جلست متكئة على تختها بغطائه الأبيض المطرز، تنفخ برفق على أظافرها الأنيقة، بعدما طمست لونها الزهري الطبيعي باللون الأحمر الفاقع الإصطناعي، كانت ترتدي ذلك القميص الحريري الفاخر الذي اقتنته من أفخم محلات العاصمة، تدندن لحنا فرنسي الرنين، و بين الفينة و الأخرى تردد بعض مقاطعه التي سكنت ذاكرتها، حين كانت صافية كالحرير :
Quand il me prend dans ses bras
Il me parle tout bas
Je vois la vie en rose
ثم أطلقت العنان لصوتها الحاد بضحكة، صفعت بها خد الصمت الذي كان يتلصص على المكان، لتختمها بتلك العبارة التي تأتي بعد فوات الأوان: كم كنت سخيفة
تنهدت بعمق قبل أن تقوم متثاقلة عن ذلك التخت، الذي شهد موتها البطيء يتكرر كل ليلة، إتجهت صوب غرفة الجلوس لتلقي نظرة أخيرة على التحضيرات التي تتوجبها مثل هذه الليلة، مائدة دائرية صغيرة عليها زجاجة خضراء اللون بعنق طويل، و كأسان من الكريستال الفاخر، يتكئان على رجليهما الطويلتين، و صحن به بعض الفستق و آخر به فاكهة الجنة ..... العنب.
كل شيء جاهز، و لم يبق على موعد وصوله سوى ساعة واحدة.
عادت من جديد تردد ذلك اللحن الفرنسي القديم، قبل أن يفاجئها جرس الباب بلحنه المزعج، فرددت في نفسها : أمقت الذين يصلون قبل الموعد، أكثر من مقتي لهؤلاء الذين يصلون متأخرين.
وضعت عينها الزمردية على العين السحرية، فلم يكن هو، بل ذلك الوجه الذي اعتادت على تكشيرته الدائمة في وجهها، إنها جارتها الحاجة زهرة.
كانت الحاجة زهرة تشارف على عقدها السابع، لها هيبة خاصة في العمارة، و منذ شهر فقط تشاجرت معها و هددتها باستدعاء شرطة الآداب إن هي لم تتوان عن تلك اللقاءات المشبوهة برجال غرباء، باتوا يترددون على هذه العمارة المحترمة منذ أن سكنت بها.
يا إلهي !!! لست في مزاج يتحمل لسانك السليط يا امرأة، دعيني و شأني ( رددتها هـند بصوت خافت قبل أن تفتح الباب )
و كم كانت دهشتها، حين رأت الحاجة زهرة تبتسم لها، و لأول مرة ترى بياض أسنانها الإصطناعية، لم تبادلها الإبتسامة و بسرعة سألتها : هل من خدمة يا حاجة ؟
فردت عليها العجوز مترددة : لا أريد أن آخد من وقتك الكثير، فقط هي خدمة صغيرة، بل هي أمنيتي الوحيدة في هذه الدنيا.
تسارعت ضربات قلب هند، بعد أن لامست نوعا من الانكسار داخل هذه المرأة العجوز، و تبادر بذهنها سؤال مبهم الجواب ، ترى ما الخدمة التي تريدها امرأة مثلك من امرأة مثلي ؟
ثم جاء صوت هند متزنا مع القليل من الدهشة : نعم يا حاجة، تفضلي ...
- أظنك تعرفين إبني المهدي ؟
رددت هند في نفسها : و كيف لا أعرفه و هو الذي كلما لمحني بصق في الأرض متمتما بكلام يشبه الطلاسم السحرية.
ثم أعقبت الحاجة : لقد تخرج من الجامعة منذ ستة سنوات، و لحد الآن لم يحصل على وظيفة تمكنه من بدأ حياته كأي شاب عادي، مما انعكس على صحته و على نفسيته كثيرا، حتى أني بت أفقده يوما عن يوم.
تساءلت هند بينها و بين نفسها : و ما دخلي أنا في حظه السيئ ؟
ثم أردفت العجوز : أصبحنا في زمن الرشوة و المحسوبية، فضاع حق إبني الوحيد بين كل هذا، و قد تقدم منذ أسبوعين بطلب توظيف بالقرب من شركة مرموقة، هي أمله الوحيد.
كانت هند تستمع للحاجة زهرة باهتمام كبير، و في نفس الوقت باستغراب أكبر، ما دخلها هي في كل هذا ؟
تحركت شفتاها الزهريتين بتردد : ليكون الله في عونه يا حاجة، و لكن ... ما دخلي أنا ؟
صمتت الحاجة زهرة قليلا و قد بدا عليها بعض الإحراج، و ارتجفت شفتاها المضمحلتين ثم نطقت : لقد علمت يا ابنتي أنّ مدير تلك الشركة من معارفك.
فردت عليها هند باستغراب : من معارفي ! كيف ذلك؟
- لقد أخبرني بعض الجيران أنه يتردد على زيارتك مرتين في الأسبوع تقريبا، لذلك نصحوني بطلب وساطتك عنده لأجل إبني.
قالتها العجوز بصوت خافت مستعطف، عكس قلة الحيلة بيدها، و مما زاد إحراجها أنها منذ أسابيع فقط نعتتها بالساقطة المنحطة، و ها هي الآن تقف على عتبة بابها، متسولة منها بعض المساعدة.
أطرقت هند رأسها، و كأنها تنحني أمام شجاعة تلك المرأة العجوز، التي وضعت نفسها و كرامتها، أمام امرأة قد تنتقم منها بسخرية ساخطة.
رفعت هند رأسها صوب العجوز كاشفة عن ابتسامة عفوية : سأرى ما بوسعي فعله لأجل إبنك يا حاجة.
فردت العجوز بلهفة : حقا يا سيدة هند، هل تعدينني بذلك ؟
فردت هند : أعدك يا حاجة وعد شرف، مع أني لا أملكه، و من حظك أنه سيزورني الليلة.
فأطرقت الحاجة زهرة رأسها مرددة: الله غفور رحيم يا ابنتي، كان يجب عليا أن أطلب لك الهداية من غافر الذنوب، و ليس سبك و نعتك بكلمات منحطة.
بعد أسبوع من ذلك، غادرت هند العمارة إلى مكان آخر، و حياة أخرى، و بعد أسبوع آخر، وصلت رسالة إلى المهدي عليها ختم الشركة المرموقة، كتب فيها :
نظرا لتوفر الشروط المطلوبة بحضرتكم، و كذا مؤهلاتكم التي تحتاجها الشركة، يشرفني أن أطلب منكم الاقتراب من الإدارة،
و ذلك لإمضاء محضر تنصيبكم إبتداءا من يوم غد.
الإمضاء
السيد مدير الشركة
................ أنتهى