الحمد لله نحمده ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له أرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله وحبيبه وخليله بعثه الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين أما بعد:
فإن الدعوة إلى الله سبحانة وتعالى هي أشرف الوظائف وأفضل الأعمال، فإنها الوظيفة الأساسية للنبيين والمرسلين، والعمل الرئيسي لسائر الهداة المصلحين، وقد نص الله تبارك وتعالى في محكم كتابه على أن أحسن الناس قولا هم الدعاة إلى الله وفي ذلك يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الداعين إلى الله العاملين بعلمهم المعلمين لغيرهم هم أعلى الناس درجة، وأكثر الناس تأثرا وتأثيرا بالدين الحنيف، وأعظم الناس انتفاعا بالغيث الذي أغاث الله به الأرض. فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى منها إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
كما أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عظيم مثوبة الدعاة عند الله. فقد روى البخاري ومسلم من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يده يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.. فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجوا أن يعطاها فقال: "أين علي أبن أبي طالب؟" فقيل: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: "فأرسلوا إليه.." فأتى به فبصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في عينيه ودعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع فقال علي رضي الله عنه: "يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم أدعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه. فوالله لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم.." يعني من أن تتصدق بأنفس المال .
ولقد رسم القرآن الكريم خير مناهج الدعوة فيما وصف للدعاة من آياته المحكمة، وفيما قص الله تبارك وتعالى عن النبيين والمرسلين من طرق دعوتهم إلى الله تعالى التي تعتبر النموذج الأعلى للداعين إلى الله عز وجل، وقد وضع القرآن الكريم النظام الأساسي للدعوة إلى الله تعالى إذ يقول:
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وإذ يقول: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
فقد طلب الله تبارك وتعالى من الداعي إليه أن يسلك طريق الحكمة في دعوته، والحكمة هي وضع الأمور في مواضعها، فاللين حيث ينفع اللين، والشدة حيث لا يجدي غيرها، فوضع اللين في موضع الشدة مضر كوضع الشدة في موضع اللين، على حد قول الشاعر:
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
ومن الحكمة في الدعوة معرفة نفسيات المدعوين ومنازلهم فدعوة الأمي غير دعوة المتعلم، والمستقيم في الجملة غير المنحرف والمعاند غير خالي الذهن، وسادة القوم غير عامتهم. وهذه القاعدة في الدعوة من أعظم أسباب نجاحها ولذلك دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أول الأمر سرا ثلاث سنوات. ولذلك كذلك جرب عقلاء الدعاة حتى ولو لم يكونوا مسلمين هذه الطريقة أعني طريقة الحكمة في الدعوة فنجحوا في نشر شرهم، فلقد أثر أن بوذا كان يبعث دعاته إلى نواح متفرقة من بلاد الهند لبث دعوته، وكان لا يبعث الداعية حتى يعقد له اختباراً نفسانياً ليرى مقدار تغلغل الفكرة في نفسه وصلاحيته للقيام بمهمة التبشير بها، ومن أمثلة هذا الإختبار أنه أراد أن يبعث داعية اسمه ((بورنا)) إلى قبيلة معروفة بالشراسة اسمها ((سرونا برانتا)) فقال بوذا للداعية: "إن رجال هذه القبيلة قساة سريعوا الغضب فإذا وجهوا إليك ألفاظا بذيئة خشنة ثم غضبوا عليك وسبوك فماذا كنت فاعلا ؟" فأجاب بورنا: "أقول لاشك أنهم قوم طيبون لينو العريكة لأنهم لم يضربوا بأيديهم ولم يرجموني بالحجارة" فقال: "بوذا فإن ضربوك بأيديهم ورموك بالحجارة فماذا كنت قائلا؟" قال بورنا أقول: "إنهم طيبون إذا لم يضربوني بالسيوف". قال بوذا: "فإن قاموا عليك بالسيوف فماذا كنت فاعلا؟" قال: "أقول إنهم طيبون إذا خلصوا روحي من سجن هذا الجسد بلا كبيرة" فقال له بوذا: "أحسنت يابورنا إنك تستطيع أن تسكن في بلاد قبيلة سروانا برانتا فاذهب إليهم وكما تخلصت فخلصهم وكما وصلت إلى الساحل فأوصلهم معك وكما تفريت ففرهم". فذهب بورنا فدخل جميع أفراد هذه القبيلة في البوذية.
