أسطورة على رقم بابلي
مهداة إليهم وهم يعبرون بوابة الموت والشموخ .. إليهم كل حين .. إلى كل صرخة عبرت ولم تجد أمامها إلا سيوف وسياطالجلادين .
أكان قدرك يا بابل أن تموتي كل حين , فمتى تصنعين للحياة قدراً لا يشبه الأقدار .. ومتىفي روابيك تزهر وتزدهي الحياة ؟؟؟!!!
حنظلة من بلد المليار شهيد وشهيد
في الأفق البعيد حطت الرمال بين يديه ,لتحكي أسفاراً بعيدة .. لتحكي ذاك التواصل العجيب بينه وبينهم , لم يكن يشبههم ولم يكونوا يشبهونه , لكنه كان موقناً أنه ثمة تفاصيل تدفعه كي يكون معهم في آلامهم ..وآمالهم.
قرابين عدة قتلت فيه ذلك الإحساس المقاوم وهو يرى التوابيت والرؤوس المتطايرة , تحكي عن ظلم الإنسان لأخيه الإنسان .
فيما هو في جولة تأملاته جاؤوا وأخذوه من أمام عينيه.
بكى القلب قبل أن تبكي العين , كان صديقهالأثير منذ سنوات في هذا المعتقل المظلم الموحش عما به , وقد تقاسما الآلام والذكريات والسياط , وكم كان يجلس إليه وهو يراه يدون في أوراقه أشياء قد نسيها الزمن , أشياءً غالية عليه , لكنها مع هذا لم تكن تعني سواه , الصور التي استطاع أن يهرب بها لأطفاله السبع ولابنته الصغرى التي كانت في الثانية حين مضوا بوالدها نحو البعيد - لما وراء الأفق بقليل - حيث كانت هذه هي إجابة الأب حين تحاصره أسئلة أولاده عن كل من يمضي بلا عودة .
وظلت آية مشهداً بعيد لا يدري الأب أينحطت به الرحال .. وأين حطت الأقدار بعائلته ؟؟
ظلت هذه الجدران الصماء تحكي أشواقه وثمان سنين مع الظلم والقضبان .
شاقته أشعة الشمس التي كانت تحط فوق نافذة طفولته لتحدثه بأشياء و أشياء هو الراهب الذي وهب نفسه للكتابة ولوطنه .
إذ لم يكن الوطن طائراً مغرداً يحط فوق نافذته ويرحل ككل الأشياء الجميلة , كان إحساساً وشوقاً يعربد في أعماقه كل حين ,كلما ازدادت العتمات كان يراه .. كان يجلس إليه ويبحث عنه في آن .. في ثنايا الأوراق .. في ثنايا ما يعيش من محن .
وازدادت خربشات عمر مع كل جلسة تحقيق جديدة , إذ عرف منذ وقت أنه كان عليه أن يحفر قبره كما الآلاف الذين طلب منهم هذا, كي لا يتكلف القتلة عناء الحفر أو رمي الجثة للوحوش أو فوق تلال القمام المتراكمة هنا أو هناك .
لكم كان يخشى عمر من هذا المصير , لكنه مع هذا كان يبحث عن موت مشرف يليق به وبوطنه , ولم يكن يعنيه ما يقضيه من وقت انتظاراً للموت , ما كان يعنيه أكثر هو كتابة وصيته لابنته آية , وهو لا يعرف , هل لازالت تنتظر والدها قرب سياج الحديقة , لتخبره عن كل أحلامها الطفولية ؟؟؟!!!
وأكب يخط الوصية وفي عينيه بعد آلاف الأحلام التي لم تقتلها سياط الجلادين ولا نزواتهم فوق أجساد ضحاياهم .
قدم له القصاصة وهو يهمس له قائلاً : أحفظها جيداً إلى حين خروجك يا علي إن قدر لك الخروج , وقدر لك المرور بمنزلي فأسأل عن صغيرتي وأعطها هذه الرسالة , إذ فيها بعد أغاريد كانت تحلم يوماً بها .
أكان موقناً أن خروجي قريب ؟؟؟!!! منذ ذلك اليوم لم أعرف مصيره , ولم أشهد قطع رأسه , ولا طالعت جثته فوق التلال المتناثرة هناك , لكنني كنت على يقين أنه قد غادر بوابة الحياة بلا رجعة .
وظل طيف عمر يتابعني في كل الجلسات التي صارت حكراً علي وعلى أحلامي , التي لم تجد سوى الجدران كي تعبث بها .
كانت وحدتي قاسية جداً , لأنني لم أكن أشبههم ولم يكونوا يشبهونني , لكننا تقاسمنا السياط والأسر والظلام .
وجاء اليوم الموعود وخرجت للعالم بعد تسع سنوات من الاعتقال , كجنين يخرج للحياة ثانية , عبثت بداخلي الأشواق وحطت بي عن دبوابة منزل صديقي . شاهدتها هناك لازالت تنتظر طفلة في الثانية عشرة من عمرها ,حين اقتربت أٍسأل عن أصحاب المنزل .
أسرعت إلي وهي تسألني : أجئت بوصية أبي ؟
حدقت فيها بدهشة كبيرة : وكيف عرفت هذا ؟
انهمرت الدموع من عينيها وهي تجيب : منذعام زارني طيف أبي , وقال أنه ثمة رسول سيأتي برسالة منه , كما أخبرني أنه لم يمت ضعيفاً ولا ذليلاً , لقد كان موته شامخاً كموت كل الجبال الشماء في بلادي , مات ولم ينحن لأي طاغية طوال حياته .
في ذلك الحين عرفت أنه كان على حق حين كان يجالس طيف أبنته , التي رغم صغر سنها لم تكن تقل عنه شموخاً وإباء , أم أنه الوطن الذي يعرش في قلب أحدنا دون أن يترك للبعض منا أن يذل أو يهون ؟؟؟!!!
قدمت الوصية وابتعدت في طريق ضبابي , وأن اأعرف أنه ليس من ينتظرني وليس من يراهن على مقاومتي , ذاك أن علياً قبض عليه بعد أن قتلت عائلته بأكملها تحت القصف ولم يكن قد تزوج بعد .
رغم سنواته الثلاثون شعر بأنه قد شاخ كثيراً , ومضي يحدق بنظرة طفل مغرق في البراءة في عالم بدا متوحشاً وعدائي , إذ لم يكن يريد أن يخربش على الأوراق كما صديقه , كان يريد أن يقضي ما بقي له من أيام بعيداً عن الظلام والدمار .
لكن حجب الغمام التي فاجأته حالت أن يرى الطريق إذ أخبرته أن الأمر صار في حكم المستحيل .
انحنى بجراحه يلملم بقايا الذكريات العابثة هنا وهناك , وقبل أن يغمض عينيه ويمضي نحو البعيد .. البعيد كان عمر ينظر إليه وهو يسأله : ِأشاهدت آية .. لا داعي لان تجيب أعرف أنك قابلتها والدليل بين يديك .
أجل عرف أن الدليل كان بين يديه , حين ضم جراحه وأغفى يبحث عن حلم قديم .. قديم .
أقأكتائب الفتح المبين