السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كلما قرأت لمحة بلاغية أو وقفة لغوية مع آية من آيات القرآن الكريم ازددت إيمانا بعظمة الخالق وبهذه المعجزة التي تحدى الله بها الجن والإنس والأوائل والأواخر .
وكم أحب أن تشاركوني هذه القراءة للمحة بلاغية في كتاب هو أعظم الكتب .
...........
في فاتحة سورة التحريم خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم معاتبًا إياه، بسبب تحريمه على نفسه ما أحله الله له، ومما أنزله عليه في ذلك، قوله تعالى: ﴿إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما﴾ [التحريم:4] .
والآية الكريمة قد يبدو فيها إشكال من جانب اللغة؛ وذلك أن الخطاب في الآية جاء بصيغة التثنية، في قوله: ﴿تتوبا﴾ في حين أن المضاف إلى المخاطب قد جاء بصيغة الجمع، وهو قوله تعالى: ﴿قلوبكما﴾؛ وقد يبدو للوهلة الأولى، أن الأصح أن يقال: (قلباكما) بصيغة التثنية؛ لأنه يعود على المخاطب وهو مثنى.
فكيف أضيف الجمع (القلوب) إلى المثنى ؟ هذا هو وجه الإشكال كما يبدو للبعض .
وحل ما يبدو من إشكال في هذه الصيغة، إنما يكون بالرجوع إلى لسان العرب، وقواعد اللغة .
والقاعدة عند أهل العربية في هذا الباب:
أن كل جزأين أضيفا إلى صاحبيهما، وكانا مفردين من صاحبيهما - بمعنى أنه لا يوجد لهما ثان من جنسهما، كالقلب، والظهر، والبطن _ جاز فيهما ثلاثة أوجه: الأحسن الجمع - وعليه جاءت الآية - ويليه الإفراد، ويليه التثنية، فأنت تقول: (قطعت رؤوس الكبشين) على الجمع، وهو الأفصح والأصوب لغة؛ ولك أن تقول: (قطعت رأس الكبشين) على الإفراد؛ ولك أن تقول أيضًا: (قطعت رأسي الكبشين) على التثنية .
وهذه القاعدة إنما تنتظم في الأشياء المتصلة، والتي هي جزء من كلٍّ؛ كالرأس من الجسد، والقلب من الإنسان، ونحوهما؛ أما ما كان منفصلاً، ولم يكن جزءًا من كل، فلا تستقيم فيه هذه القاعدة؛ فلا يصح لك أن تقول: رأيت أفراسهما؛ ولا أن تقول: ضربت غلمانهما؛ بل الصواب أن تقول هنا: رأيت فرسيهما؛ وضربت غلاميهما؛ لأن كلاً من الفرس والغلام شيء مستقل بنفسه، وليس جزءًا من كل.
وعلى هذا الأسلوب جاء قوله تعالى: ﴿إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما﴾؛ قالوا: وأكثر استعمال العرب وأفصحه في ذلك، أن يعبروا بلفظ الجمع مضافًا إلى ضمير المثنى؛ لأن صيغة الجمع قد تطلق على الاثنين في الكلام، فهما يتبادلان .
ومما ذكروه من تعليلات في هذا الباب: أن الإتيان بصيغة الجمع دون صيغة التثنية، إنما كان تجنبًا لاجتماع تثنيتين في كلمة واحدة؛ ففي الأمثلة السابقة، يصح أن تقول: قبَّلتُ رأسيهما، وأشبعت بطنيهما، وأوجعت ظهريهما؛ لكن في هذا الاستعمال ثقل في اللفظ، فعدلوا عنه إلى صيغة الجمع، تخلصًا من ثِقَل التلفظ بصيغة التثنية. وهذا أمر معهود في لغة العرب، حيث يعدلون عن استعمال صحيح إلى استعمال أصح منه؛ طلبًا للخفة، وتحريًا لسهولة اللفظ .
ومما جاء في السنة النبوية على هذا الأسلوب، قوله صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين رأياه يمشي مع صفية زوجته رضي الله عنها، ولم يكونا يعلمان أنها زوجته: (وإني خشيت أن يُقذف في قلوبكما) متفق عليه، فلم يقل لهما: (قلباكما) بصيغة التثنية، وإنما جاء به على صيغة الجمع، فقال: (قلوبكما) .
وعلى هذا الأسلوب أيضًا، جاء في الشعر قول خطام المجاشعي :
ومهمهين قذفين مرتين ***** ظهراهما مثل ظهور الترسين
فقد جمع الشاعر في هذا البيت بين مثال التثنية، في قوله: (ظهراهما)؛ وبين مثال الجمع، في قوله: (ظهور الترسين).
إذن، فاللفظ في الآية سليم مستقيم لا إشكال فيه؛ وفصيح صحيح جار على وفق لسان العرب؛ وإنما الإشكال في عدم فهم كلام العرب، وعدم معرفة أساليبهم في البيان والتبيان