ومن الحكمة الدعوة كذلك إلى اغتنام الفرص الملائمة للدعوة، ومن أروع الأمثلة على ذلك ما ذكر الله تبارك وتعالى في قصة يوسف عليه السلام مع صاحبه في السجن إذ يقول: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فهذان السجينان رأى كل واحد منهما رؤيا، وهي رؤيا غريبة تستدعي الاهتمام لذلك بحثا عن معبر لها ولم يختارا غير يوسف الصديق، وكان الذي حملهما على اختياره دون غيره هو ما رأياه عليه من حسن السلوك والإحسان في القول والعمل، وما على وجهه من آثار الصلاح يدل على ذلك كله قوله: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} وحينما رأى يوسف عليه السلام حاجاتهما الماسة لتعبير هذه الرؤيا العجيبة، ورأى كذلك من حسن ظنهما فيه أغتنم هذه الفرصة لدعوتهم إلى الله تبارك وتعالى، وكان من حكمته عليه السلام أن يبدأ قبل دعوتهما إلى الله وقبل تفسير الرؤيا لهما بزيادة تعريفها بنفسه وتشويقهما إلى حديثه وبيان نعمة الله على أهل التوحيد فقال: {لا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} ثم بين لهما أن الشرك بالله سبب لكل شر وأن توحيد الله سبب لكل خير فقال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ وأتبعت ملة وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} ثم بعد كل هذه التمهيدات العظيمة جرد الدعوة إلى التوحيد فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} وبعد إقامة هذه الحجة على هذه الدعوة العظيمة فسر لكل واحد من صاحبي سجنه رؤياه في عبارة موجزة صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض. فقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}.
ومن اغتنام الفرص في الدعوة كذلك أن يتخول الدعاة المدعوين بالموعظة الحسنة في غير إكثار ممل، فإن كثرة الكلام تنسيه وتمله، ولذلك كان رسول الله يتخول أصحابه بالموعظة الحسنة مخافة السآمة عليهم مع أن حديثه كان أعذب حديث يستمعون إليه على حد قول الشاعر:
ولا حسن إلا سماع حديثكم مشافهة يملي على فأنقل
وعلى حد قول الشاعر:
وكنت إذا ما جئت سعـدى أزورهـا أرى الأرض تطوي لي ويدنو بعيـدها
من الخفرات البيض ود جليسها إذا ما انقضت أحـدوثة لو تعيـدها
فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا تكلم كأن قطع السكر تتناثر من فمه صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء في حديث أم معبد في قصة الهجرة تصفه صلى الله عليه وسلم لزوجها تقول: "رأيت رجلا ظاهر الوضاءة أبلج الوجه أكحل أزج أقرن في عنقه سطع وفي صوته صحل أي نبرات حلوة". ومع ذاك كله فقد كان لا يكثر على أصحابه وإنما يغتنم الفرصة فيتخولهم بالموعظة الحسنة مخافة أملالهم. فقد روى البخاري ومسلم من طريق أبي وائل شقيق بن سلمة الاسدي الكوفي رحمة الله قال: "كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا في كل خميس مرة". فقال له رجل: "يا أبا عبد الرحمن لوددت أنك ذكرتنا كل يوم". فقال: "أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم وإني أتخولكم بالموعظة الحسنة كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخولنا بها مخافة السآمة علينا".
