أصل نشأة الدولة
إذا بحثنا عن الجانب الزمني لها فتحت بصدد دراسة تاريخية. نكون بصدد دولة عند حدوث إنقسام في الجماعة إلى حكام و محكومين، و إذا إنطلقنا من هذا التعريف للدولة فهي ظاهرة قديمة جدا.
للإجابة القانونية عن السؤال : على أي أساس تنقسم الجماعة إلى حكام و محكومين ؟!
هناك عدة نظريات لتقديم جواب عن : "متى نشأت الدولة؟!" و قدمت تفسيرا للتساؤل السابق :
1- النظرية التيوقراطية أو الدينية
مضمون هذه النظرية أن الدولة نظام إلهي السلطة مصدرها الله و هو من يختار الحكام، و أخذت ثلاث أشكال :
التفسير الأول : نظرية الطبيعة الإلهية للحاكم :
الحاكم هو الله بذاته وجدت هذه النظرية تطبيقها في الحضارة الفرعونية.
كل نظرية تعبّر عن مرحلة معينة من تطوّر البشر.
التفسير الثاني : نظرية الحق الإلهي المباشر : التفويض الإلهي :
الحاكم ليس الإله بل هو بشر لكن الله هو الذي يختار الحاكم من بين أفراد البشر، هناك تفسيرين : هناك من يربط هذه النظرية مع ظهور المسيحية أي صراع بين السلطتين الدينية (الكنيسة) و السلطة الزمنية أو السياسية (الحاكم).
التفسير الثالث : نظرية الحق الإلهي غير المباشر :
يبقى مصدر السلطة الله و لكنه لا يسلمها له مباشرة بل أن الله يرتب الحوادث حتى يختار الحاكم، هناك من ربط هذا التفسير مع تطوّر الصراع بين القيصر و الكنيسة.
السلطة ليست للبشر، الحاكم لا يسأل أمام المحكومين بل أمام الله، هذه النظرية تكرس مبدأ الإستبداد و الديكتاتورية.
2- نظرية العقد الإجتماعي : النظريات الديموقراطية
السلطة مصدرها الشعب و حتى تكون مشروعة يجب أن تكون وليدة الإرادة الحرة للجماعة التي تحكمها السلطة نشأت نتيجة لعقد أبرم ما بين الأفراد في داخل المجتمع من أجل إنشاء هيئة تتولى حكم الأفراد.
تبلورت بشكل واضح مع بداية النهضة الأوروبية لما سادت العقلانية كحل للسلطة السياسية، رغم ظهورها في زمن قديم جدا.
التفسير الأول : نظرية العقد الإجتماعي عند توماس هوبز : 1588-1679
حياة الإنسان الفطرية كانت تتسم بالأنانية و الصراعات و رغبة من الإنسان في الخروج من هذه الحياة الصعبة تم الإتفاق على إيجاد شخص أو هيئة حاكمة مهمتها إقرار السلام و العدالة و الأمن داخل المجتمع.
فالحاكم ليس طرفا في العقد و بالتالي سلطة الحاكم سوف تكون مطلقة و لا يحق للأفراد أن يُسائلوه أي أنه ليس مسؤولا أمامهم.
التفسير الثاني : لـ : جون لوك
حياة الفطرة كانت تتسم بنزعة السلام و التعاون و الحرية لكن الأشخاص شعروا بحاجة إلى من يستنبط القواعد الطبيعية و يضعها موضع التنفيذ في المجتمع، فإن الأفراد داخل المجتمع تعاقدوا مع الحاكم فتنازلوا عن جزء من حقوقهم الطبيعية مقابل أن يكفل الحاكم حماية بقية حقوقهم.
الحاكم هنا طرف في العقد يحق للأفراد أن يسائلوه.
التفسير الثالث : جان جوك روسو : 1712-1778
يتفق مع لوك في أن حياة الفطرة كانت تتسم بالحرية و المساواة و السعادة لكن تعقد طبيعة الحياة دفع الأفراد إلى إبرام عقد فيما بينهم (الحاكم لا وجود له أثناء العقد).
مضمون العقد : يتنازل الأفراد عن كل حقوقهم الطبيعية مقابل تمتعهم بالحقوق المدنية، يترتب عن هذا التفسير :
1- الفرد لا يفقد شيئا بمقتضى هذا العقد، ينقل من مجتمع طبيعي إلى مجتمع مدني.
2- كل فرد يلتزم بإحترام المصلحة العامة أو الإرادة العامة.
3- الحكومة أو الهيئة الحاكمة تكون مفوضة من قبل أفراد المجتمع و القانون تعبير عن إرادة الجماعة.
4- حرية الفرد بما لا يتعارض و الإرادة العامة.
النقد :
لهذه النظرية الفضل في القضاء على الأنظمة الإستبدادية لكن :
1- من الناحية الواقعية لم يبرم الأفراد إتفاق فهي خيالية أي نتيجة تصور الفقهاء.
