{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة:255)
تفسير ابن كثير: [وهذه الاَية مشتملة على عشر جمل مستقلة
فقوله {الله لا إله إلا هو} إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق {الحي القيوم} أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً, القيم لغيره. وكان عمر يقرأ القيام, فجميع الموجودات مفتقرة إليه, وهو غني عنها, لا قوام لها بدون أمره, كقوله {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} وقوله {لا تأخذه سنة ولا نوم} أي لايعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه, بل هو قائم على كل نفس بما كسبت, شهيد على كل شيء, لا يغيب عنه شيء, ولا يخفى عليه خافية, ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم, فقوله {لا تأخذه} أي لا تغلبه سنة وهي الوسن والنعاس, ولهذا قال: ولا نوم لأنه أقوى من السنة. وفي الصحيح عن أبي موسىَ, قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات, فقال «إن الله لا ينام, ولا ينبغي له أن ينام, يخفض القسط ويرفعه, يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل, وعمل الليل قبل عمل النهار, حجابه النور أو النار, لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر, أخبرني الحكم بن أبان, عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله {لا تأخذه سنة ولا نوم} أن موسى عليه السلام سأل الملائكة: هل ينام الله عز وجل ؟ فأوحى الله تعالى إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثاً, فلا يتركوه ينام, ففعلوا, ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما, ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما, قال: فجعل ينعس وهما في يده, وفي كل يد واحدة, قال: فجعل ينعس وينبه, وينعس وينبه, حتى نعس نعسة, فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما, قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله عز وجل, يقول فكذلك السموات والأرض في يده, وهكذا رواه ابن جرير, عن الحسن بن يحيى, عن عبد الرزاق فذكره, وهو من أخبار بني إسرائيل, وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز وجل, وأنه منزه عنه, وأغرب من هذا كله الحديث الذي رواه ابن جرير: حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل. حدثنا هشام بن يوسف, عن أمية بن شبل, عن الحكم بن أبان, عن عكرمة, عن أبي عكرمة عن أبي هريرة, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر, قال «وقع في نفس موسى: هل ينام الله ؟ فأرسل إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً, ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة, وأمره أن يحتفظ بهما قال: فجعل ينام, وكادت يداه تلتقيان, فيستيقظ فيحبس إحداهما على الأخرى, حتى نام نومة, فاصطفقت يداه, فانكسرت القارورتان, ـ قال ـ ضرب الله عز وجل مثلاً, أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض» وهذا حديث غريب جداً, والأظهر أنه إسرائيلي لا مرفوع, والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن القاسم بن عطية, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن الدشتكي, حدثني أبي عن أبيه, حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى, هل ينام ربك ؟ قال: اتقوا الله, فناداه ربه عز وجل يا موسى, سألوك هل ينام ربك, فخذ زجاجتين في يديك, فقم الليلة, ففعل موسى, فلما ذهب من الليل ثلث نعس, فوقع لركبتيه, ثم انتعش فضبطهما, حتى إذا كان آخر الليل نعس, فسقطت الزجاجتان فانكسرتا, فقال: يا موسى, لو كنت أنام لسقطت السموات والأرض فهلكت كما هلكت الزجاجتان في يديك. فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم آية الكرسي.
وقوله {له ما في السموات وما في الأرض} إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه, وتحت قهره وسلطانه, كقوله {إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدهم عداً * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً}.
وقوله {من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه} كقوله {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} وكقوله {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل, أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة, كما في حديث الشفاعة: «آتي تحت العرش فأخر ساجداً, فيدعني ما شاء الله أن يدعني. ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع واشفع تشفع ـ قال ـ فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة».
وقوله: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات, ماضيها وحاضرها ومستقبلها, كقوله إخباراً عن الملائكة {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا, وما بين ذلك, وما كان ربك نسيا}.
وقوله: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه. ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته, إلا بما أطلعهم الله عليه, كقوله: {ولا يحيطون به علماً}.
وقوله: {وسع كرسيه السموات والأرض}, قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبو سعيد الأشج, حدثنا ابن إدريس عن مطرف بن طريف, عن جعفر بن أبي المغيرة, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, في قوله: {وسع كرسيه السموات والأرض} قال: علمه, وكذا رواه ابن جرير من حديث عبد الله بن إدريس وهشيم, كلاهما عن مطرف بن طريف به, قال ابن أبي حاتم: وروي عن سعيد بن جبير مثله, ثم قال ابن جرير: وقال آخرون الكرسي موضع القدمين, ثم رواه عن أبي موسى والسدي والضحاك ومسلم البطين. وقال شجاع بن مخلد في تفسيره: أخبرنا أبو عاصم, عن سفيان, عن عمار الذهبي, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل {وسع كرسيه السموات والأرض} ؟ قال «كرسيه موضع قدميه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل» كذا أورد هذا الحديث الحافظ أبو بكر بن مردويه من طريق شجاع بن مخلد الفلاس, فذكره وهو غلط, وقد رواه وكيع في تفسيره, حدثنا سفيان عن عمار الذهبي, عن مسلم البطين, عن سعيد بن جبير, عن ابن عباس, قال: الكرسي موضع القدمين, والعرش لا يقدر أحد قدره. وقد رواه الحاكم في مستدركه عن أبي العباس محمد بن أحمد المحبوبي, عن محمد بن معاذ, عن أبي عاصم, عن سفيان, وهو الثوري بإسناده عن ابن عباس موقوفاً مثله, وقال: صحيح على شرط الشيخين, ولم يخرجاه. وقد رواه ابن مردويه من طريق الحاكم بن ظهير الغزاري الكوفي, وهو متروك عن السدي, عن أبيه, عن أبي هريرة, مرفوعاً ولا يصح أيضاً. وقال السدي, عن أبي مالك: الكرسي تحت العرش: وقال السدي: السموات والأرض في جوف الكرسي, والكرسي بين يدي العرش. وقال الضحاك عن ابن عباس: لو أن السموات السبع والأرضين السبع, بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض, ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة, ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم, وقال ابن جرير: حدثني يونس, أخبرني ابن وهب قال: قال ابن زيد: حدثني أبي قال: قال رسول الله «ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس» قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض».
