شعر الرسول ( صلى الله عليه وسلم) بأن حياته قد انطوت ، وأيامه قد انتهت ، لأنه أدَّى ما عليه ، وأقام دينه العظيم يؤدي فعالياته في توجيه الإنسان وإقامة سلوكه .

فإذن لابد له ( صلى الله عليه وسلم) من الرحيل عن هذه الحياة ، فقد كانت هناك إنذارات متوالية تدل على ذلك ، وهي كما يلي :
أولها :

أن القرآن الكريم نزل على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) مَرَّتين ، فاستشعر ( صلى الله عليه وسلم) بذلك حضور الأجل المحتوم ، وأخذ ينعى نفسه ، ويذيع بين المسلمين مفارقته لهذه الحياة .

وكان يقول لبضعته سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) : ( إِنَّ جِبرائيلَ كَانَ يُعارضُني بالقُرآنِ في كُلِّ سَنَة مَرَّة ، وإِنَّه عارضني به العام مرتين ، وَما أرَى ذَلك إِلاَّ اقتِرَاب أَجَلي ) .
ثانيها :

إنّه نزل عليه الوحي بهذه الآية الكريمة : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ ) الزمر : 30 .

وكانت هذه الآية إنذاراً له ( صلى الله عليه وسلم) بمفارقة الحياة ، فأثارت كَوامِنَ التَوَجُّسِ في نفسه ( صلى الله عليه وسلم) .
ثالثها :

إنّه نزلت عليه سورة النصر ، فكان ( صلى الله عليه وسلم ) يَسكُتُ بين التكبير والقراءة ويقول : ( سُبحَانَ اللهِ وَبِحَمدِهِ ، أَستَغفِرُ اللهَ وَأتُوبُ إِلَيه ) .

فَفَزع المسلمون وذهلوا ، وانطلقوا إليه يسألونه عن سبب ذلك ، فأجابهم ( صلى الله عليه وسلم) : ( إِنَّ نَفسِي قَد نُعِيَتْ إِلَيَّ ) ، وكان وَقْعُ ذلك عليهم كالصاعقة ، فلا يعلمون ماذا سيجري عليهم إن خلت هذه الدنيا من النبي ( صلى الله عليه وسلم) .
حِجَّة الوَداع :

فلما أَحسَّ النبي محمد ( صلى الله عليه وسلم ) بِدُنُوِّ الأجل المحتوم منه ، رأى أن يَحِجَّ إلى بيت الله الحرام ليلتقي بعامة المسلمين ، ويعقد هناك مجلساً عاماً يضع فيه الخطوط السليمة لِنَجَاة أُمَّتِه ، ووقايتها من الزيغِ والانحراف .

فحج ( صلى الله عليه وسلم) حِجَّتَه الأخيرة الشهيرة بـ ( حِجَّة الوَداع ) في السنة العاشرة من الهجرة ، وسميت تلك الحجة بـ ( حجة الوداع ) ، لأن الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ، انتقل إلى الرفييق الأعلى ، بعد حوالي ثلاثة أشهر من خطبته .

فأشاع فيها بين الوافدين لبيت الله الحرام أن التقاءه ( صلى الله عليه وسلم ) بهم في عَامِهم هذا هو آخر عَهدِهم به ، فقال ( صلى الله عليه وسلم) : ( إِنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّيْ لا أَلقَاكُم بَعدَ عَامِي هَذا بِهَذا المَوقِفِ أبَداً ) .

وجعل يطوف على الجماهير ، وَيُعَرِّفُهم بما يَضمِنُ لهم نَجَاحَهُم وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يَا أَيُّهَا النَّاس ، إِنِّي تَركتُ فيكُم الثَّـقَلين ، كِتابَ اللهِ وَعِترَتِي أهلَ بَيتي ) .

فكانت الركيزَةُ الأولى لِسَلامة الأُمَّة وصِيانَتِها عن أي زَيغٍ عقائدي هو تَمسُّكُها بكتاب الله تعالى ، والتمسُّكُ بالعترة الطاهرة ، فَهُما أساسُ سعادتِهَا وَنجاحِهَا .

ولما انتهى ( صلى الله عليه وسلم) من مراسيم الحج ، وقف عند بئر زَمْزَم ، وأمر ربيعة بن أمية بن خلف – وكان صبيّاً – فوقف تحت صَدرِ رَاحِلَته ، فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( يا ربيعة ، قُل : يَا أَيُّهَا النَّاس ، إنَّ رَسولَ اللهِ يَقول لَكُم : لَعَلَّكُم لا تَلقونَنِي عَلى مِثلِ حَالي هَذه ، وَعَليكم هَذا ، هَل تَدرُونَ أَيَّ بَلَدٍ هَذا ؟ وهَل تَدرُونَ أيَّ شَهرٍ هَذا ؟ وهَل تَدرُونَ أَيَّ يَومٍ هَذا ؟ ) .

فقال ربيعة مثل ما أمره النبي ( صلى الله عليه وسلم) .

فقال الناس : نعم هذا البلد الحرام ، والشهر الحرام ، واليوم الحرام .

وبعدما أقرُّوا بذلك قال ( صلى الله عليه وسلم) : ( إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَليكُم دِمَاءَكُم وَأَموَالَكُم كَحُرمَةِ بَلَدِكُم هَذا ، وَكَحُرمَةِ شَهرِكُم هذا ، وَكَحُرمَةِ يَومِكُم هَذا ) .

ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ ) .

قالوا : نعم .

