أن الهوية لا تحتمل معنى واحداً هو معناها الأرسطي المتكرر والموروث حتى
اليوم”، وإنما تحتمل معنى ثانياً على الأقل يُجافي الأول ويقابل مسلماته.
وإن شئنا الدقة أكثر، قلنا إنه لابد من اصطناع مفهوم جديد لها يفتكها من
قيود النظرة الميتا تاريخية الأرسطية، ويبعث في معناها دلالات جديدة
تاريخية تطابق حركتها في الواقع الموضوعي. وما أغنانا عن التأكيد على أن
اصطناع ذلك المفهوم ليس افتعالاً أو اختلاقاً من عدم، وإنما هو إعادة بناء
معنى الهوية عن طريق الاستعانة بمكتسبات المنطق الجدلي والفكر التاريخي،
واطراح مسلمات المنطق الصوري الارسطاطاليسي، ومبدأ الهوية من أركانه حين
نقول إن هوية شيء ما هي ما يتحدد به ذلك الشيء ويُعرف ويتميز عن غيره من
الأشياء أو الموضوعات أو الأجسام، فليس من مقتضيات هذا التعريف بالضرورة أن
يكون ما يتحدد به الشيء جوهراً ثابتاً لا يتغير. فالأشياء في كينونتها
إنما تخضع للتطور والتحول والتراكم المفضي إلى التجدد المستمر في مكونات
الشخصية. وكل الفلسفات التي انتبهت قبل أرسطو وبعده إلى قانون السيولة الذي
يحكم الظواهر والأشياء، شددت على التغيّر والصيرورة بوصفهما ملازمين لأي
تكوين مادي، منذ المادية الطبيعية الابتدائية “مع طاليس وأفاكسمنهر
وديمقريط” إلى المادية الجدلية الحديثة، إلى المنطق المعاصرليس ثمة، إذن،
جواهر ثابتة لا تتغير، وإنما الثابت الوحيد و”الجوهر” الوحيد هو التغيّر.
هذه واحدة. الثانية تنجم عن الأولى ومقتضاها أن الهوية هوية شيء ما غير
قابلة للإدراك إلا بوصفها حصيلة تراكم متجدد. فما لا يكون في زمن جزءاً من
مكونات الهوية، قد يصبح كذلك في زمن لاحق. وما كان من مكوناتها أو من
محدداتها في زمن، قد يندثر مفعوله فلا يعود في جملة ما تتحدد به هوية
الشيء. أما ثالث الأسس التي يقوم عليها المفهوم الجدلي والتاريخي للهوية،
فهو التدرج وتعدد مستويات التحديد. إن الشيء الواحد المراد تحديده، أي
تعيين هويته، يكشف عن تعدد في شخصيته أو في هويته. بمعنى أنه ينطوي على
أكثر من تعيين وماهية من وجه، وأن ماهيته ليست نهائية وإنما هي تتدرج في
الكينونة والتكوّن. وهذا مما أدركته المقولة الهيجلية عن الأنا المتحدد
بالآخر، إذ مع تعدد وجوه الآخر وتنوعها، تتعدد وجوه الأنا “الهوية” وتتنوع.
يقول محمد عابد الجابري : الهوية اليوم في أشدّ أزماتها، كما يعيشها الذين
يشهرون سيف خصوصياتهم الثقافية والمجتمعية في وجه الآخر والعالم. والأزمة
مزمنة في العالم العربي، وتزداد تعقيدًا واستعصاء. بدليل أنه بعد قرنين من
التعامل مع الغرب بوصفه الخصم أو العدو التاريخي أو الحضاري، أصبح الشقيق
في الوطن والأخ في الدين هو العدو، كما تشهد الحروب الأهلية والفتن
المذهبية في غيرما بلد عربي. وهذه هي المفارقة والفضيحة والكارثة.لا غرابة
في توصيف الجابري إذ أن هذا هذا الإنتكاس في المفهوم قد شمل العالم العربي
من اقصاه الى أقصاه ألمر الذي أدي الى النظر نحو الهوية على أنها مساوقة
للمفهوم العقدي .
