عندما دفعت أمريكا "الجزية"!!
أحمد تمام
(في ذكرى توقيع هذه المعاهدة: 21 من صفر 1210 هـ)
جورج واشنطن
وقع جورج واشنطون أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية معاهدة صلح مع بكلر حسن والي الجزائر في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي،بمقتضاها تدفع إلى الجزائر على الفور 642 ألف دولار ذهبي، و1200 ليرة عثمانية، وذلك مقابل أن تطلق الجزائر سراح الأسرى الأمريكيين الموجودين لديها، وألا تتعرض لأي سفينة أمريكية تبحر في البحر المتوسط أو في المحيط الأطلسي.
فما ملابسات هذا الحادث؟ وما سر قوة البحرية الجزائرية؟ وهل كان الحادث امتدادا لمفهوم الجهاد أم تعداه لغير ذلك؟
مجاهدون لا قراصنة
تعرضت سواحل الشمال الأفريقي في تونس والجزائر والمغرب لغزو مسلح من قبل أسبانيا والبرتغال بعد أن سقطت دولة الإسلام في الأندلس في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وهو الأمر الذي جعل أهالي الجزائر يستغيثون بالدولة العثمانية الفتية، ويطلبون عونها، فاستجابت لندائهم وضمت الجزائر لسلطانها وحمايتها، وبعثت بقوة من سلاح المدفعية، وألفين من الجنود الإنكشارية، وأذن السلطان سليم الأول لمن يشاء من رعاياه المسلمين بالسفر إلى الجزائر، والانخراط في صفوف المجاهدين تحت قيادة خير الدين بارباروسا الذي نجح في إنشاء هيكل دولة قوية، بفضل المساعدات التي تلقاها من الدولة العثمانية، واستطاع أن يوجه ضربات قوية للسواحل الأسبانية، وأن يجعل من الجزائر قاعدة بحرية.
خير الدين بارباروسا
وظلت الجزائر بعد وفاة خير الدين باربروسا سنة (953هـ= 1546م) القاعدة الأولى لقوات الجهاد البحري الإسلامي في المغرب العربي، والقاعدة الأمامية لقوات الدولة العثمانية في الحوض الغربي للبحر المتوسط، ومنطلق جهادها ضد القوى الاستعمارية المسيحية في ذلك الوقت.
وكان الأسطول الإسلامي قد وصل إلى درجة عالية من القوة والتنظيم جعلته مرهوب الجانب مخشي البأس، واشتهر من قادة هذا الأسطول عدد من قادة البحرية تمكنوا من "إرهاب" الدول الاستعمارية، وتحرير المناطق الإسلامية الواقعة تحت الاحتلال في الساحل الشمالي الأفريقي، من أمثال: درجوت، وسنان، وصالح ريس.
وكانت السفن الإسلامية تباشر عمليات الجهاد ضد السفن المسيحية التي دأبت على التعرض للسفن الإسلامية في حوض البحر المتوسط ومصادرة حمولاتها وأسر ركابها، وكانت مراكب المسلمين التي يطلق عليها "مراكب الجهاد" تخرج من موانيها للدفاع عن السفن الإسلامية، ولم تخرج للقرصنة كما يزعم المؤرخون الغربيون، وإنما كانت تقوم بالدفاع عن الإسلام والعروبة ضد الخطر الأوربي الذي كان يتزايد يوما بعد يوم يريد التهام الشمال الأفريقي المسلم، وكانت كل من أسبانيا والبرتغال تريد الاستيلاء على المغرب العربي، وتحويل سكانه من الإسلام إلى المسيحية وطمس عروبته.
الجزائر دولة بحرية
وقد قامت البحرية الجزائرية بدورها على خير وجه، فهاجمت السواحل الشرقية لأسبانيا دون أن تجد من يقاومها، وكانت تعود في كل مرة بالأسرى والغنائم، كما هاجمت سواحل سردينيا وصقلية ونابولي، وهددت الصلات البحرية بين ممتلكات الإمبراطورية الأسبانية وممتلكاتها في إيطاليا، وكان رجال البحرية الجزائرية يهاجمون سفن الأعداء، ويأسرون بحارتها، ويستولون على السلع والبضائع التي تحملها.
وفشل الأوربيون في إيقاف عمل المجاهدين، وعجزت سفنهم الضخمة عن متابعة سفن المجاهدين الخفيفة وشل حركتها. وقد ساعد على نجاح المجاهدين مهارتهم العالية، وشجاعتهم الفائقة، وانضباطهم الدقيق، والتزامهم بتنفيذ المهام الموكلة إليهم.
