أزمة مثقفين
كنا في قريتنا المترامية الأطراف على شاطئ النيل الخالد تعودنا أن يرسل لنا مجمع قباء الإسلامي خطيبا للجمعة .. اليوم يوم الجمعة اليتيمة وهي الأخيرة من شهر رمضان المبارك وانتظرنا حضور هذا الشيخ المرسل لنا ولكن يبدو أن خللا ما قد حصل وكان الأستاذ حامد صراف مكتب البريد يخطبنا إذا ما وافانا المجمع بخطيبه المعتاد ..
بحثنا عن الأستاذ / حامد .. ولكن لعب القدر دوره هنا في تغيبه عن المسجد في هذا اليوم العصيب .. انتهت تلاوة القرآن من المذياع الذي اعتاد أهل المسجد تشغيله كل جمعة وكلما نصحهم الشيخ بأن هذا ليس من الدين في شيئ ظن رجال كبار سن في المسجد أن الشيخ يأتيهم بدين جديد وهم باقون على عهد أسلافهم ..
المهم .. تمر الدقائق تلو الدقائق ويخرج الصبيان إلى الطريق يتحسسون قدوم الشيخ بلا جدوى .. عرفت أن القرعة ممكن أن تقع علي أنا في اختيار خطيب اليوم حاولت ألملم أفكاري أو أن أختار موضوعا مناسبا ولكن لم تسعفني ثقافتي ولا صفتي كمدرس سابق في أن أجد لنفسي الجرأة على اعتلاء المنبر فقررت الرفض قبل أن يطلب مني هذا الطلب ..
همسات تعالت بين المؤذن وبعض رواد المسجد .. تأخر الشيخ .. تأخر الشيخ .. ونادى عم السيد ( هو الجدع ده اتأخر ليه ؟ ) - وكان ضعيف السمع - فرد عليه أحد الحضور : زمانه جاي ياعم السيد - أظنه لم يسمعها جيدا - فرد قائلا : إنشاالله عنه ماجه .. ماتشوفوا لنا حد تاني .
بدأت عيون المصلين تحوم حول مثقفي المسجد وأنا منهم فأشاروا إلي أن اصعد المنبر .. أشرت إليهم أني لاأستطيع لأني غير مؤهل لذلك .. التفتوا إلى غيري .. فرفض وغيره .. فرفض .. وفجأة أجمعوا على أن يخطب الجمعة الأستاذ / لطفي وهوأخ فاضل يعمل في مخازن وزارة الصحة .. فقبل الأخ على استحياء لعله لم يعتل المنبر من قبل ولكن نزل على رغبة الحضور ..
بدت علامات الوجوم على وجه الشيخ لطفي .. بينما تتهادى خطواته متجها نحو المنبر يتمنى لو أن أحدا تبرع أن يحل محله ثم بدأ يعتلى المنبر درجة درجة وأدار وجهه وقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. ثم أذن المؤذن واستهل خطبته بالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .. ثم سكت .. ثم تلعثم .. فسكت .. ثم تلجلج .. فسكت .. أربع دقائق مرت وكأنها ساعات طوال .
نزل الشيخ درجة من درجات المنبر وقال : أنا مش قلت لكم بلاش ؟ وهو يتصبب عرقا .. بل أنا الذي تصببت عرقا .. أحسست ساعتها أننا في مأزق .. ليته يتراجع وينقذنا من دوامة القيل والقال .. ياويل المثقفين اليوم من رواد المسجد .. وإذا به ينزل درجة أخرى ويقول : ده موقف صعب والله .. ثم نزل . ونزلت معها معنويات هذا الرجل وأصبح في موقف لايحسد عليه .
تعالت صيحات المصلين وسمعت عم السيد يكاد يسب فأسرع المؤذن وأخذ الميكروفون وقال : نصلي الظهر .. وبعد الصلاة أخذت الميكروفون ولكن ماذا أقول؟ . أول ما بدا لي هو رفع معنويات الأخ لطفي الذي بدا باكيا بعد الصلاة وعيون الناس كلها تراقبه .. حمدت الله وصليت وسلمت على رسوله الكريم ثم أثنيت على الرجل لاستجابته لرغبة إخوانه .
ثم اتهمت نفسي أولا وأشركت مثقفي المسجد معي بالتقصير في حق ديننا لأننا لم نتوقع غياب خطيب المسجد يوما .. ولا عملنا حساب هذا المأزق الذي نحن فيه اليوم .. ماذا لو حفظ كل واحد منا خطبة يسد بها هذا العجز في يوم مثل هذا ؟؟ خاصة وأن ملكات الحفظ عندنا عالية الهمة واسألوا بنت عجرم كيف حفظ الكبير والصغير سفاهاتها .. ماذا لو كتب كل واحد منا خطبة ولو منقولة من أحد الكتب وتركها في جيبه لوقت مثل هذا ؟؟ وليس عيبا أن تقرأ خطبة مكتوبة فخطيب أعظم مسجد على وجه الأرض يقرأ خطبته من ورقة معدة سلفا .. عسى الله أن يغفر لي ولكم أيها المثقفون .
فكر وحبر / ياسر سنجر