الحمال البسيط
هزتني ... كلماته القوية التي تنم عن إيمان راسخ في قلب هذا الرجل البسيط.. كلما سمعت دوي الأذان تذكرت كلماته .. والله الذي لاإله إلا هو لقد لقنني هذا الإنسان درسا لربما كان نذيرا لي ولأمثالي .. يامن تتهاون في أداء فرض الله تعالى في وقته .. تعال معي في رحلتي البسيطة مع هذا الرجل البسيط لتسمع منه كلمات لربما غيرت مجرى حياتك .
لقد عدت من إعارتي في إحدى الدول العربية لأحاول الرجوع إلى عملي الطبيعي في بلدي الذي حلمت بالعودة إليه يوما ما لكي أستقر بعد رحلة الشقاء والعناء .. بما فيها وما عليها .. من أفراحها وأتراحها .. من عجرها وبجرها .. رحلة دامت زمنا يقارب العقدين من الزمن .
لم أجد في عودتي ماكنت أنشده .. وساقني قدري لأن أعمل سائقا لسيارتي النصف نقل كي أوفر لأسرتي حياة كريمة وهم الذين اعتادوا عليها حيث صحبتهم معي في أسفاري .. بل هم جميعا من نتاج رحلتي حيث ولادتهم جميعا كانت هناك .
تركت قريتي الصغيرة القابعة على ضفاف النيل الخالد وتوجهت للمدينة حيث فرص العمل أوفر ولما اخترت لنفسي مكانا لأقف فيه أنتظر طالب لسيارة نصف نقل وإذا ببعض جمرات تقذف من مكان ما - لم أكن قد انتبهت لمصدرها - على سيارتي أحسست أن أحدا ما لا يرغب في بقائي بالمكان تحركت مسرعا خوفا من أن تنال تلك الجمرات زجاج سيارتي - مصدر رزقنا – وجدت بعض الضيق في العيش ولكن سرعان ما أنتبه إلى أن الله هو الرزاق فأفوض أمري إليه .. إلى أن تعرفت على بعض أصحاب الحرف .. أخذوا رقم هاتفي المحمول وتيسر الحال شيئا فشيئا ..
الأسطى رجب الاسترجي .. طلبني في يوم لنقل بعض الأثاث من بيت أحد زبائنه وأتى برجل لم يكن مسنا ولكن قد يكبرني ببضع سنوات أو يساويني وفي غمرة الانشغال بالتحميل والتنزيل والعمل الشاق إذا بنا نسمع دوي أذان الظهر يشق الأسماع فإذا بعم السيد يكف عن العمل ويردد الأذان مع المؤذن ثم يختم بالدعاء ثم يدعوني إلى المسجد وأنا الشيخ الذي يكسو الشيب لحيتي ويتوقع الجميع أن الدعوة يجب أن تكون مني قبل هذا الحمال البسيط .
لمحت في عيون الأسطى رجب وصاحب الأثاث استغرابا عجيبا من الموقف وكلمات لم ينطقها حيث اشتهرت عندنا مقولة تفيد أن العمل عبادة .. حيث الأثاث مبعثر على دركات السلم ومنها ماهو في الشارع وحتى ما على السيارة منها لم يكن في مأمن يجعلنا نتركها جميعا ونتوجه إلى المسجد دون رقيب ... استوقفنا ابن صاحب الأثاث أمينا على السيارة والأثاث حتى نعود من المسجد .
علق الرجل يده في يدي .. نتهادى إلى المسجد وفجأة قال لي : ارأيت نظرات رجب والحاج أحمد ؟؟ هي الدنيا فيها إيه يا حاج ؟؟ من رزقنا هذا الرزق يا حاج ؟؟ من أعطانا الصحة اللي احنا فيها يا حاج ؟؟
ثم قال بصوت جهوري : لابارك الله في رزق يلهي عن الصلاة ..
أي تربية هذه التي ترباها هذا الحمال البسيط ؟؟ في أي مدرسة تربى ؟؟ والله إني لأغبط هذا الرجل وتمنيت لو فزت أنا بتلك الحسنات التي جمعها وأخذ جزاءها .. استصغرت نفسي وأنا المتعلم التعليم العالي .. احتقرت نفسي وأنا الحافظ للحديث ذاته .. ولكن قد اجد لنفسي العذر أحيانا للتأخر عن الجماعة .
أما كان الأجدر بي أن أبادر أنا بتلك المبادرة ؟؟ ولكن ليكن لكل منا موقفا .. وساعتها تذكرت حديثا علمني إياه أستاذي أبو خالد حفظه الله قال :
الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها التقطها .
بارك الله فيك عم سيد وجمعنا وإياك تحت ظل عرشه يوم لاظل إلا ظله فإني قد أحببتك في الله .
سبحان الله الذي أرسلنا من قريتنا لنلتقي بك لتعلمنا هذا الدرس النافع .. سبحان الله الذي جعلني سائقا وأنا صاحب المؤهل العالي والمكانة العلمية حتى يجمعنا بك القدر في مشوار الأسطى رجب لتلقننا هذه المنحة الربانية لتهدي بها أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا .......
سبحانك .. سبحانك .. ولا حول ولا قوة إلا بك .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ...
فكر وحبر / ياسر سنجر