وصار لرجال البحر الجزائريين مكانة مرموقة في مدينة الجزائر التي كان يعمها الفرح عند عودتهم، فكان التجار يشترون الرقيق والسلع التي يعودون بها، وكان نصيب البحارة من الغنائم كثيرا وهو ما أغرى الكثير بدخول البحرية والانتظام ضمن صفوفها، حتى إن عددا كبيرا من الأسرى المسيحيين كانوا يعلنون إسلامهم وينخرطون في سلك البحرية، وكان يطلق على هؤلاء اسم "العلوج".
من الجهاد.. للتجارة
ومع مرور الوقت اعتمدت الجزائر على أعمال هؤلاء وما يقومون به من مهاجمة السفن الأوربية والاستيلاء على بضائعها، وبعد أن كانت أعمال البحرية الجزائرية تتسم بطابع جهادي صارت تتسم بطابع تجاري، وبعد أن كانت تهدف إلى الحد من تغلغل الأوربيين في المغرب العربي وتحطيم شوكة أساطيلهم لتبقى عاجزة عن غزو البلاد، صارت تلك الأعمال حرفة لطلب الرزق.
وقد عادت هذه الأعمال بالغنى الوافر على البلاد نتيجة للغنائم التي يحصلون عليها، بالإضافة إلى الرسوم التي كانت تفرضها الحكومة الجزائرية على معظم الدول الأوربية نظير عدم تعرضها لهجمات هؤلاء البحارة.
فقد كانت بريطانيا تدفع سنويا 600 جنية للخزانة الجزائرية.
وتقدم الدانمارك مهمات حربية وآلات قيمتها 4 آلاف ريال شنكو كل عام مصحوبة بالهدايا النفيسة.
أما هولندا فكانت تدفع 600 جنيه، ومملكة صقلية 4 آلاف ريال.
ومملكة سردينيا 6 آلاف جنيه.
والولايات المتحدة الأمريكية تقدم آلات ومهمات حربية قيمتها 4 آلاف ريال و10 آلاف ريال أخرى نقدا مصحوبة بهدايا قيمة.
وتبعث فرنسا بهدايا ثمينة عند تغيير قناصلها، وتقدم البرتغال هدايا من أحسن الأصناف.
وتورد السويد والنرويج كل سنة آلات وذخائر بحرية بمبالغ كبيرة، وتدفع مدينتا هانوفر وبرن بألمانيا 600 جنيه إنجليزي، وتقدم أسبانيا أنفس الهدايا سنويا.
كانت كل هذه الأموال تمد الخزينة الجزائرية بموارد سنوية هائلة طوال ثلاثة قرون، فضلا عن الضرائب التي فرضتها الحكومة على الأسرى والأسلاب والغنائم التي كانت تتقاضاها من رؤساء البحر لدى عودتهم من غاراتهم على السواحل الأوربية.
وأدى وجود عدد كبير من أسرى الفرنجة، وخاصة ممن كانوا ينتمون منهم للأسر الغنية إلى قيام تجارة مربحة، فقد كان هؤلاء الأسرى يباعون ويشترون في أسواق محددة، وكان من يملكونهم يفاوضونهم في فدائهم أو يفاوضون من ينوبون عن أسرهم في ذلك، وفي بعض الأحيان كانوا يفاوضون الجمعيات الدينية التي كانت تتولى القيام بتقديم الفدية بالإنابة عن أهليهم مثل جمعية الثالوثيين واللازاريين، والمرتزقة.
أمريكا تدفع الجزية
وفي أواخر القرن الثامن عشر الميلادي بدأت السفن الأمريكية بعد أن استقلت أمريكا استقلالها عن إنجلترا سنة (1190هـ= 1776م) ترفع أعلامها لأول مرة سنة (1197هـ=1783م)، وتجوب البحار والمحيطات.وقد تعرض البحارة الجزائريون لسفن الولايات المتحدة، فاستولوا على إحدى سفنها في مياه قادش، وذلك في (رمضان 1199هـ= يوليو 1785م)، ثم ما لبثوا أن استولوا على إحدى عشرة سفينة أخرى تخص الولايات المتحدة الأمريكية وساقوها إلى السواحل الجزائرية.
ولما كانت الولايات المتحدة عاجزة عن استرداد سفنها بالقوة العسكرية، وكانت تحتاج إلى سنوات طويلة لبناء أسطول بحري يستطيع أن يواجه الأسطول العثماني اضطرت إلى الصلح وتوقيع معاهدة مع الجزائر في (21 من صفر 1210هـ= 5 من سبتمبر 1795م)، وقد تضمنت هذه المعاهدة 22 مادة مكتوبة باللغة التركية، وهذه الوثيقة هي المعاهدة الوحيدة التي كتبت بلغة غير الإنجليزية ووقعت عليها الولايات المتحدة الأمريكية خلال تاريخها الذي يتجاوز قرنين من الزمان، وفي الوقت نفسه هي المعاهدة الوحيدة التي تعهدت فيها الولايات المتحدة بدفع ضريبة سنوية لدولة أجنبية، وبمقتضاها استردت الولايات المتحدة أسراها، وضمنت عدم تعرض البحارة الجزائريين لسفنها.
