--------------------------------------------------------------------------------
يقول الإمام الغزالي:
'الصبي أمانة عند والديه وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به وإليه فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عُوِّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه'.
ويقول ابن القيم رحمه الله:
'فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء، وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينتفعوا بأنفسهم ولم ينفعوا آباءهم كبارًا، كما عاتب بعضهم ولده على العقوق، فقال: يا أبت إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا فأضعتك شيخًا'.
وبر الوالدين سلوك مثله مثل أي سلوك ينقش ويغرس في نفس الطفل الطاهرة منذ نعومة أظفاره فتكون النتيجة أن يتفاعل الطفل تلقائيًا بهذا السلوك بسلاسة ويسر، بدون تكلف أو بسبب تخويف أو تهديد إن هو تعلمه منذ الصغر وتربى عليه فلن يجد بدًا من التعامل به حين يشب ويسن، بل إن هو تعلمه منذ الصغر سيجد بعد ذلك في نفسه الغيظ من كل عاق لوالديه؟ ويجد في نفسه أيضًا الاستنكار لكل موقف أو سلوك فيه عقوق للوالدين سواء كان منه عن غير قصد أو ضعف إيمان، أو كان من غيره بسبب ضياع التربية الأخلاقية والإيمانية.
وهذا أنموذج للابن البار:
انظر كيف كان بارًا بوالده واسمع إلى حواره مع أبيه ـ عمر بن العزيز ـ تجد العجب العجاب وتعلم كيف أن البر هو ثمرة التربية عليه منذ الصغر:
'رأى عمر بن عبد العزيز ولدًا له في يوم عيد، وعليه ثوب خَلق ـ أي قديم ـ فدمعت عيناه فرآه ولده، فقال: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟
قال: يا بني أخشى أن ينكسر قلبك إذا رآك الصبيان بهذا الثوب الخلق.
قال: يا أمير المؤمنين إنما ينكسر قلب من أعدمه الله رضاه، أو عق أمه وأباه، وإني لأرجو أن يكون الله تعالى راضيًا عني برضاك'.
فالطفل البار:
هو طفل ولد فوجد أباه وأمه يبران والديهما، وجد أباه يقبل رأس والده ويده كلما لقيه أو رآه بل ويأمره فور رؤية جده أن يسرع إليه ويقبل يده ورأسه، ووجد أباه يفعل ذلك مع جدته أيضًا.
وجد هذا الطفل البار أمه تفعل ذلك مع والديها، ولد هذا الطفل البار فوجد الدنيا حوله كلها بر، الأب يسرع فيعطي والده الماء ويطير إليه فور سماعه أنه مريض أو يشكو ألمًا أو بحاجة إلى شيء ولو صغير.
وجد هذا الطفل أباه يخفض صوته عند أبيه ولا يرفع صوته عنده.
ولد هذا الطفل فتعلم أول ما تعلم قول الله ـ تبارك وتعالى في سورة الإسراء: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً][23]وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23ـ 24].
ووجد حال أبيه كذلك في كل صلاة يدعو لوالديه رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا. وجد هذا الطفل أباه يذهب بعد وفاتهما لزيارتهما والدعاء لهما، ويأخذ معه إلى المقابر ويقول ادع لجدك يا بني ويأخذ بيده بعد وفاتهما لزيارة أصدقاء والديه برًا بهما.
ولد هذا الطفل فوجد الدنيا كلها حوله تنطق برًا .. حتى بين أبيه وأمه وجد البر والرحمة والمودة، وجد أباه يحرص على البر بزوجته ويعاملها معاملة اللين والرفق، ثم وجد أمه تقبل يد زوجها ورأسه في ذهابه وإيابه ولا تعصيه أبدًا، وإن اختلفوا لم ير الطفل هذا الخلاف أبدًا أمام ناظريه.
هذا هو الطفل البار .. تربى في مدرسة البر فأصبح بارًا، واستنشق عبير الإحسان فأصبح يفيض إحسانًا.
