حــجــــــــــة الـــــوداع ومـا كـان بـها مـن خـطـبـه جـامـعـه
--------------------------------------------------------------------------------
حــجــــــــــة الـــــوداع ومـا كـان بـها مـن خـطـبـه جـامـعـه
تمت أعمال الدعوة ، وإبلاغ الرسالة ، وبناء مجتمع جديد على أساس إثبات الألوهية للّه ، ونفيها عن غيره ، وعلى أساس رسالة محمد [ صلي الله عليه وسلم ] ،
وكأن هاتفاً خفياً انبعث في قلب رسول اللّه [ صلي الله عليه وسلم ] ، يشعره أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية ،
حتى إنه حين بعث معاذ على اليمن سنة 10هـ قال له ـ فيما قال [ صلي الله عليه وسلم ] : ( يا معاذ ، إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا ، ولعلك أن تمر بمسجدي هذا وقبري ) ،
فبكى معاذ خشعاً لفراق رسول اللّه [ صلي الله عليه وسلم ] .
وشاء اللّه أن يرى رسوله [ صلي الله عليه وسلم ] ثمار دعوته ، التي عانى في سبيلها ألواناً من المتاعب بضعاً وعشرين عاماً ،
فيجتمع في أطراف مكة بأفراد قبائل العرب وممثليها ، فيأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه ، ويأخذ منهم الشهادة على أنه أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة ، ونصح الأمة .
أعلن النبي [ صلي الله عليه وسلم ] بقصده لهذه الحجة المبرورة المشهودة ،
فقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول اللّه [ صلي الله عليه وسلم ] .
وفي يوم السبت لخمس بقين من ذي القعدة تهيأ النبي [ صلي الله عليه وسلم ] للرحيل ،
فتَرَجَّل وادَّهَنَ ولبس إزاره ورداءه وقَلَّد بُدْنَه ، وانطلق بعد الظهر ، حتى بلغ ذا الحُلَيْفَة قبل أن يصلي العصر ، فصلاها ركعتين ، وبات هناك حتى أصبح.
فلما أصبح قال [ صلي الله عليه وسلم ] لأصحابه : ( أتاني الليلة آت من ربي فقال : صَلِّ في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة ) .
وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه ، ثم طيبته عائشة بيدها بذَرِيَرة وطيب فيه مِسْك ، في بدنه ورأسه ، حتى كان وبَيِصُ الطيب يرى في مفارقه ولحيته ، ثم استدامه ولم يغسله، ثم لبس إزاره ورداءه ، ثم صلى الظهر ركعتين ، ثم أهل بالحج والعمرة في مُصَلاَّه ، وقَرَن بينهما ، ثم خرج ، فركب القَصْوَاءَ ، فأهَلَّ أيضاً ، ثم أهَلَّ لما استقلت به على البَيْدَاء .
ثم واصل سيره حتى قرب من مكة ، فبات بذي طُوَي ، ثم دخل مكة بعد أن صلي الفجر واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 10هـ ـ وقد قضي في الطريق ثماني ليال ، وهي المسافة الوسطي ـ فلما دخل المسجد الحرام طاف بالبيت، وسعي بين الصفا والمروة ، ولم يَحِلَّ لأنه كان قارناً قد ساق معه الهدي ، فنزل بأعلى مكة عند الحَجُون ، وأقام هناك ، ولم يعد إلى الطواف غير طواف الحج .
وأمر من لم يكن معه هَدْي من أصحابه أن يجعلوا إحرامهم عمرة ، فيطوفوا بالبيت وبين الصفا المروة، ثم يحلوا حلالاً تاماً، فترددوا ، فقال : ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت ، ولولا أن معي الهدي لأحللت)، فحل من لم يكن معه هدي، وسمعوا وأطاعوا.
وفي اليوم الثامن من ذي الحجة ـ وهو يوم التَّرْوِيَة ـ توجه إلى منى ، فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ـ خمس صلوات ـ ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس ، فأجاز حتى أتي عرفة ، فوجد القبة قد ضربت له بَنَمِرَة ، فنزل بها ، حتى إذا زالت الشمس أمر بالقَصْوَاء فرحلت له، فأتي بطن الوادي ، وقد اجتمع حوله مائة ألف وأربعة وعشرون أو أربعة وأربعون ألفاً من الناس ، فقام فيهم خطيباً ،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وألقى هذه الخطبة الجامعة :
أيها الناس ، اسمعوا قولي ، فإني لا أدري لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً .
إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا . ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع ، ودماء الجاهلية موضوعة ، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث ـ وكان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هُذَيْل ـ وربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب ، فإنه موضوع كله .
فاتقوا اللّه في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه ، واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه ، ولكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مُبَرِّح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف .
وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به، كتاب اللّه .
أيها الناس ، إنه لا نبي بعدي ، ولا أمة بعدكم ، ألا فاعبدوا ربكم ، وصلوا خمسكم ، وصوموا شهركم ، وأدوا زكاة أموالكم ، طيبة بها أنفسكم ، وتحجون بيت ربكم ، وأطيعوا ولاة أمركم ، تدخلوا جنة ربكم .
وأنتم تسألون عني ، فما أنتم قائلون ؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت .
فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ، وينكتها إلى الناس : ( اللهم اشهد ) ثلاث مرات .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكان الذي يصرخ في الناس بقول رسول اللّه [ صلي الله عليه وسلم ] ـ وهو بعرفة ـ ربيعة بن أمية ابن خَلَف .