وقال أبو بكر بن مردويه: أخبرنا سليمان بن أحمد, أخبرنا عبد الله بن وهيب المقري, أخبرنا محمد بن أبي السري العسقلاني, أخبرنا محمد بن عبد الله التميمي, عن القاسم بن محمد الثقفي, عن أبي إدريس الخولاني, عن أبي ذر الغفاري, أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي, إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة, وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة», وقال الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده. حدثنا زهير, حدثنا ابن أبي بكر, حدثنا إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن عبد الله بن خليفة, عن عمر رضي الله عنه, قال: أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة, قال: فعظم الرب تبارك وتعالى, وقال: «إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد من ثقله» وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور وعبد بن حميد وابن جرير في تفسيريهما, والطبراني وابن أبي عاصم في كتابي السنة لهما, والحافظ الضياء في كتابه المختار من حديث أبي إسحاق السبيعي, عن عبد الله بن خليفة, وليس بذاك المشهور, وفي سماعه من عمر نظر. ثم منهم من يرويه عنه عن عمر موقوفاً, ومنهم من يرويه عنه مرسلاً, ومنهم من يزيد في متنه زيادة غريبة, ومنهم من يحذفها. وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش كما رواه أبو داود في كتابه السنة من سننه,والله أعلم. وقد روى ابن مردويه وغيره أحاديث عن بريدة وجابر وغيرهما في وضع الكرسي يوم القيامة لفصل القضاء, والظاهر أن ذلك غير المذكور في هذه الاَية, وقد زعم بعض المتكلمين على علم الهيئة من الإسلاميين, إن الكرسي عندهم هو الفلك الثامن, وهو فلك الثوابت الذي فوقه الفلك التاسع, وهو الفلك الأثير ويقال له الأطلس, وقد رد ذلك عليهم آخرون وروى ابن جرير من طريق جويبر عن الحسن البصري أنه كان يقول: الكرسي هو العرش, والصحيح أن الكرسي غير العرش, والعرش أكبر منه, كما دلت على ذلك الاَثار والأخبار, وقد اعتمد ابن جرير على حديث عبد الله بن خليفة عن عمر في ذلك, وعندي في صحته نظر, والله أعلم.
وقوله: {ولا يؤده حفظهما} أي لا يثقله ولا يكرثه حفظ السموات والأرض, ومن فيهما, ومن بينهما, بل ذلك سهل عليه, يسير لديه, وهو القائم على كل نفس بما كسبت, الرقيب على جميع الأشياء, فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شيء, والأشياء كلها حقيرة بين يديه, الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون, وهو القاهر لكل شيء, الحسيب على كل شيء, الرقيب العلي العظيم, لا إله غيره, ولا رب سواه, فقوله: {وهو العلي العظيم} كقوله: {وهو الكبير المتعال} وهذه الاَيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح, أمروها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه.]
تفسير السعدي: [هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأنه " لا إله إلا هو " أي : لا معبود بحق سواه فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه وكل ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة وقوله : " الحي القيوم " هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات كالسمع والبصر والعلم والقدرة ونحو ذلك والقيوم : هو الذي قام بنفسه وقام بغيره وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء وسائر أنواع التدبير كل ذلك داخل في قيومية الباري ولهذا قال بعض المحققين : إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب وإذا سئل به أعطى ومن تمام حياته وقيوميته أنه " لا تأخذه سنة ولا نوم " والسنة النعاس " له ما في السماوات وما في الأرض " أي : هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فلهذا قال : " من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه " أي : لا أحد يشفع عنده بدون إذنه فالشفاعة كلها لله تعالى ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه ولا يبتدئ الشافع قبل الإذن ثم قال " يعلم ما بين أيديهم " أي : ما مضى من جميع الأمور " وما خلفهم " أي : ما يستقبل منها فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور متقدمها ومتأخرها بالظواهر والبواطن بالغيب والشهادة والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى ولهذا قال : " ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض " وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتها وعظمة من فيها والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش وما لا يعلمه إلا هو وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال فكيف بعظمة خالقها ومبدعها والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب فلهذا قال : " ولا يؤوده " أي : يثقله " حفظهما وهو العلي " بذاته فوق عرشه العلي بقهره لجميع المخلوقات العلي بقدره لكمال صفاته " العظيم " الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء فقد اشتملت هذه الآية على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته فهذه الآية بمفردها عقيدة في جانب عظمة العلي العظيم فآية احتوت على هذه المعاني التي هي أجل المعاني يحق أن تكون أعظم آيات القرآن ويحق لمن قرأها متدبرا متفهما أن يمتلىء قلبه من اليقين والعرفان والإيمان وأن يكون محفوظا بذلك من شرور الشيطان.]