وأما الطفل العاق:
فهذا ولد أصلاً ولم ير جده ولم ير جدته لا من أبيه ولا من أمه لا لأنهم ماتوا ولكن لأن برهم مات في قلب والديه وإن رآهم ففي المناسبات والأعياد بل قد يرى أباه يصرخ في جده، ويرفع صوته عليه ويشيح بيديه، هذا الطفل العاق رأى أمه تتأفف من أمها وترفع صوتها عليها، بل ربما تغتابها في غيبتها.
ولد هذا الطفل فوجد الدنيا حوله كلها عقوق حتى داخل البيت، يرى أمه وأباه في شجار وعراك غير منقطع وصراخ وبكاء بين الوقت والآخر، بل يرى أباه يضرب أمه على وجهها أو يشد شعرها، ويداها هي تسبه وتلعنه ولا تطيع أمره، يجد أباه يهجر أمه بل ويتركها وينزل من البيت ويبيت خارج البيت أين تعلم الطفل العقوق إذن؟ إنه لم يتعلمه إلا من وحي هذا البيت الذي عاش فيه وتربى.
ثم بعد ذلك تجد الشكاوى تنهال من الآباء: إن ابني يعقني إن ابني لا يبرني؟ تصور لا يقبل يدي، ولقد رأيت بنت فلان تقبل يد أباها.
فنقول بكل أسف من تربى على شيء شاب عليه ومن تعلم البر لا ينساه، ولا يعرف أن يتعامل إلا به، ومن عدمه في أبيه وأمه ولم يتربَ عليه في صغر فلا يتصور أن نضع البر في صدره بسحر ساحر.
كيف تغرس البر في نفس الطفل منذ نعومة أظفاره؟
ويكون هذا عن طريق:
1ـ ألا يحقر أحد الوالدين من شأن الآخر أمام الطفل فيقل شأنه في نفسه ويعتاد عدم احترامه، وألا يدع أحد منهم الطفل يقلل من شأن الوالد الآخر دون أن يزجره على ذلك.
2ـ أن يتعود الطفل أن يذكر والديه عند الخطاب بألفاظ الاحترام مثل أن يخاطبه بقوله: حضرتك.
3ـ ألا يحد النظر لوالديه، وخاصة عند الغضب، قال صلى الله عليه وسلم: 'ما بر أباه من سدد إليه الطرف بالغضب' [رواه الطبراني].
4ـ لا يمشي الطفل أمام أحد والديه، ولكن يمشي بجانبه أو خلفه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: 'لا تمشي بين يدي أبيك، ولكن امشي خلفه، أو إلى جانبه'. [رواه الطبراني].
5ـ إذا رأى أحد الوالدين يحمل شيئًا يسارع في حمله عنه، إذا كان حمله في مقدرته.
6ـ إذا خاطب أحد الوالدين يخفض صوته، وإذا تحدث إليه أحدهما لا يقاطعه ويستمع إليه حتى ينهي كلامه معه.
7ـ إذا دخل عليه أحد والديه الحجرة أو البيت وكان راقدًا، فيقوم ويجلس احترامًا له، وإن كان جالسًا وخاطبه فيقوم يحدثه وهو قائم، ولا يحدثه جالسًا وأبوه واقف.
8ـ إذا دخل على أحد والديه البيت أو الحجرة فيلقي عليه السلام، وإذا ألقى أحدهما السلام فيرد عليه وينظر إليه مرحبًا.
9ـ إذا أعطس أحدهما فيشمته وهو ينظر إليه ويقول: يرحمك الله يا أمي أو يا أبي.
10ـ إذا احتاج النداء على أحد والديه فلا يرفع صوته أكثر مما يسمعه، ولا يناد عليه من بعيد إلا للحاجة، وعليه الذهاب إليه والاقتراب منه، إلا إذا تعذر عليه أو شق عليه ذلك.
11ـ إذا أكل مع أحد والديه لا يبدأ الطعام قبله، وينتظره حتى يبدأ هو إلا إذا أذن له في ذلك.
12ـ إذا جلس مع أحد والديه وأراد ترك المجلس للنوم أو لشيء آخر فعليه أن يستأذنه.
13ـ إذا أراد أن ينام من آخر اليوم فعليه أن يحيي والديه بمثل قوله: أتركك في رعاية الله يا والدي، أو يا أمي.
