التيار العلماني في الجزائر وعداوته للإسلام والعربية
(مادة مرشحة للفوز في مسابقة كاتب الألوكة)
العلمانية مِلَّة واحدة، وحكمها في ميزان الإسلام واحد؛ لما فيها من توجُّه مضاد للدين، رافض لأحكامه وتصوُّراته وهيمنته على الحياة، ولو لم يكُن فيها إلاَّ فصلها للدين عن الحياة لكفى لنرفضها؛ لكن للعلمانية في الجزائر سَمْت فيه شيء من الخصوصيَّة، يستحقُّ منا وقفة، فالديمقراطيون والجمهوريون هما الاسمان اللذان ينعت بهما العلمانيُّون أنفسهم في هذا البلد العربي الإسلامي العزيز على قلوب المؤمنين، الذين يُكبرون في شعبه تضحياته في سبيل الانتصار على الاحتلال الفرنسي، الذي جَثَمَ عليه مدة 132 سنة.
وقد ينخدع بذلك غيرُ العارفين بالسَّاحة الجزائرية؛ ذلك أنَّ هذا التيار يُوهم الرأي العام أنَّه الوصي على "الديمقراطيّة " - إذا سلمنا جدلاً بصلاحيتها لمجتمعاتنا الإسلامية و"الجمهورية" - كأنَّ هناك من يدعو إلى تحويل الجزائر إلى النظام الملكي، والمدافع عنهما ضدَّ "الأصولية الإسلامية" والاستبداد؛ لكن زيفه ظهر بجلاء يوم انقلبَ على نتائج الانتخابات التشريعيَّة التي حقَّق فيها الإسلاميون فوزًا ساحقًا، رغمَ أنَّه هو الذي قنَّن هذه الديمقراطية، وأجرى تلك الانتخابات من غير تفويض من أحد، ويومها أعلن حالة الطوارئ، وأسفر عن وجهه الرافض لكل ما ليس علمانيًّا، وسالت بسبب ذلك أنهارٌ من الدِّماء البريئة في فتنة عمياء، لم تتعافَ منها الجزائر إلى اليوم، فما حقيقة هذا التيار؟
البداية مع الفرع الجزائري للحزب الشيوعي الفرنسي قبل حرب التحرير، الذي ضمَّ نخبة تغريبية يسارية قليلة العدد، ثم تَسمَّى أثناء الثورة باسم الحزب الشيوعي الجزائريِّ، وكان أعضاؤه متشبِّعين بالقيم الفرنسيَّة فكرًا وسلوكًا، ومعروفين بمعاداة الانتماء العربي الإسلامي؛ مِمَّا جعلهم دائمًا وإلى اليوم مقطوعي الصِّلة بالمجتمع، أمَّا بعد الاستقلال فقد أتقنوا التسلُّل إلى مواطن النُّفوذ في الدولة، عبر دفعة لاكوست - باسم الحاكم العام الفرنسي للجزائر، الذي قام بتكوين نخبة متفرنسة لتَتَولَّى تسيير الدولة بعد الاستقلال - وبمباركة من التيار الفرنكوفوني التغريبي صاحب السَّيطرة على كثير من المواقع الإستراتيجيَّة، وقد ازدهر هذا التيار بوساطة حزب الطليعة الاشتراكيَّة أثناء فترة حكم بومدين.
وخاصَّة منذ السبعينيَّات من القرن الميلادي الماضي؛ حيث تخالفَ الطَّرفان من أجل التمكين الفوقي والإجباري للتوجُّه الاشتراكي، فحقَّق العلمانيُّون بفضل ذلك مكاسب ضخمةً مقابلَ تأييد السلطة وعدم التشويش على خططها، ونسيان ما كانوا ينعتون به بومدين من الاستبداد والانحراف الإيديولوجي والسياسي، وتتمثَّل أهم تلك المكاسب في:
- التغلغل في الجامعات والاستحواذ على أنشطة الطلبة فيها، بفضل تضييق الإدارة الشديد على الإسلاميين والمعربين، وتمَّ لهم ذلك؛ لأنَّ وزير القطاع آنذاك كان من كبار إطارات الحزب الشيوعي الجزائري، وقد بَقِيَ على رأس الوزارة حتَّى وفاة بومدين.
- الاستفادة من منح الدِّراسة بالخارج بناءً على الانتماء وليس على الكفاءة، وكان من أدلَّة الولاء العمل في لجان التطوُّع لصالح الثورة الزراعيَّة، الَّتي كانت أداةً لنشر الأفكار اليسارية، وضرب الأخلاق الكريمة، وتجاوز القيم والثوابت التي ينعتونها بالبالية.
- الاستحواذ على أهمِّ المواقع في قطاعي الإعلام والاقتصاد، باعتبارهما حكرًا على المتفرنسين وحْدَهم.