2- غير متصور من الناحية العملية "أكبر أكذوبة ناجحة عرفها التاريخ".
3- فكرة العقد لا تتماشى مع المنطق القانوني، لأنها تفرض أن العقد هو الذي أنشأ السلطة السياسية أما من حيث المنطق القانوني أن وجود السلطة السياسية هو الذي يضمن إلزامية العقود و توقيع الجزاء على مخالفتها.
3- نظرية التطور العائلي
الدولة أصل السلطة، يعود إلى فكرة السلطة الأبوية فأصل الدولة هو الأسرة التي تطورت إلى عشيرة قبيلة مدينة دولة. الفقهاء يقارنون بين سلطة الدولة و سلطة الأب.
النقد :
1- من الصعب المقارنة بين سلطة الأب و السلطة السياسية للدولة.
2- تفترض بأن حياة البشرية بدأت بالأسرة و هذا خطأ، فالأسرة وجدت بعد فترة طويلة من حياة البشرية المرحلة الأولى مرحلة مشاعية لا يوجد نظام الزواج.
4- نظرية القوة
أساس السلطة هو القوة و إن الدولة هي نظام مفروض عن طريق القوة، ففيه يفرض صاحب الغلبة أو القوة نفسه بإستعمال العنف على باقي أفراد الجماعة الذين يمتثلون لإرادته و يخضعون لسلطته.
النقد :
التاريخ عرف أمثلة كثيرة لدول نشأت عن طريق القوة لكن لا يمكن التسليم بهذه النظرية لوحدها لأنه يستحيل على الحكام أن يفوضوا سلطتهم عن طريق القوة وحدها فبدون رضا الجماعة يصعب على الحاكم ممارسة السلطة.
* نظرية عبد الرحمن بن خلدون 1332- 1406
أهم كتبه : "العبر: ديوان المبتدأ و الخبر في عصر العرب و العجم و البربر و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر".
5- النظرية الماركسية : التفسير الطبقي
حسب هذه النظرية :
الدولة ظهرت إلى الوجود حين ظهرت في المجتمع طبقات إقتصادية و إجتماعية متصارعة فيما بينها و الدولة كبناء تنظيمي وجدت لتأكيد سيادة الطبقة التي تملك القوة الإقتصادية على الطبقات الأخرى فتمارس سيطرتها من خلال أجهزة الدولة و أن ذلك أي هذه الهيمنة تكفل الإستقرار و النظام في داخل المجتمع، هيئات الدولة (التشريعية، التنفيذية و القضائية)، تمنح صفة الشرعية للطبقة المهيمنة إقتصاديا لأنه في غياب هيئات الدولة سوف يحدث صراعا مباشرا بين الطبقات و هذا يؤدي إلى تهديد كيان المجتمع و تزعم هذه الدولة بأنها فوق المصالح الطبقية أي أنها تظهر بمظهر الحياد في داخل المجتمع، الدولة جهاز أوجدتها الطبقة المسيطرة.
ميزة هذه النظرية أنها لا تفسر أصل السلطة و الدولة فحسب بل مآل هذه الدولة.
الدولة تمر بمرحلة وصول الطبقة العمالية إلى السلطة فتحقق في المرحلة الأولى المجتمع الإشتراكي و فيه يتم تحويل الملكية الخاصة إلى ملكية عامة و يطبق مبدأ التخطيط و من حيث توزيع الدخل يتم وفقا لمبدأ (من كل حسب طاقته و لكل حسب عمله)، و بعد زوال الطبقات من داخل المجتمع فإن هذا الأخير يصبح في غير حاجة إلى الدولة و بالتالي و بالتالي فإنها تزول و يتحقق المجتمع الشيوعي و فيه يطبق مبدأ (من كل حسب عمله و لكل حسب حاجته).
النقد : إذا كانت هذه النظرية الأقرب تفسيرا من الناحية العملية لنشأة الدولة فإنه يصعب قصر نشأة على العامل الإقتصادي فقط، لأن هناك عوامل أخرى أخرى ساهمت في وجود الدولة مثل العوامل الثقافية، و الإجتماعية و الدينية.
6- نظرية التطور التاريخي
يرفض أصحاب هذه النظرية إرجاع أصل الدولة إلى عامل واحد من العوامل المذكورة سابقا، فحسب رأيهم الدولة نشأت كظاهرة إجتماعية نتيجة لمجموعة من العوامل المتفاعلة فيما بينها و قد إتخذت هذه الدولة خلال مراحل تطورها أشكالا متعددة حسب طبيعة العوامل الإجتماعية، التاريخية، و الإقتصادية التي تفاعلت معها.
و في الأخير يمكن القول بأن هذه النظرية هي الأقرب إلى التفسير المقبول لنشأة الدولة.