البصائر عدد 109 السنة الثالثة، قسنطينة يوم الجمعة 2 صفر 1357 هـ الموافق 22 أفريل 1938 م
على الساعة العشرة صباحا نزل بقالمة فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد الحميد بن باديس رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين قادما من قسنطينة إلى قالمة بقطار الضحى إجابة لدعوة أهل المدينة.وقد تلقاه بالمحطة عند النزول بعض أعيان المدينة وطلبتها، وبعد التحية والترحيب بفضيلته توجه الجميع إلى مركز شعبة الجمعية حيث تقرر على إثر الوصول برنامج أعمال الرئيس الذي قدم خصيصا لها في ذلك اليم وليلتة المقبلة.
ونظرا ضيق حجم هذه المجلة وكثرة موادها فإني استسمح لقراء الكرام أن أغفلت وصف مهرجانات الاحتفاء والاحتفال بقدوم الرئيس العظيم الأستاذ ابن باديس إلى قالمة وإكرامهم مثواه فقد كان إقتبال أهل قالمة له وسرورهم به بالغا الغاية وكان لما أسدى إليهم اليوم من نصائح وإرشادات قيمة في محاضرته ودرسه الجامعين المانعين الأثر الحميد في نفوسهم،والى القراء الأفاضل خلاصة المقصود من زيارة الأستاذ إلى قالمة وما عمله بها.
إن القصد من زيارة الأستاذ إلى قالمة – وفق رغبة سكانه المسلمين – هو حث عامة هذه النواحي على التآخي والتعاون على الخير ونصرة المشاريع الإسلامية النافعة والتضامن في كل ما يهم المسلمين ونبذ كل خلاف ينسيهم روابط الأخوة الإسلامية التي جمعهم الله بها على الهدى والحق، وان يعلموا حق العلم ان لا حزبية بينهم إزاء القضايا العمة والمشاريع الهامة التي هم مسؤولون أمام الله ورسوله [ صلى الله عليه وسلم] والناس أجمعين عن حقها عليهم وما حقها عليهم سوى تعاونهم على إحيائها تعاونا مستمدا من وحي الضمير.
بعد ظهر اليوم المذكور نادى مناد في المينة أن الأستاذ ابن باديس يلقي محاضرة بفسحة السينما بعد صلاة العصر، وما أزفت الساعة المعينة حتى اكتظت ردهة المحل وشغلت جميع كراسيه بالوافدين الذين من بينهم من جاؤوا من أماكن بعيدة لسماع محاضرة الأستاذ وعلى اثر ذلك صعد فضيلته منصة الخطابة وشرع يمتع السامعين بما تهفو إليه أرواحهم وتنجذب إليه عواطفهم وتستعذبه مشاعرهم من خالص النصح وسديد الإرشاد وبديع الخطب.
بدأ الأستاذ محاضرته بحمد الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تطرق إلى التحدث لسامعيه عن محاسن الإسلام التي تجل عن الوصف فأبان لهم ما يجب عليهم للمحافظة على الإسلام الثمين وكتابه الإلهي ذي اللسان العربي المبين، بيانا هو الشمس وضوحا والحق نورا فقال: " إن هذا الإسلام هو رحمة من الله لبني آدم فانظروا رحمكم الله قوله تعالى: { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ () الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ () الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} كيف كرر الله عز وجل لفظ الرحمة أربع مرات في موطن واحد ولم يقل لنا " القهار الجبار" مع أنه عز وجل قهار جبار كل ذلك لنستشعر سعة رحمة الله بخلقه، فإذا كان رب الناس الذي هو المالك لهم على الحقيقة يعامل عباده بمقتضى هذه الرحمة التي وسعت كل شيء فأحرى أن يتخلق عباده بأخلاقه وتظهر عليه هذه الأخلاق في معاملة بعضهم لبعض وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من لا يَرحم لا يُرحم".
ثم إن السلام بقدر ما فيه من رحمة للبشرية ورأفة واحترام لها فهو يمقت الظلم والجبروت والطغيان أشد المقت ويندد بالمتصفين بهذه الصفات من العباد أمر تنديد، فهو لا ربوبية فيه باسم الدين، بل الربوبية الحقيقية هي لرب العالمين وحده على عباده، وهذا هو السر في سرعة انتشار الإسلام في جل أقسام المعمورة في مدة 25 عاما، وبفضل هذا الإسلام.