وبعد أن فرغ النبي [ صلي الله عليه وسلم ] من إلقاء الخطبة نزل عليه قوله تعالى :
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3] ،
ولما نزلت بكى عمر ، فقال له النبي [ صلي الله عليه وسلم ] : ( ما يبكيك ؟ )
قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء قط إلا نقص ، فقال : ( صدقت ) .
وبعد الخطبة أذن بلال ثم أقام ، فصلى رسول اللّه [ صلي الله عليه وسلم ] بالناس الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ولم يصل بينهما شيئاً ، ثم ركب حتى أتى الموقف ،
فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصَّخَرَات ، وجعل حَبْل المشاة بين يديه ، واستقبل القبلة ، فلم يزل واقفاً حتى غربت الشمس ، وذهبت الصفرة قليلاً حتى غاب القُرْص .
وأردف أسامة ، ودفع حتى أتى المُزْدَلِفَة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر ، فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المَشْعَرَ الحرام ، فاستقبل القبلة ، فدعاه ، وكبره ، وهلّله ، ووحده ، فلم يزل واقفاً حتى أسْفَر جِدّا .
فَدَفَع ـ من المزدلفة إلى منى ـ قبل أن تطلع الشمس ، وأردف الفضل بن عباس حتى أتي بَطْنَ مُحَسِّرٍ ، فَحَرَّك قليلاً ، ثم سلك الطريق الوسطى التي تخرج على الجمرة الكبرى ، حتى أتى الجمرة التي عند الشجرة ـ وهي الجمرة الكبرى نفسها ، كانت عندها شجرة في ذلك الزمان ، وتسمى بجمرة العَقَبَة وبالجمرة الأولى ـ فرماها بسبع حصيات ، يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخَذْف ، رمى من بطن الوادي ، ثم انصرف إلى المنحر ، فنحر ثلاثاً وستين بدنة بيده ، ثم أعطى علياً فنحر ما غَبَرَ ـ وهي سبع وثلاثون بدنة ، تمام المائة ـ وأشركه في هديه ، ثم أمر من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قِدْر ، فطبخت ، فأكلا من لحمها ، وشربا من مَرَقِها .
ثم ركب رسول اللّه [ صلي الله عليه وسلم ] ، فأفاض إلى البيت ، فصلى بمكة الظهر ، فأتى على بني المطلب يَسْقُون على زمزم ، فقال : ( انزعوا بني عبد المطلب ، فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم ) ، فناولوه دلواً فشرب منه .
وخطب النبي [ صلي الله عليه وسلم ] يوم النحر ـ عاشر ذي الحجة ـ أيضاً حين ارتفع الضحى ، وهو على بغلة شَهْبَاء ، وعلى يعبر عنه ، والناس بين قائم وقاعد ، وأعاد في خطبته هذه بعض ما كان ألقاه أمس ،
فقد روى الشيخان عن أبي بكرة قال : خطبنا النبي يوم النحر ، قال [ صلي الله عليه وسلم ] :
إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً ، منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات ، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مُضَر الذي بين جمادى وشعبان .
وقال : ( أي شهر هذا ؟ ) قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : ( أليس ذا الحجة ؟ ) قلنا : بلى ؟
قال: ( أي بلد هذا ؟ ) قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : ( أليست البلدة ؟ ) قلنا : بلى .
قال: ( فأي يوم هذا ؟ ) قلنا : الله ورسوله أعلم . فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : ( أليس يوم النحر ؟ ) قلنا : بلى.
قال: ( فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ) .
( وستلقون ربكم ، فيسألكم عن أعمالكم ، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض ) .
( ألا هل بلغت ؟ ) قالوا : نعم ، قال : ( اللهم اشهد ، فليبلغ الشاهد الغائب ، فَرُبَّ مُبَلَّغ أوعي من سامع ) .
وفي رواية أنه قال [ صلي الله عليه وسلم ] في تلك الخطبة :
ألا لا يجني جَانٍ إلا على نفسه ، ألا لا يجني جان على ولده ، ولا مولود على والده ، ألا إن الشيطان قد يئس أن يُعْبَد في بلدكم هذا أبداً ، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم ، فسيرضى به .
وأقام أيام التشريق بمنى يؤدي المناسك ويعلم الشرائع ، ويذكر الله ، ويقيم سنن الهدي من ملة إبراهيم ، ويمحو آثار الشرك ومعالمها .
وقد خطب في بعض أيام التشريق أيضاً ، فقد روي أبو داود بإسناد حسن عن سَرَّاءِ بنت نَبْهَانَ قالت : خطبنا [ صلي الله عليه وسلم ] يوم الرؤوس ، فقال : ( أليس هذا أوسط أيام التشريق ) . وكانت خطبته في هذا اليوم مثل خطبته يوم النحر ، ووقعت هذه الخطبة عقب نزول سورة النصر .
وفي يوم النَّفْر الثاني ـ الثالث عشر من ذي الحجة ـ نفر النبي [ صلي الله عليه وسلم ] من منى ، فنزل بخِيف بني كِنَانة من الأبْطَح ، وأقام هناك بقية يومه ذلك ، وليلته ، وصلى هناك الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ثم رقد رقدة ، ثم ركب إلى البيت ، فطاف به طواف الوداع ، وأمر به الناس .
ولما قضى مناسكه حث الركاب إلى المدينة المطهرة ، لا ليأخذ حظاً من الراحة ، بل ليستأنف الكفاح والكدح لله وفي سبيل الله .