إنها حصيلة التعامل مع الذات بعقلية المماهاة والاصطفاء والثبات، مقابل
التعامل مع الآخر بمنطق الضد والإقصاء أو النفي ، أن تصبح الهوية مشكلة
لأصحابها، وأن ترتدّ ضد حماتها والمدافعين عنها. آية ذلك أن الهوية ليست
ذات مكوّن واحد أو وجه وحيد، وإنما هي متعددة البعد، سواء لجهة العلاقة
بالأصل والتراث، أو بالمختلف والآخر، أو بالدولة والوطن، أو بالأحداث
والمتغيرات.
يرى عبد الرحمن طه في توصيف آخر أنه في تعارضات الأنا والآخر، أو الأصالة
والمعاصرة، أو الثبات والتحول، أو المحافظة والتجديد، هذه الثنائيات قد
استهلكت ولم تعد أداةً فاعلة في الفهم والتشخيص والمعالجة، بقدر ما استخدمت
على سبيل التبسيط والاختزال أو الحجب والخداع. فلا مجتمع يثبت على حاله،
وإنما هو في حراك دائم، . ومن لا يحسن أن يتغيّر في مواجهة المتغيرات،
يتراجع وتهمّشه الأحداث. كذلك بالنسبة إلى ثنائية الأصالة والحداثة: لا أحد
ينسلخ عن تراثه أو خصوصيته، وإنما المشكلة هي أن نقرأ التراث قراءة خصبة
وبناءة، أو أن نمارس خصوصيتنا بصورة حية، منتجة، خلاقة، عالمية. في المقابل
لا أحد يخرج من زمنه أو عصره. هذا شأن الحركات الأصولية. فهي ليست خارج
الزمن والتاريخ. بالعكس. إنها تعيش في قلب العالم ووسط المشهد، لكنها تمارس
حداثتها أو معاصرتها بصورة مقلوبة، أو عقيمة أو مدمرة.
هكذا ليست المسألة أن نختار بين رحى ورحى أو بين بعد وبعد، لكي نقع بين
فكّي الكماشة، بل أن نحسن إدارة قضايانا باجتراح المساحات المشتركة واللغة
الجامعة والصيغ المركّبة الفاعلة والتواصلية البناءة .وإذا كانت مشكلة كل
شيء تكمن في مفهومه، فالمعالجة تحتاج إلى كسر المنطق الأحادي وتجاوز
الثنائيات الضدية، للتعامل مع الهوية ببعدها المتعدد وبنيتها المركّبة
وإمكاناتها التواصلية وصيرورتها المتحولة، ولا سيما في هذا العصر، حيث
تتعولم المشكلات وتتشابك المصائر.
ويرى محمود أمين العالم أنه لا يجب النظر للهوية الحديثة من زاوية علاقتها
بالدين ويستطرد:
أؤثر أن لا أعرّف نفسي من خلال هويتي الدينية، وإن كانت بعدًا من ابعاد
شخصيتي بتراثها وتقاليدها ورأسمالها الرمزي. وإنما اعرّف بنفسي من خلال أطر
ثلاثة: أولاً بلدي الذي هو مسقطي ومكان اقامتي وعنوان جنسيتي ومسرح أنشطتي
ومشكلاتي وأحلامي. ثانيًا، مهنتي وعملي ككاتب مشتغل بالفلسفة، فذلك هو
الأساس الذي أثبت به جدارتي واستحقاقي ومشروعيتي، والذي يشكل مصدر فاعليتي
وحضوري في بيئتي وعالمي. ثالثًا، الاطار العربي، لأنني أنطق بالعربية وأكتب
بها. وأنتمي إلى المجموعة العربية، واللغة هي عامل حاسم في مسألة الهوية،
لأنها بيت الكينونة وعنوان الهوية ومبنى الثقافة.