أيها السادة اهتدى أوائلنا العظام واهتدينا نحن، لما تضمنته مبادئه السامية من رحمة وسماحة وعدل يغبط عليه، نعم بفضل هذه الخصال الكريمة ونظرائها في الإسلام تحول العرب من الجهل إلى العلم، و[ من] القسوة إلى الدين، ومن الهمجية إلى المدنية التي مدنوا بها الأمم يومئذ، وكان للعرب بها لأفضل على سواهم رم أنف من جحد منهم وما يجحد بها إلا كل أَفَّاكٍ أَثِيمٍ، وفي ما كان للعرب من رحمة اكسبها اياهم الاسلام السمح، قال غوستاف لوبون: ( لم يعرف التاريخ فاتحا أرحم من المسلمين)! فهذا الإسلام أمانة عندنا وبه سعادتنا وعزنا فلنحافظ عليه وذلك بالمحافظة على كتابه الكريم ولسانه العربي المبين تعلما وتعليما، ايها السادة كما تلقيناه عن آبائنا وأجدادنا، وكل من عارضنا في هذا التعليم رددنا معارضته ردة الأباة الكرام وأولى الناس بالمحافظة على القرآن [ الكريم] هم حفاظه الذين استحقوا به لقب " السياد " إن علموا!.
إن قواعد الاسلام التي شرعها الله لعباده جعلت عواطفنا وشعورنا مطبوعة على أن لا نحس إلا إحساسا متحدا { صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } [ البقرة: (138)] فالصائمون مثلا يحسون إحساسا واحدا بما ينشأ لهم من جوع وعطش، وقس على ذلك فديننا دين الرحمة والاتحاد على الخير ونحن مسلمون لا نتحد على الشر أبدا ولا نضمره لأحد من الناس، كما لا نقبله من أي أحد منهم كائنا من كان"
هذه محاضرة الأستاذ ابن باديس نقلناها نقلا اختزاليا أثناء إلقائها على المنصة، وحافظنا على ألفاظها ومعانيها حتى لا يفلت من ذلك شيء، وهي نفس الخطاب الذي ألقاه ليلا بنادي الشباب الإسلامي القالمي بعد أن أفرغها في قالب يناسب طبع الشباب ومزاجه الكهربائي الذي عبر عنه الأستاذ بالشعلة المقدسة وتفنن فيه ما شاء له البيان وأراد وزاد على ذلك مخاطبا الشباب ومرغبا في الاستزادة من العلم النافع بأي لغة كان ومن أي شخص جد، والاعتراف بجميل من يكون لهو واسطة في نيل العلم خالصا من شوائب المس والدس، فقال: " إن طلاب العلم عندنا ثلاثة أقسام، قسم طلبوا العلم من الغير فنالوه إلا أن الغير طبعه بطبعه، فهو عوض أن يأتونا به مطبوعا بطابعنا الفطري الذي هو بل الاتصال بين أفراد أمتنا وبين جامعتهم القومية أصبحوا متأثرين بطابع الغير.
وقسم نالوا العلم ولم يحسنوا التصرف فيه لنفع مجتمعهم ووسطهم، وقسم نالوا العلم من الغير وأحسنوا التصرف فيه ونفعوا به بلبادهم وقومهم، فهذا الفريق هو الذي نحتاجه اليوم وعلى يديه يكون رقي البلاد وخيرها.
فأرجوكم أيها الشباب الحازمون أن تأخذوا العلم بأي لسان كان وعن أي شخص وجدتموه وأن تطبعوه بطابعنا لننتفع به الانتفاع المطلوب كما أخذه الأوروباويون من أجدادنا وطبعوه بطابعهم النصراني وانتفعوا به وهم إذ أنكر بعضهم اليوم فضلنا عليهم فذلك شأنهم، أما نحن فلا ننكر فضل من أسدى إلينا الخير الخالص ونعترف له بالجميل الذي لا يراد به سوى الجميل ولا علينا فيمن: { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} الصف
ولا يكن في صدرنا من حالهم حرج، فصدورنا بالإيمان بالله والثقة به أوسع وعقولنا أرجح وديننا أرحم وأكمل"