كما أشعر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قصر الخطبة يوم الجمعة من فقه الرجل فقد روى مسلم في صحيحة من حديث عمار بن ياسر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه" فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة، ولذلك كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الكلام جدا على حد قول النابغة الجعدي رضي الله عنه فيه صلى الله عليه وسلم:
نذر الكلام من الحياء تخاله ضمنا وليس بجسمه سقم
ولقد كان السامع له صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يعد كلامه ومع ذلك إذا تكلم أعاد الكلمة ثلاثا ليفهم عنه صلى الله عليه وسلم.
ومن الحكمة كذلك في الدعوة ملاحظة أقدار الناس وعدم التسرع في الكلام حتى تحين فرصة قد تكون الكلمة فيها خيرا من كثير من الكلام، ومن أمثلة ذلك ما ذكر بعض المشائخ أنه سافر إلى الهند في طلب العلم، وهناك وجد شيخا كبيرا مرهوب الجانب مسموع الكلمة ذائع الصيت يؤم مجلس درسه طلاب كثيرون وكان هذا الشيخ الهندي إذا أبتدأ درسه بدأه بسب شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله والتحذير من مذهبه، فلما سمع ذلك الشيخ النجدي لم يسارع في الانكار عليه بل أخذ يدرس الطريقة التي يعرف فيها الشيخ الهندي بحقيقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله دون إزعاج أو إثارة وأخيرا عرف أن الشيخ الهندي يجلس في بعض الأوقات عند بعض المكاتب وأن من عادته إذا جلس أخذ يطالع ما قرب منه من كتب، فاتصل الشيخ النجدي بصاحب المكتبة وصاحبه مدة ثم جاء بكتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ثم خلع غلافه وما عليه من عنوان ثم وضع الكتاب قرب مجلس الشيخ فلما جلس الشيخ الهندي أخذ كعادته يقلب الكتب ووقع على هذه الرسالة التي لاتحمل عنوانا فلما أخذ يطالعها دهش لصغر حجمها وما أحتوته من قواعد في العقائد، ثم أخذ يسأل صاحب المكتبة عن اسم هذا الكتاب فقرب منه النجدي وقال له: "هل أعجبك يا شيخ؟" قال: "إن فيه نفس محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله وكأنه من تأليفه". فقال له الطالب: "هذا هو كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله" فقال الشيخ مندهشا: "النجدي؟ النجدي؟" قال: "نعم" فأخذ يترحم عليه ثم صار لا يجلس مجلسا ألا أثنى فيه على الشيخ كفارة لما كان منه قبل ذلك.
ومن الحكمة في الدعوة كذلك مراعاة بيئة كل مدعو وضرب الأمثال النافعة له من واقع بيئته ولفت نظر المدعوين إلى نعم الله عليهم وإحسانه إليهم دون قسوة أو غلظة، بل يزن الكلام وزنا ويقدره تقديرا قبل أن يتكلم به، ثم يستشعر الداعية في نفسه موقف المدعو وكأنه هو وأن مراده من دعوته إنما هو سعادته في الدنيا والآخرة.
ومن الحكمة كذلك تلوينها فالسرية حين يغلب على الظن أن تنفع السرية والجهرية والليلية حين تواتي الليلية والنهارية حين تواتي النهارية وفي ذلك كله يذكر الله تبارك وتعالى حكمة نوح عليه السلام في دعوته إذ يقول: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}.
ومن الحكمة في الدعوة أن يبدأ بالترغيب في الدنيا والتذكير بنعم الله على المطيعين وفي ذلك يقول تبارك وتعالى في قصة نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً}.
ولذلك كله رأينا مؤمن آل فرعون الذي يكتم إيمانه يقول لآل فرعون لما هددوا موسى عليه السلام بالقتل قال هذا الداعية الصالح مع كتمانه إيمانه: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُم} ثم يقول زيادة في التكتم: {وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُم..} فقد قدم الكلام على احتمال كذبة على الكلام على احتمال صدقة زيادة في أمر كتمانه أمره، ثم كان من أروع طرق جداله أن يستدل على صدقة بسلامة سلوكه وحسن هديه ولذلك قال: {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ..}
وكأنه يقول: موسى صادق لأنه مهتد ولو كان كاذبا لم يكن مهتديا، فاستدل باهتدائه على صدقة ثم قال: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}.