فقال ( صلى الله عليه وسلم) : ( اللَّهُمَّ اشْهَدْ ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشيَاءَهُم ، وَلا تَعثَوا في الأَرضِ مُفسِدِين ، فَمَنْ كَانَت عِندَهُ أمانَةً فَلْيُؤَدِّهَا ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( النَّاسُ في الإِسْلاَمِ سَواءٌ ، النَّاسُ طَف الصَّاعِ لآدمَ وَحَوَّاءَ ، لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ على عَجمِي ، ولا عَجمِي عَلى عَرَبِي إِلاَّ بِتَقوَى اللهِ ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ ) .

فقالوا : نعم .

فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اللَّهُمَّ اشْهَدْ ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لاَ تَأتُونِي بِأَنْسَابِكُم ، وَأْتونِي بِأَعمَالِكُم ) .

ثم قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ ) .

فقالوا : نعم .

فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اللَّهُمَّ اشْهَدْ ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم) : ( كُلُّ دَمٍ كَانَ في الجاهِليَّة مَوضوعٌ تَحتَ قَدَمي ، وَأوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمَ آدمَ بنَ ربيعة بنَ الحَارِثَ بنَ عبد المُطَّلب ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم) : ( أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ ) .

فقالوا : نعم .

فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اللَّهُمَّ اشْهَدْ ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم) : ( وَكُلُّ رِبا كانَ في الجاهلِيَّة مَوضوعٌ تَحتَ قَدمي ، وَأوَّلُ رِبا أَضعُهُ رِبا العبَّاس بنَ عَبد المُطَّلِب ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ ) .

فقالوا : نعم .

فقال ( صلى الله عليه وسلم) : ( اللَّهُمَّ اشْهَدْ ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أَيُّهَا النَّاس ، إِنَّمَا النَّسيءُ زِيادةٌ في الكُفرِ ، يضلُّ به الذينَ كَفَروا ، يُحِلُّونَهُ عاماً ، وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً ، لِيوَاطِئُوا عِدَّة مَا حَرَّمَ اللهُ ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أُوصِيكُم بالنِّساءِ خَيراً ، فَإِنَّما هُنَّ عَوَارٍ عِندَكُم ، لا يَملُكْنَ لأَنفُسِهِنَّ شَيئاً ، وإنَّما أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأمَانَةِ الله ، وَاستَحلَلْتُم فُروجَهُنَّ بِكتَابِ الله ، وَلَكُم عَلَيهنَّ حَقٌّ ، وَلَهُنَّ عَليكُم حَقٌّ ، كسْوَتَهُنَّ ، وَرِزقَهُنَّ بالمعروف ، وَلَكُم عَلَيهنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فِراشَكُم أَحَداً ، ولا يأذَنُ في بيوتِكُم إِلاَّ بِعلمِكُم وإِذنِكُم ، فَإِنْ فَعَلْنَ شيئاً من ذلك فَاهْجرُوهُنَّ في المَضَاجِع ، واضرِبُوهُنَّ ضَرباً غَير مُبرِحٍ ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم) : ( أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ ) .

فقالوا : نعم .

فقال ( صلى الله عليه وسلم) : ( اللَّهُمَّ اشْهَدْ ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( فَأوصِيكُم بِمَن مَلَكتْ أَيْمَانِكُم ، فَأطعِمُوهُمْ مِمَّا تَأكُلُون ، وَأَلبِسُوهُم مِمَّا تَلبِسُون ، وإِنْ أَذْنَبوا فَكَالُوا عُقوبَاتِهِم إِلى شِرَارِكُم ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم) : ( أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ ) .

فقالوا : نعم .

فقال ( صلى الله عليه وسلم) : ( اللَّهُمَّ اشْهَدْ ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم) : ( إِنَّ المُسلمَ أخو المُسلم ، لا يَغُشُّهُ ، ولا يَخُونُه ، ولا يَغْتَابُه ، ولا يَحُلُّ لَهُ دَمُهُ ، ولا شَيءٌ من مَالِهِ إِلاَّ بِطِيبِ نَفسِه ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ ) .

فقالوا : نعم .

فقال ( صلى الله عليه وسلم) : ( اللَّهُمَّ اشْهَدْ ) .

ويستمر النبي ( صلى الله عليه وسلم ) في خِطَابِه الحافل ، بما تَضَمَّنَتْهُ الرسالة الإسلامية من البنود المشرقة في عالم التشريع .

ثمّ ختمه – أي : الخِطَاب – بقوله ( صلى الله عليه وسلم ) : ( لاَ تَرجعُوا بَعدي كُفَّاراً مُضَلِّلينَ ، يَملِكُ بَعضَكُم رِقابَ بَعضٍ ، إِنِّي خَلَّفتُ فِيكم مَا أَنْ تَمَسَّكْتُمْ بِه لَنْ تَضِلُّوا كِتَابَ اللهِ وَعِترَتِي أَهْلَ بَيتِي ) .

ثمّ قال ( صلى الله عليه وسلم) : ( أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ ؟ ) .

فقالوا : نعم .

فقال ( صلى الله عليه وسلم ) : ( اللَّهُمَّ اشْهَدْ ) .

ثمّ التفت ( صلى الله عليه وسلم) إليهم ، فطالبهم بالالتزام بما أعلنه وأذاعه فيهم قائلاً : ( إِنَّكُم مَسْؤُولُون ، فَلْيُبَلِّغ الشَّاهِدُ مِنكُم الغَائِبَ ) .

وبذلك انتهى خِطَابه ( صلى الله عليه وسلم) .

وهذا الخطاب الرائع حَفلَ بما تحتاجه الأمة في الصعيد الإجتماعي والسياسي ، كما عَيَّنَ لها القادة من أهلِ بيته ( عليهم السلام ) ، الذين يُعنَوْنَ بالإصلاح العام ، وَبِبِلُوغِ أهداف الأمة في مجالاتها الإقتصادية والإجتماعية .