- إلغاء معاهد التعليم الإسلامي نهائيًّا سنة 1975، وعرقلة افتتاح جامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلامية؛ "فقد وضع حجرها الأساسي في نفس اليوم مع جامعة قسطنطينة، فافتتحت هذه الأخيرة بعد عامين، وتأخَّرت الأولى 14 عامًا، وقد كانوا يهمُّون بتحويلها إلى مرفق آخر بدعاوى شتَّى".
- الاستحواذ على النَّشاط النقابي، خاصَّةً في المركبات الصِّناعية، من خلال نقابة العمال الرسمية، التي تسند إليهم رئاستها دون سواهم .
وعندما هبَّت رياحُ التغيير بعد أكتوبر 1988، كان التيَّار العلماني في غاية الانتهازيَّة، فهو الَّذي فقد شيئًا من نفوذه على بعض المستويات خلال الثمانينيَّات، بفضل الصحوة الإسلاميَّة، وتقلَّص ظلُّه كثيرًا، مع انتشار الأفكار الأصيلة، وزوال قبضة بومدين الحديدية، وبداية انهيار الشيوعية العالميَّة قد وجد الفُرصة سانحةً.
فحاول توظيف أحداث أكتوبر - التي كانت ثورة شعبية عفوية على النظام الحاكم - لصالحه، زاعمًا أنَّه محرِّكها ووقودها، فقام بحملة إعلاميَّةٍ قويَّةٍ عبر جرائده شبه الرسميَّةٍ آنذاك، ورفع شعارات الديمقراطيَّة، وأسَّس "لجنة مناهضة التعذيب"، وملأ الدنيا بالحديث عن حقوق الإنسان، ثم ما لبث أنْ تنازعتْ رُموزه، فتفرق أحزابًا وجمعيَّات مُختلفة متناحرة فيما بينها، ومُتوحدة ضِدَّ كل ما هو عربي وإسلامي، وأكَّدَ الجميع أنَّ هدفهم "علمنة" الجزائر، وإلحاقها بالغرب على مستوى الأفكار والسياسة والآليَّات والنظم والقيم.
وتأتي الانتخابات البلديَّة والتشريعيَّة لتصبَّ على العلمانيين حمَّامًا باردًا، وليعرفوا مدى خفة وزنهم في ميزان الشَّعب، وهامشيتهم في المجتمع، فما كان منهم إلاَّ أن جاهروه بالعداء، وتنكَّروا لكلِّ ما يؤمن به ويركن إليه.
ودخلوا منذ يناير 1992م - تاريخ "استقالة" الرئيس الشاذلي بن جديد، وتولِّي الجيش السلطة، ثُمَّ إعلان حالة الطوارئ - عمليَّةً انتقاميَّةً متعدِّدةَ الأشكال ضدَّ الشعب، فهم الذين التفُّوا بجميع فروعهم حول (بوضياف)، وأغْرَوْه باتِّباع سياسة فوقيَّةٍ قمعية تتجاهل توجُّهات الشعب، وتصادم هويَّته، وأعلنوا رفضهم للديمقراطيَّة المبنيَّة على صندوق الانتخاب، وتعدُّد الآراء والأفكار، والتداول على السلطة - وكانوا من قبل مبشِّريها وسدنتها والمقدسين لها - وكانت الظُّروف مناسبةً ليظهروا بصراحة عداءَهم لكلِّ ما له علاقة بالإسلام والعربيَّة، واستغلُّوا نفوذهم القويَّ في وسائل الإعلام؛ ليُمرِّروا خطابهم وخططهم، ويغيبوا الصَّوت الإسلامي، ويكيلوا له من الاتِّهامات الباطلة ما لم يصدر حتَّى عن الغرب نفسه.
وقد سعى هذا التيار أنْ يستدرك في زمن الأزمة السياسية والأمنية ما خسره قبلها، وأن يجذر وجوده في مُختلف أجهزة الدولة بدعم قُوى أجنبية، ولم يتوانَ في الازدراء بدين الأمَّة ولغتها، ولا يُخاطب الرأي العام إلاَّ من الصَّالونات المحصَّنةِ، كما أنَّ رُموزَه في الساحة الأدبيَّة زادوا الطين بلَّةً، حين حصروا إنتاجَهم في مُحاربة ثوابت المجتمع، عبر القصَّة والمسرح والمقالة والتَّصريحات، الَّتي تبثُّها وسائل الإعلام الفرنسيَّة والجرائد المتفرنسة الصادرة بالجزائر، فمن رشيد بوجدرة إلى رشيد ميموني، مرورًا بكاتب ياسين، وآسيا جبَّار، وعائشة لمسين - لا يجد القارئ إلاَّ أدبًا خليعًا، وتهكُّمًا بالمقدَّسات، وجهلاً مطلقًا بعمق المجتمع المتمسِّك بأصالته.