على هذا الأساس، يُعرَّف الاشخاص في زمننا، إذ يقال أديب فرنسي وفيلسوف
ألماني وشاعر انكليزي وروائي نمساوي وممثل اميركي. ويقول أنا هكذا، فأنا
أكتفي بهذه الوجوه الثلاثة، مستبعدًا الدين من مجال التعريف. مسوّغي إلى
ذلك أن الدين بات في مجتمعاتنا، وكما كان دومًا، عامل انقسام ونزاع بين
الطوائف والمذاهب؛ بالإضافة إلى أن النسبة إلى الدين، هي أقرب إلى التهويم
الغيبي، أو هي تفتقر على الأقل إلى الصدقية عند شخص لا يهتم بممارسة الطقوس
والفرائض، في حين أن الاحالة على اللغة والبلد والموطن والدولة والعمل،
إنما تتصل بالوجود المُعاش، بإحداثياته وروابطه ومفرداته، كما تحيل على
عالم الحياة وأمكنة العيش ومساحات التبادل.
ذلك أن الإنسان يُعرَّف اليوم من خلال البلد والجنسية والمهنة والكتلة، لا
من خلال العقيدة والثقافة والفلسفة والمنظومة الايديولوجية. فلا يعرَّف
الهندي بأنه بوذي أو الكوبي بأنه ماركسي أو الاسباني بأنه كاثوليكي، ولا
سيما أن الانقسامات العقائدية والايديولوجية توظَّف لتأجيج الذاكرة وتغذية
العداوات وصنع الفتن والحروب، على ما هي مفاعيل الجرثومة الإصطفائية
للديانات التوحيدية الثلاث التي تقوم العلاقة بين طوائفها ومذاهبها على
النفي والإقصاء أو على التطهير والاستئصال المتبادل، وكما يجري الآن في بعض
البلدان العربية لنا أن نختلف مع العالم أو نتفق في هذا التوصيف فهذا لا
يضيف شيئا الى سياق المفهوم الذي حددناه في بداية المقالة .
.
ومن المفارقات هنا أن الغربيين يغلِّبون إنتماءهم إلى وطنهم وبلدانهم على
الانتماءات الدينية والخصوصيات الثقافية، فيما يعاملوننا، بالعكس، أي على
أساس الانتماء الديني والثقافي. ونحن نحمل المسؤولية عن ذلك، لأننا نصرّ
على تقديم أنفسنا عبر هذه الأطر والمؤسسات والصفات. حتى الفلاسفة عندنا،
عندما يتناولون القضايا ويحدّثوننا عن العقل والعقلانية، فإنما يخلعون
الطابع الديني أو القومي على المعارف .
في كل حال، إن الأبنية الثقافية والأنساق الرمزية والمنظومات العقائدية
التي تصنع الهويات هي سيف ذو حدين: قد تستخدم من أجل المعرفة والدراية
والتدبير أو من أجل التضامن والتبادل، ولكنها تستخدم في الغالب، كآليات
للحجب والطمس أو التهويم والعماية أو الخداع أو الاحتكار والمصادرة.
يقول الجابري في إحدى حواراته : من التبسيط والخداع أن أنفي علاقتي بالدين
كتراث وعادات وتقاليد ساهمت في تكوين ذاكرتي وشخصيتي وصاغت أفق الرؤية لدي .
