صار يصلي لكن لا يجد لذة الخشوع, يقرأ القرآن فإذا به يسرح في الخيال, يستعيذ بالله, لكن:
إذا لَعِبَ الرجالُ بِكُلِّ شَيءٍ***رأيتَ الحبَّ يلعبُ بالرجالِ
صار من فرط عذابه يتعمد المرور بالقرب من دارها لعله يقتنص صورة أخرى لها, يبطئ السير في محيط مسكنها, يتمنى أن يتوقف الزمن في تلك اللحظة, يحاول إقناع نفسه أنه لا يبالي بها, لكن الميول يفقده حجة الإقناع.
وفي إحدى الليالي, وقد وغل الظلام وحان حين العشاق, مضى العاشق إلى فراشه الوثير, وأخذ يهذي بقول الشاعر:
في ظلام الليل لما عانق البدر النجومْ
واعترى الكون سكون وهدوء ووجومْ
واختفى كل حديث غير همس العاشقينْ
وأزيز وشهيق من صدور الخاشعينْ
استمال الليل قلبي وبه زدتُ افتتانْ
فبصدر الليل دفء وبكفيه حنانْ
فاتخذت الليل داري وبه طاب البقاءْ
وتخيلت بأني سوف أحيا في هناءْ
فإذا الليل كوحش وملاذ الخائفينْ
وإذا الليل سجون وسطها ألف سجينْ
وغمغم متقلبا في فراشه: صدق امرؤ القيس, ما أطول الليل على المهمومين!! ما أطوله!!
وبقي في لوعاته حتى صرعه النوم إلى أن قام لصلاة الفجر, وبعد الصلاة سمعَ أحدَ المصلين يقول لآخر:
- حسبنا الله ونعم الوكيل على اليهود, الله ينتقم منهم.
- ما لك يا رجل؟ هل حدث شيء؟
- أنت لا تشاهد الأخبار, قد دخلت قوات صهيونية مسلحة وجماعات يهودية متطرفة المسجد الأقصى الليلة الماضية واعتدوا على المرابطين فيه.
وقعت هذه الكلمات كالصاعقة على قلب جهاد, فقد بترت تفكيره, وبدَّدتْ غرامه, وأعادت له رشده, وذكَّرته بما أتى لأجله..
أسرع إلى بيته, فتح التلفاز ليشاهد الأخبار التي ألهبت صدره, المشاهد أبكته كثيرا, رأى جنود الاحتلال الصهيوني يعتدون على الشيوخ والمصلين في المسجد الأقصى, والذي زاد عويلَهُ أنَّ الدنيا أنسته مهمته, بكى بكاء مُرًّا ثم ندم على سالف فعله وتاب وأناب, وجهز نفسه لينطلق إلى الأراضي المقدسة وينهي المهمة التي يخفيها في صدره, لكن الدخول إلى هناك من الزرقاء ليس سهلا, حاول جاهدا ليجد من يوصله إلى هناك, وأخيرا التقى بأحد الأشخاص الذين لهم صلة وثيقة بأبيه التاجر ليساعده على الوصول إلى حيث يريد, إذ إن هذا الشخص ذو منصب رفيع, وله معارفُ من حرس الحدود.
وفي صباح يوم مشرق, حمل متاعه وتوجه إلى الأرض المقدسة, والأفكار تراوده والآمال لا تتركه, والشوق يكاد يقتله, فهو الآن متوجه إلى الأرض الحبيبة, إلى أرض الأنبياء, إلى مسرى الرسول الكريم.
وبين طرفة عين وانتباهتها افتقد الجيران جهادا, أخبرهم يعقوب أنه سلَّم المنزل صباح أمس, وعندما جاءت الصغيرة بالخبر لأختها العاشقة كأن الأرض زُلزلت من تحتها: (ماذا؟ رحل!! كيف يكون ذلك كيف؟) خرَّت باكية لأنها أحبته بصدق, تمنَّتْ أن لو كان للوداد وصالٌ, لكنَّها متفائلةٌ برجوعه, لأنها أحست بحبه لها, فكانت على أمل اللقاء به قريبا.
وفي أحد الأيام كانت سارة كالعادة تجلس في شرفة المنزل تستنشق نسيم الصباح, وفجأة سمعت صوت عبير تنادي عليها بلهفة وتَهَدُّج:
- سارة.. سـ.. ساارة.
- ها أنا هنا, تعالَيْ.
أعطتها صحيفة اليوم, وقالت لها وهي تلهث:
- خذي, اقرئي الخبر الرئيس.
- وماذا هناك؟ ألا تعلمين أني لا أتابع أخبار الصحف.
- لكنْ فيها خبرٌ يهمُّكِ.
- وما هو؟ أبشري.
- اقرئي وستعلمين.
أمسكت الصحيفة وقرأت أول كلمات, ويَبُسَتْ حروف النطق بعدها, سقطت الصحيفة من يَدَيْها المرتجفتين, لتجري ينابيع الدموع المصحوبة بأنين الموجوع: (الآن انتهى كل شيء.. انتهى.. الآن عرفتُ سرَّ تلك العيون), وقعت الصحيفة على الأرض لكنها ما زالت تبسط صفحتها الأولى التي تعرض الخبر واضحا: (اشتباك مسلح بين قوات الاحتلال الصهيوني ورجال المقاومة الفلسطينية عند أبواب المسجد الأقصى أدى إلى مقتل واحد وعشرين صهيونيا واستشهاد المجاهد جهاد البطل)...