ولهذا يُمكن القول: إنَّ التيارَ العلماني ليس مجرَّد خصم سياسي يخوض معركة الأفكار وغمار الانتخابات، فيتَّفق مع الفرقاء الآخرين على أشياء، ويختلف معهم في أخرى، إنَّما هو جسم غريب عن المجتمع، ويعلم ذلك جيِّدًا؛ لذلك لا يعطي حقَّ الوجود إلاَّ لنفسه، فأقطابه يصرِّحون إلى الآن أنَّهم لن يقبلوا بأنْ يكونَ الإسلامُ هو الموجِّه في البلاد، فضلاً عن أن يكونَ هو الحاكم، كما بذلوا جهودًا خارقة لإزاحة اللغة العربية من مركز الصَّدارة؛ لتصبح أقربَ إلى اللغة الأجنبية، وفسح المجال واسعًا للفرنسية، فأصبحتْ هي اللغة الرسميَّة في الواقع،.
حتَّى غدا أصحابُ اللسان العربي يشعرون أنَّهم مُواطنون من الدرجة الثانية، وقد استغلوا نُفُوذهم في مفاصل الدولة وإلجامهم للصَّوت الإسلامي أن يركبوا الموجة العالمية لمحاربة "الأصولية"، فركزوا تركيزًا شديدًا على أمرين هما:
- التنصير، فساعدوا سرًّا وعلنًا المنصِّرين، وساندوهم سياسيًّا وإعلاميًّا وماديًّا، ونددوا بالمواقف المُناهضة للتنصير واعتبروها اعتداءً على حرية العقيدة، وضمُّوا أصواتَهم إلى المنظمات الدوليَّة المطالبة بفسح المجال لعمل مُختلف الكنائس بالجزائر، بينما شدَّدوا على وجوب التضييق على الدَّعوة الإسلامية، و"تجديد الخطاب الديني"، ونشر قيم "التسامح والأُخُوَّة الإنسانيَّة".
- الانحلال الخلقي، فحاربوا الفضيلة بشتَّى الوسائل، ومنعوا تصوير المرأة بالخمار في الوثائق الرسميَّة - وهو إجراء ما زال ساريًا، رَغْمَ تدخل نُوَّاب البرلمان المتعدد لإلغائه - وشجَّعوا ثقافة التفسُّخ والشذوذ الجنسي، ونشطوا شبكات الدَّعارة والمخدِّرات على نطاق واسع، كل ذلك باسم الحرية طبعًا.
- وركَّزوا إلى جانب هذين الأمرين - بل قبلهما ومنذ زمن بعيد - على عنصر حساس جدًّا في الجزائر: هو النَّزعة البربرية، فقد جعلوا منها معركة حامية الوطيس مع الإسلاميِّين والنظام الحاكم، وسَعَوا إلى تدويلها بزعم انتهاك حقوق الأقلية الأمازيغية في بلاد القبائل، وركبوا هذه الموجة ركوبًا قويًّا، فيه كثير من الاستفزاز، مطالبين بترسيم "الأمازيغية" كلغة رسمية - رغم أنَّها لهجات متعددة غير مكتوبة - والاعتراف بخصوصية منطقة القبائل، ويقصدون بذلك قطع علاقتها بالإسلام واللغة العربية، على أن هذا موضوع مُتشعِّب وخطير يَحتاج إلى مقال مستقل.
لعَلَّ القارئ يكون قد لاحظ أنَّ العلمانيِّين في الجزائر رُبَّما أشد علينا من نظرائهم في المشرق، وإن اتَّفقوا معهم في الغاية؛ لكن "الليبراليين" في مصر والخليج وغيرهما لا يُعادون اللغة العربيَّة على الأقل، في حين أنَّ مَن يسمون أنفسهم "ديمقراطيين"، و"جمهوريين" يُقدِّسون الفرنسيَّة، ويضحون في سبيلها بالشَّعب نفسه.
وفي الختام أقول: إنَّ معركة الإسلاميين مع التيار العلمانيِّ ليست معركة التصفية الجسديَّة - فهذا منهج دمويٌّ لا نؤمن به - وإنَّما هي معركة حضاريَّة على مستوى السياسة والفكر والعمل الدعوي المنهجي البصير الراقي، الذي من شأنه أن يحق الحق، ويبطل الباطل، ويُمحِّض للجزائر انتماءَها العربيَّ الإسلاميَّ الواضحَ، الذي لا يقبل ندًّا ولا ضَرَّة، والذي يكتب الفشل الذريع للمشروع التغريبي المتربص بهذا البلد المجاهد الأصيل.