أولادنا ثمرات قلوبنا ، وعماد ظهورنا ، ونحن لهم أرض ذليلة ، وسماء ظليلة ، هم كما قال الشاعر :
وإنما أولادنا بيننا == أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبت الريح على بعضهم == لامتنعت عيني من الغمض
وما من أحد منا إلا وفي قلبه عاطفة الحب والحنان لأبنائه ، وتلك فطرة إنسانية وهداية ربانية ، حتى إن رسل الله وأنبياءه العظام كان من أوكد همهم حرصُهم وعطفُهم على أبنائهم :
فهذا الخليل إبراهيم أبو الأنبياء - عليه الصلاة والسلام ـ لما جعل الله سبحانه وتعالى له المزية في الحكم والنبوة بقوله تعالى : {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} جاء سؤاله فطرياً فقال: { وَمِنْ ذُرِّيَّتِي } فأجيب من رب العالمين سبحانه: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة/124]، ثم كان في دعائه بعد ذلك حضورٌ لهذه العاطفة القلبية لكن مع تلك الوجهة الإيمانية فهو يقول : {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} [إبراهيم/40]، ويقول : {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ } [إبراهيم/35] .
وهذا نوح - عليه السلام - كان حرصه على ولده أكبر ؛ فعندما بدأت نذر العقاب الإلهي بنزول المطر وتفجر المياه قال : {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ } [هود/42]، ثم هاهو يواصل الابتهال إلى ربه قائلا : {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ } [هود/45] حتى جاء القول الرباني الذي بين مفارقة الابن لأبيه بسبب الكفر .
وهذا نبينا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فعن أنس - رضي الله عنه - قال : (كان إبراهيم ابنُ النبي صلى الله عليه وسلم مسترضعاً في عوالي المدينة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينطلق ونحن معه ، فيدخل البيت .. فيأخذه فيقبله ويرجع) [رواه ابن حبان وغيره بسند صحيح] .
الله أكبر ، رسول الله صلى الله عليه وسلم يذهب إلى العوالي ليس له إلا هذا الهدف ، وهو من هو ؟ قائد الأمة المنشغل بشؤونها والمدبر لأمورها ؟!
فهذه العناية والرعاية فطرة إنسانية ، وسنة إسلامية .
ونحن في أيام الاختبارات نعتني بأولادنا عناية خاصة ، ونحرص على شؤونهم ورعايتهم ، فقد يجتنب أحدنا السفر في هذه الأيام ، وربما اعتذر عن بعض الدعوات والولائم ليطمئن عليهم ، ولا يكاد يمر يوم إلا ونسألهم عما فعلوا في اختباراتهم ، ونبدي لهم التعاطف والاهتمام ، وندعو لهم بالتوفيق والنجاح ، وربما ترك الأبوان خلافاتهما ، وأظهرا حرصاً على أن يكونا متعاونين متشاورين فيما يؤمن للأولاد أفضل الأجواء التي تقودهم إلى النجاح والتفوق ، وهذه صورة إيجابية طيبة ، دعت إلى هذه اللفتات التربوية :
أولاً: الإشعار بالعناية والرعاية:
إن نظرة العين وبسمة الثغر لها في نفوس الأبناء وقع كبير ، وأثر عظيم ، فلماذا لا تكون هذه العناية دائمة وشاملة ، فأين العناية بالجانب الإيماني والتعبدي ، ثم بالجانب السلوكي والخلقي ، والجانب الثقافي والأدبي ، لما لا نسألهم : ماذا قرأت ؟ وهل أديت الفريضة ؟ أفي المسجد أم في غيره ؟ قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم/6]، وقال صلى الله عليه وسلم : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) .
ثانياً: التهيئة والمساعدة :
في الاختبارات نهيئ كل الأسباب بالهدوء التام ، ومنع أمور كثيرة تعيق عن الجد والاجتهاد ، ونقطع الزيارات ، ونوقف المناسبات ، ثم نقدم المساعدات ؛ مادية من طعام وشراب ولباس ، وعلمية إما باستجلاب المدرسين ، أو بقيام الآباء والأمهات بمساعدة الأبناء في دراستهم ، وهذه المساعدة ذات بعد تربوي أساسي مهم ، فالأبناء امتداد للآباء يقتبسون من علومهم ويستفيدون من خبراتهم وتجاربهم ، ولذلك اجتهدنا اليوم لنعلمهم الفيزياء والكيمياء وغيرهما ، فلما لا نجتهد في تعليمهم أمور دينهم وهي أولى ، فهذا علي بن الحسين يقول: (كانوا يعلموننا مغازي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما يعلموننا السورة من القرآن) .
ولماذا لا نجتهد في تعليمهم الثقافة والقراءة ، أفليسوا في الاختبارات يقرؤون مئات الصفحات ؟ فلما لا ننقلهم إلى قراءة أوسع وأشمل ، في العلوم الشرعية ، و في الثقافة بآفاقها المختلفة ، وفي الأدب الذي يكتسبون به فصاحة القول وبلاغة الأسلوب ، ولما لا ذا نجعل هذه العناية ممتدة في غير هذه الأوقات ولو بحوافزَ وبمسابقات ؟
ثالثاً : المشورة والتعاون:
فالأم تخبر الأب بأن ابنها عنده مشكلة في هذه المادة ، أو عنده خلاف مع هذا الاستاذ، والأب يوصي الأم بالانتباه للابن في مذاكرته ، وربما تشاورا في الإتيان له بمدرس أو الاستعانة بشخص معين ، فلم لا يكون ذلك التعاون في سائر الأحوال ، فأين نحن من التعاون في معالجة مشكلاتهم الفكرية حتى لا نفاجأ بأن بعضهم ضل أو انحرف إلى التكفير أو التفجير ، أو إلى التساهل والتشكيك في مسلمات الدين ، وأين التعاون في تهذيبهم خلقيا ، وغير ذلك كثير .
رابعاً : الإشعار بالمحبة :
نحن نعلم أن محبة أولادنا غريزة مستقرة في قلوبنا ، لكن التعبير عن هذه العاطفة لا بد أن يكون بأسلوب مادي ولا أعني به المال ، بل الكلمةَ والبسمةَ والنظرةَ أو الهدية والمكافأة ، فيشعر الأبناء أنهم في موضع الرعاية الكبرى والعناية العظمى ، وأنهم يعيشون في أجواء من المحبة الصادقة والعاطفة المتدفقة من أعظم اثنين لهم بهما صلة وهما الأب والأم ، ومن ذلك أن تكتب لابنك كلمة أو بيتاً من الشعر في مذكرته الخاصة ، أو ترسل له رسالة على جواله تعبر له فيها عن عاطفتك وحبك .
خامساً : تحمل المسئولية:
يساعد الآباء والأمهات أبناءهم لكنهم في الوقت نفسه يقولون لهم : اعتمدوا على أنفسكم ، تحملوا مسؤولياتكم ، وإذا بهم فعلاً يستشعرون هذه المسؤولية ، فهم في النهاية من يؤدون الاختبارات ، وهم من يجتازونها بنجاح أو خفوق ، وهذه مدرسة تربوية مهمة لا بد أن ننشئ عليها أبناءنا من صغرهم ، فإن أعنَّاهم أو ساعدناهم فلا بد أن يدركوا أنهم متحملون للمسؤولية ، وأن يكونوا على قدرها، فيأخذون غُنْمَها ويتحملون غُرْمَها .
أسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يحفظ أبناءنا وبناتنا ، وأن يجعلهم صالحين مصلحين ، وأن يعصمنا وإياهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
منقول للاستفادة