ولما رأى أن قومه مصرون على عداوة رسول الله والمحاربة لدين الله
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَات فأ َطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً}.
لما قال فرعون هذه المقالة لم يجد هذا المؤمن حيلة من إعلان إيمانه وليكن ما يكون وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ}.
ثم يقول: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ. لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.
أما القاعدة الثانية من قواعد الدعوة إلى الله فهي سلوك الموعظة الحسنة، والأقوال الرقيقة، والعبارات المؤثرة، وقد اشتملت الأمثلة التي ذكرت الكثير منها.
أما القاعدة الثالثة: فهي الجدال بالتي هي أحسن فيبتعد الداعية عن الأقوال الشنيعة والألفاظ البشعة، بل يستدل بالفعل عندما ينفع الاستدلال بالفعل وبالنقل عندما يرى الاستدلال بالنقل، ويلفت نظر المدعوين إلى آيات الله الكونية ويحرص أشد الحرص على الخصم بإقراره، وإلى ذلك كله يشير الله تبارك وتعالى إذ يقول: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
ومن أعظم قواعد الدعوة الشاملة للقواعد الثلاث المتقدمة أن يكون الداعي على بصيرة، وبصيرة الداعية تسلك به أحسن السبل وتهديه أقوم الطرق.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في حسن الدعوة إلى الله عز وجل قولا وعملا وسلوكا، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث داعيا أمره بأحسن طرقها. فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحدا من أصحابه في بعض أمره قال: "بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا" كما روى البخاري ومسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا"
كما روى البخاري ومسلم من طريق ابن أبي بردة قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى ومعاذا إلى اليمن فقال: "يسرا ولا تعسروا وبشرا ولا تنفروا وتطاوعا ولا تختلفا" وكان من أمثلة ذلك عمليا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما روى مسلم في صحيحة من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: "بينما أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمياه. ما شأنكم تنظرون إلى؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه فو الله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني.. قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأبرز من ذلك ما روى البخاري وغيره "أن أعرابيا دخل المسجد ورسول الله جالس فصلى ركعتين ثم قال: اللهم أرحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لقد تحجرت واسعا" ثم لم يلبث أن بال في ناحية المسجد فأسرع إليه الناس فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:" إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين ثم أمرهم أن يصبوا على محل بوله ذنوبا من ماء.. ولما فرغ من بوله دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له:" إن هذه المساجد لا تصلح لشئ من البول والقذر أنما هي لذكر الله تعالى والصلاة وقراءة القرآن.."
ومن أعظم أسباب نجاح الدعاة أن يتحلوا بالصبر ولذلك قال لقمان لأبنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
كما أن من أعظم أسباب نجاح الدعاة كذلك أن يكونوا عاملين بما يدعون الناس إليه، منتهين عما ينهون الناس عنه، وقد وصف الله الذي يخالف قوله فعله بأنه ممقوت وفي ذلك يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ..}
ولله در الشاعر إذ يقول:
هلا لنفسك كان ذا التعليم يا أيها الرجل المعلم غيره
كيما يصح به وأنت سقيم تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم أبدا بنفسك فانهها عن غيها
بالقول منك وينفع التعليم فهناك يسمع ما تقول ويهتدى
عار عليك إذا فعلت عظيم لا تنه عن خلق وتأتي مثله
ولذلك قال العبد الصالح شعيب عليه السلام لقومه: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإصلاح مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب}.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أشواقنا نحو الحجاز تطلعت كحنين مغترب إلى الأوطان
إن الطيور وإن قصصت جناحها تسمو بفطرتها إلى الطيران
يبتسم المسلم في سلمه عن رقة الماء ولين الحرير
وتبصر الفولاذ في عزمه إذا دعا الحرب ونادى النفير
الشيخ عبد القادر شيبة الحمد