وعلى الرغم من ذلك فإن السفن العثمانية التابعة لإيالة (ولاية) طرابلس بدأت في التعرض للسفن الأمريكية التي تدخل البحر المتوسط، وترتب على ذلك أن أرسلت الولايات المتحدة أسطولا حربيا إلى ميناء طرابلس في (1218هـ=1803م)، وأخذ يتبادل نيران المدفعية مع السفن الطرابلسية.
وأثناء القتال جنحت سفينة الحرب الأمريكية "فيلادلفيا" إلى المياه الضحلة، لعدم درايتها بهذه المنطقة وضخامة حجمها حيث كانت تعد أكبر سفينة في ذلك التاريخ، ونجح البحارة المسلمون في أسر أفراد طاقمها المكون من 300 بحار.
وطلب والي ليبيا قرة مانلي يوسف باشا من الولايات المتحدة غرامات مالية تقدر بثلاثة ملايين دولار ذهبا، وضريبة سنوية قدرها 20 ألف دولار سنويا، وطالب في نفس الوقت محمد حمودة باشا والي تونس الولايات المتحدة بعشرة آلاف دولار سنويا.
وظلت الولايات المتحدة تدفع هذه الضريبة حماية لسفنها حتى سنة (1227هـ= 1812م)، حيث سدد القنصل الأمريكي في الجزائر 62 ألف دولار ذهبا، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي تسدد فيها الضريبة السنوية
هل تصدقون أن أمريكا تدفع لأول مرة في حياتها وتاريخها كله الضريبة السنوية للدولة الإسلامية، وهل تصدقون أن أمريكا توقع لأول مرة في تاريخها وثيقة بلغة غير لغتها، اقرأوا ما يلي:
بدأت أعلام سفن الولايات الأمريكية التي نالت استقلالها من إنجلترا في 1776م ترفرف في البحار اعتباراً من 1783م ولو أنها كانت متواضعة بالنسبة لأوربا، وفي 25/7/1785م استولى المجاهدون المسلمون التابعون لولاية الجزائر التي تخضع للحكم الإسلامي العثماني على سفينة تخص الولايات الأمريكية في مياه قادش وهي سفينة القائد (Isaak Stevenes) المسماة ماريا (Maria) التابعة لميناء بوسطن، ثم لقي القائد (O`Brien` I Dauphin`i) التابع لفلادلفيا بعد مدة قصيرة نفس العاقبة، فقد جلب إلى ولاية الجزائر.
وفي شهري أكتوبر ونوفمبر من العام 1793م استولى المجاهدون المسلمون على 11 سفينة تخص الولايات الأمريكية، فأعطى المؤتمر الأمريكي للرئيس الأمريكي جورج واشنطن صلاحية صرف مبلغ 688.888 دولارا ذهبا لإنشاء سفن متينة يمكنها صد هجمات المسلمين الأتراك وكان ذلك في 27/3/1794م، وتعهد البنسلفاني (Joshua Humphrey) بإنشاء هذه السفن، وبفضل المجاهدين الأتراك (كما يذكر المؤرخون) وضع حجر الأساس لتأسيس قوة بحرية وصناعة سفن للولايات المتحدة.
كان إنشاء أسطول أمريكي يمكنه مطاولة ولاية الجزائر يحتاج إلى وقت طويل، لذا اتصلت واشنطن بولاية الجزائر وطلبت الهدنة وبموجب معاهدة 21 صفر الخير 1210هـ الموافق 5/9/1795م المكونة من 22 مادة باللغة التركية وقعت أمريكا على ما يلي:
تدفع الولايات الأمريكية إلى ولاية الجزائر التابعة لدولة الخلافة العثمانية فورا مبلغ 642 ألف دولارا ذهبيا وتدفع لها سنويا مبلغ 12 ألف ليرة عثمانية ذهبية، وفي مقابل ذلك يطلق سراح الأسرى الأمريكيين الموجودين في الجزائر ولا تتعرض ولاية الجزائر لأية سفينة أمريكية لا في الأطلسي ولا في البحر الأبيض.
وقع وصدق على المعاهدة جورج واشنطن بنفسه، وبكلر بك حسن باشا من طرق الدولة العثمانية.
وهذه هي المعاهدة الوحيدة التي وقعتها أمريكا طوال تاريخ حياتها بغير لغتها، وفي نفس الوقت هي المعاهدة الوحيدة التي وافقت فيها أمريكا وتعهدت خلال تاريخها كله بدفع ضريبة (تسمى سنوية) لدولة أجنبية.
منقول