الفرق بين اللاَّعنف والفعل الخالي من العنف
زهير الخويلدي
"اللاعنف هو مبدأ للسلوك يُبتعَد من خلاله عن العنف كوسيلة في الفعل السياسي... وهو أيضًا تغييب لكلِّ عنف في أيِّ مجال كان..."
ما الذي يدعونا إلى التساؤل عن معنى اللاعنف؟ هل هو غموض هذا المفهوم أم فعاليته في التاريخ؟ هل هو وجود عدد قليل من النظريات والمدارس الفكرية التي تتبنَّى مفهوم اللاعنف، أم أن الأمر لا يطرحه أصلاً إلا المتسامحون الذين يتبنون هذه الممارسة؟ وأية جدوى من الفعل اللاعنفي في تغيير التاريخ؟ في عبارة أخرى، هل يمكن لنا أن نؤثر في حركة التاريخ ونغير مساره دون أن نلجأ إلى العنف الثوري؟
إن اللاعنف هو طريقة معينة في الفعل تعتمد قوة الحق في المحاجَجة والإقناع بدلاً من العنف والقوة المجردة. والأشخاص الذين يمارسون أفعالاً غير عنيفة هم "لاعنفيون" non-violents، حتى دون أن يطَّلعوا على مفهوم اللاعنف نظريًّا، وذلك في معزل عن الاعتبارات المذهبية والإيديولوجية التي تبرِّر مثل هذا اللاعنف. لكننا ينبغي أن نميز، قبل كلِّ شيء، بين فعل يبدو خاليًا من العنف وبين فعل لاعنفي حقًّا، وذلك برسم الحدود التي تفصل بين الفعلين والابتعاد مطلقًا عن الأفعال الإجرامية والحربية.
إن جميع الناس يشعرون شعورًا حدسيًّا بأن العصيان المدني وإضرابات الجوع وضروب الاعتصام هي كلها حركات احتجاجية تنبع من مصدر مغاير للمصدر الذي تنبع منه مفاوضات الدپلوماسيين وأشكل الحوار المتبادلة بين مجموعة من الأفراد العقلانيين ومحاولات التعاطف والتصادق والتوادُد. لذا فإن إدراج جميع الأفعال البشرية الخالية من العنف في الظاهر في خانة الأفعال "اللاعنفية" من أجل إعطائها معنى إنسانيًّا نبيلاً هو أمر غير منطقي وغير مقبول، لأن بعض العنف يتخلَّل هذه الأفعال عادة ويوجِّهها نحو مصالح أنانية ويُخرِجُها من حيز الإمكان إلى حيز التنفيذ والانجاز. إذ إن هناك أفعالاً يرافقها عنفٌ شديد وأفعالاً أخرى يقف وراءها عنفٌ قليل، وكأن العنف هو الشرط الأول لشروع كائن بشري في الفعل؛ ثم يأتي الإنسانُ بقيمة اللاعنف ليصب الماء على النار التي أشعلها فعلُه العنيف ولتخفِّف الإرادةُ الطيبة والنيةُ السليمة من حدة الإيديولوجيا ونهشة الواقع.
غير أن مفهوم اللاعنف ليس بريئًا ولا محايدًا، ولا هو يعني غياب العنف وحسب؛ بل إن هناك العديد من الالتزامات في المجالين السياسي والاجتماعي التي تتم من خلال حركات سلمية غير عنيفة. إنه ليس ماعونًا مفهوميًّا دائمًا مُعَدًّا لوصف بعض أبعاد الفعل، بل هو أيضًا قضية تستدعي اتخاذ العديد من المواقف الحاسمة من طرف الفاعل. ينبغي أن نتعرف إلى توازُن القوى الموضوعة على الذمة والتحري عن شرعية الوسائل المستعمَلة وسلميَّتها من أجل الحكم على فعل ما على أنه "لاعنفي"، وليس مجرد فعل خالٍ من العنف. إذ إن لفظ "لاعنف" ينطوي ضمنًا على حكم وجوب (حكم قيمة)، وليس حكم وجود (حكم واقع)، وينتمي إلى إثيقا éthique رافضة بإطلاق كلَّ فعل عنيف.
فما هو نوع النشاطات التي تدفع الأفراد والمجموعات نحو حظر العنف ومنعه منعًا باتًّا؟ وماذا تعني مقاومة العنف بطريقة لاعنفية؟
ظهر مصطلح "لاعنف" non-violence أول مرة سنة 1920 لتسمِّي به الصحافةُ الحركةَ السياسيةَ التي أطلقها المهاتما غاندي ضد الاستعمار الإنكليزي للهند. واللاعنف هو منهج فعل نوعي يتيح الصراع ضد العنف باتِّباع أسلوب غير عنيف. إنه نوع من المقاومة السلمية أو تعويل على المقاومة السلبية resistance passive، سماه غاندي "سلاح الضعفاء"؛ وهو الذي يتجنب العنف دون أن يتمكن دومًا من اقتلاعه من جذوره، ويحد منه دون أن يستطيع دومًا منعه من الاندلاع والتفجر والانتشار.
يتكون مفهوم اللاعنف من حركتين: رفض العنف، أولاً، واتباع منهج في الفعل لا يستعمل العنف، ثانيًا، وذلك من أجل بناء الحياة وصونها والتوقف عن إعدام الوجود وتصحير المجتمع ونشر الخوف والذعر بين الناس، ومن أجل احترام الكرامة الإنسانية وتقييد استعمال القوة بحبائل الحق والخير والجمال.
إن العنف مباشر وبنيوي structurel وعدواني. وهو، إلى ذلك، وسيلة في جملة وسائل أخرى، وليس الوسيلة الوحيدة لتنظيم العلاقات بين البشر ولحلِّ النزاعات؛ لا بل إنه يزيد من تعقيد المشكلات، ويُدخِلُ الوجود البشري في حالة من الفوضى، ويشوش مشهد الصراع، ويمثل، في حدِّ ذاته، مشكلة جديدة. عندئذٍ يبدو اللاعنف حاجةً ملحةً ومذهبًا ضروريًّا لتبريد حمَّى العنف ومنعه من الاندلاع مجددًا، وذلك باتِّباع وسائل لاعنفية لتحقيق أهداف سياسية بعينها.
اللاعنف توق حارق إلى شيوع التسامح والسلام. وهو مبدأ توجيهي ملزِم يرفض بتاتًا اللجوء إلى القوة المجردة أو الانخراط في تجارب نزاع عنيفة تؤدي إلى القتل وإزهاق الأرواح وتخريب معالم العمران ولا يُسيطَر على أهدافها وغاياتها النهائية.
في نهاية المطاف، يختلف اللاعنف، بوصفه حركة نبيلة وقيمة مطلقة تؤسِّس للمصالحة وتدعو إلى احترام الذات والتعايش مع الآخر، عن الفعل الخالي من العنف في الظاهر الذي يؤجِّل ويناور ويخفي الضعف ويضمر الحقد ويؤسِّس للقتل ويبرمج الحرب ويقنِّن الصدام بين الشعوب والأديان.
والسؤال الجوهري المطروح في هذا الصدد هو: هل تقدر المقاومة المدنية السلمية على حلِّ التناقض الحدِّي بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي؟ وكيف تخرج الهويات الخصوصية من حالة الانطواء على الذات والدفاع ضد العولمة الاختراقية، فتجبرها على المشاركة في صناعة العالمي l'Universel؟