ولهذا أقول لسائلي عن تديّني، بأن علاقتي بالدين الإسلامي تتحدد في الدرجة
الأولى من خلال النصوص، وخصوصًا من خلال النص القرآني. فهو الحدث والأثر،
في ما يتعدّى تعاليم الرسالة والدعوة أو العقيدة والشريعة وأحكامها. فالنص
هو ما في المتناول بحروفه المقروءة أو كلماته المسموعة أو طبعاته الفاخرة
والمزيّنة. فإما أن أتعامل معه كمتراس عقائدي لإطلاق النار، رمزيًا أو
ماديًا، على المختلف في الداخل وعلى الآخر في الخارج؛ وإما أن أتعامل معه
كنص مفتوح على احتمالاته، غني بإمكاناته، أي كمساحة للتأويل أو كرصيد رمزي
يحدد علاقتي بالمعنى، كما يتجسد ذلك في القيم العامة الجامعة لبني البشر،
والتي على أساسها يتم التعارف والتواصل أو التفاهم والتبادل أو التضامن
والتآزر. من هنا لم تعد تعنيني كثيرًا المناقشات اللاهوتية بهذا الخصوص .
كما يعنيني، كمشتغل في حقل من حقول المعرفة، أن أقرأ النص، قراءة فعّالة
ومنتجة للمعرفة، كما فعل العلماء والمفكرون القدامى، الذين تعاملوا معه
كموضوع لإنتاج المعارف الفقهية أو اللغوية أو الكلامية أو الفلسفية. وقد
ندخل عليه الآن من مداخل جديدة، سواء في ضوء تطور العلوم والأفكار
والمناهج، أو على وقع التحولات والمنعطفات التي انتقلت معها البشرية من
العصور الوسطى، إلى عصور الحداثة وما بعدها.
بحسب منهجي في القراءة، لا أتعامل مع النص، سواء كان تاريخيا أم فلسفيًا،
بوصفه مرآة الحقيقة أو ينطق بالحق أو يقبض على قوانين الواقع والتاريخ، إذ
يشكل النص هو نفسه واقعة لغوية دلالية، معرفية، ادراكية، رمزية، مجازية...
تضاف إلى سجل الوقائع التي تتحدث عنها، بقدر ما تساهم في تغيير الواقع
وإعادة إنتاجه، بصورةٍ من الصوَر، ولو طفيفة أو غير مرئية.
لا شك أن النص، هو، ككل خطاب أو رسالة، إنما يطرح قضايا أحادية المعنى أو
حصرية الدلالة يدافع عنها ويحاول البرهنة عليها أو يسعى إلى تبليغها. لكن
ذلك لا يعني أنه يقبض على الحقيقة. الأحرى القول إنه يملك حقيقته أو يفرض
واقعه، بقدر ما يخفي سلطته أو يحجب تعدده. وهو يحجب بشكلٍ خاص بنيته
المفهومية ذات الكثافة المضاعفة، الزمنية والمكانية، سواء لجهة بداهاته
وذاكرته اللغوية وطبقاته الدلالية، أو لجهة آليات تشكّله ومنطق اشتغاله
ونظام إشاراته أو نسق كتاباته، وذلك هو مصدر غناه وقوته. ومعنى كونه كذلك
أنه يستعصي على القبض بقدر ما هو مفتوح على ازدواج الرواية أو التباس
الدلالة أو اشتباه الآية، الأمر الذي يجعله يقبل تعدد التفاسير واختلاف
التآويل.
على هذا، فالمطلوب كسره ليس فقط احتكار النص من قبل من يقرأه أو يتعامل
معه، كما يقارب المشكلات بعض المشتغلين في الفكر وإنما المطلوب كسره وتبديد
خرائطه وكشف مناهجة وآليات اشتغاله .
قد يقال إن ذلك يفضي إلى تقويض الأساس الذي تُبنى عليه الأنساق التاريخية
التي حملت في باطنها النص ،
هذا ما جعلني انخرطت في سلك الفلاسفة والزنادقة اي في قرائتهم ، ثم بالقول
إنني أوسع إيمانًا من أهل الإيمان، لأنني أقبلهم جميعًا كمؤمنين، مسلمين
سُنّة وشيعة، كلّ على طريقته، فيما هم يكفّرون بعضهم البعض