14ـ إذا استيقظ صباحًا فعليه أن يحيي والديه بمثل قوله: أصبحت بخير يا أمي أو يا أبي.
15ـ إذا خرج أحد والديه من البيت لمهمة أو للعمل فيقول له: في حفظ الله يا أبي أو في حفظ الله يا أمي، أو يقول: أعادك الله لنا سالمًا غانمًا.
16ـ إذا حضر أحد والديه من سفر، أو بعد غيبة فيصافحه، ويقبل يديه ويلتزمه ويقول له: الحمد لله على سلامتك يا أبي. الحمد لله على سلامتك يا أمي، لقد اشتقنا لك كثيرًا لا حرمنا الله منك ومن وجودك معنا.
17ـ إذا أراد أحد والديه ارتداء ملابسه، أو حذاءه يحضره له، عن أنس رضي الله عنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لفلان من الأنصار: ناولني نعلي، فقال الغلام: يا نبي الله بأبي أنت وأمي، اتركني حتى اجعلهما في رجلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'اللهم إن عبدك هذا يترضاك فارض عنه' [رواه الطبراني] فإن فعل ذلك مع الوالدين ففيه رضا الله، وهذا الأمر سيكون صعبًا إن لم يعود عليه الطفل منذ الصغر، وكذلك تقبيل اليد أو الرأس يكون صعبًا على النفس إن لم يعود عليه منذ الصغر.
18ـ يدعو لهما وخاصة في الصلاة.
19ـ لا يدخل على أحد والديه إلا بعد الاستئذان، فإذا كان أحدهما نائمًا فلا يقلقه بحركة أو صوت ولا يوقظه إلا لحاجة مهمة.
20ـ يساعد والدته في الأعمال ولا يتأفف من طلباتها، ولا يأخذ شيئًا من الأطعمة أو غيرها إلا بإذنهما.
21ـ لا يكثر من الطلبات منها، ويكتفي بما يحضرانه أو يعطيانه إياه ويكثر من شكرهما على ذلك، مثل أن يقول: جزاكما الله خيرًا وزادكم من فضله.
22ـ إذا مرض أحدهما يلازمه ما استطاع ويقوم بخدمته ويحرص على راحته ويتابع علاجه ويكثر من الدعاء له بالشفاء
23ـ ويفضل أن يكون الطفل حافظًا للآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي توجب بر الوالدين وترهب من عقوقهما.
هذه ليست نصائح موجهة للطفل بل هي في المقام الأساس موجهة للآباء والأمهات أن يربوا أبناءهم عليها ويلزموهم بها ولا يتهاونوا في أدائها ويأمروهم بتنفيذها معهم ولا يظنن ظان أن الامتناع من الآباء عن إلزام الأطفال بذلك هو عطف وحنان بل هي إساءة لهم كأبناء في المقام الأول ثم إهانة للآباء في الختام.
تعودوا الخير فإن الخير عادة:
هكذا قال السلف وإلى هذا أشار سيد الخلق صلى الله عليه وسلم فقال: 'العلم بالتعلم والحلم بالتحلم والصبر بالتصبر' فتنبه أيها الأب وأيتها الأم فسيأتي عليكما زمان تبلغان فيه من العمر أرذله عندها قد يقعدكم المرض، وقد تحتاجون إلى أبنائكم فلا تجدوهم، إن لم تعودوهم على البر منذ الصغر.
وإن لم تغرسوا البر في نفوس أبنائكم منذ الصغر لن تجدوا من يعينكم عند الكبر، ومن لم يذل لوالديه في صغره فأنى له أن يذل في كبره.
فعليكم إذن بذر الحب حتى تقطفوا الجني بعون الله تعالى، وعليكم أيضًا أن تبروا آباءكم حتى يبركم أبناؤكم، فإن الجزاء من جنس العمل: قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} فإنه من يزرع الورد فلا يجني إلا الورد، ومن يزرع الشوك فهل يجني غير الشوك!
فهلم بنا نزرع الود والمحبة والاحترام والبر والمراعاة والتبجيل في نفوس أبنائنا ولنزرع فيهم قيم التكريم لننال بفضل الله تعالى منهم الشكر عند الكبر