فأول أسباب هلاك الأمم كثرة الفساد في الأرض ، وكثرة الخبث ، قال تعالى :
( ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )
[ سورة الروم : الآية 41 ]
سبب آخر من أسباب هلاك الأمم الكفر بنعم الله عز وجل ، وعدم القيام بواجب شكرها ، قال تعالى
وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع و الخوف بما كانوا يصنعون)
[ سورة النحل : الآية 112 ]
وقد ورد في الأثر القدسي : " إني والإنس والجن في نبأ عظيم ، أخلق ويُعبد غيري ، وأرزق ويُشكر سواي ، خيري إلى العباد نازل ، وشرهم إلي صاعد ، أتحبب إليهم بنعمي ، وأنا الغني عنهم ، ويتبغضون إلي بالمعاصي ، وهم أفقر شيء إلي ، من أقبل علي منهم تلقيته من بعيد ، ومن أعرض عني منهم ناديته من قريب ، أهل ذكري أهل محبتي ، أهل شكري أهل زيادتي ، أهل معصيتي ، لا أقنطهم من رحمتي ، إن تابوا فأنا حبيبهم ، وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ، أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من الذنوب والمعايب " .
سبب ثالث من أسباب هلاك الأمم من خلال القرآن والسُّنة : ظهور النقص ، والتطفيف في الكيل والميزان ، ومنع حق الله ، وحق عباده ، ونقض العهود والمواثيق ، والإعراض عن أحكام الله تعالى ، هذه كلها مجتمعة في حديث شريف يبين المرحلة التي وصلنا إليها .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ : أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : (( يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ ، خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ ، لَمْ تَظْهَرْ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمْ الَّذِينَ مَضَوْا ، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنْ السَّمَاءِ ، وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا ، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ )) .
[ ابن ماجه ]
وكأن النبي صلى الله عليه وسلم معنا يرى تقصير الأمة الإسلامية .
ومن أسباب هلاك الأمم : التنافس في الدنيا ، والرغبة فيها ، والمغالبة عليها .
عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيَّ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .....قال : (( فَوَ اللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا ، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ )) .
[البخاري ، مسلم ، الترمذي ، ابن ماجه ، أحمد]
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( اتَّقُوا الظُّلْمَ ، فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ ، فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ ، وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ )) .
[رواه الإمام مسلم ]
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( إِيَّاكُمْ وَالشُّحَّ، فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، أَمَرَهُمْ بِالظُّلْمِ فَظَلَمُوا ، وَأَمَرَهُمْ بِالْقَطِيعَةِ فَقَطَعُوا ، وَأَمَرَهُمْ بِالْفُجُورِ فَفَجَرُوا ....)) .
[ البخاري ، مسلم ، الترمذي ، النسائي ، أبو داود ، أحمد ، الدارمي]
ومن أسباب هلاك الأمم : التعامل بالربا ، وانتشار الزنا ، فإن هذا مما يخرب البلاد، ويهلك العباد ، ويوجب سخط الرب عز وجل .
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ....َقَالَ : (( مَا ظَهَرَ فِي قَوْمٍ الرِّبَا وَالزِّنَا إِلَّا أَحَلُّوا بِأَنْفُسِهِمْ عِقَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ )) .
[ البخاري ، مسلم ، الترمذي ، النسائي ، أبو داود ، ابن ماجه ، أحمد ، الدارمي]
وانتشار الزنا سبب لظهور أمراض لم تكن في الأمم السابقة ، لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا ، عدد المصابين بمرض الإيدز في العالم يتجاوز أربعين مليونًا .
أيها الأخوة الكرام في دنيا العروبة والإسلام : ومن أسباب هلاك الأمم : تقصير الدعاة في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتقصير الأمراء في إزالة المنكرات .
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ وَأَكْثَرُ مِمَّنْ يَعْمَلُهُ لَمْ يُغَيِّرُوهُ إِلَّا عَمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ )) .
[رواه أبو داود]
وعن النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((مَثَلُ الْمُدْهِنِ فِي حُدُودِ اللَّهِ وَالْوَاقِعِ فِيهَا مَثَلُ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا سَفِينَةً ، فَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَسْفَلِهَا ، وَصَارَ بَعْضُهُمْ فِي أَعْلَاهَا ، فَكَانَ الَّذِي فِي أَسْفَلِهَا يَمُرُّونَ بِالْمَاءِ عَلَى الَّذِينَ فِي أَعْلَاهَا فَتَأَذَّوْا بِهِ ، فَأَخَذَ فَأْسًا فَجَعَلَ يَنْقُرُ أَسْفَلَ السَّفِينَةِ ، فَأَتَوْهُ ، فَقَالُوا : مَا لَكَ ؟ قَالَ : تَأَذَّيْتُمْ بِي ، وَلَا بُدَّ لِي مِنْ الْمَاءِ ، فَإِنْ أَخَذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَنْجَوْهُ وَنَجَّوْا أَنْفُسَهُمْ ، وَإِنْ تَرَكُوهُ أَهْلَكُوهُ وَأَهْلَكُوا أَنْفُسَهُمْ )) .
[ البخاري ، الترمذي ، أحمد ]
والتعبير الحديث : نحن جميعاً في قارب واحد .
قال الإمام الغزالي : الأمر بالمعروف والنهي عم المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو الذي بعث الله له النبيين أجمعين ، ولو طوي بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة ، واضمحلت الديانة ، وعمَّت الفترة ، وفشت الضلالة ، وشاعت الجهالة ، واستشرى الفساد ، وخربت البلاد ، وهلك العباد ، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد ، وقد كان الذي خفنا أن يكون ، فإن لله وإنا إليه راجعون .
ومن أسباب هلاك الأمم : ترك الجهاد ، والإخلاد إلى الأرض .
عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : (( إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ ، وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ، وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ ، وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ )) .
[ أبو داود ، أحمد ]
الأخذ بأذناب البقر ، والرضا بالزرع علامة على الإخلاد إلى الأرض ، والانغماس في الملذات ، وترك الجهاد هو سبب الذل والهوان .
أيها الأخوة الكرام ، حضوراً ومستمعين : ومن أسباب هلاك الأمم : مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ،
أي ما دامت سنة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة في حياتهم ، في علاقاتهم ، في كسب أموالهم ، وفي إنفاقها في تجارتهم ، في بيعهم في شرائهم ، في علاقاتهم ، في أفراحهم، في أتراحهم ، في حلِّهم ، في سفرهم ، ما دام منهج النبي مطبقاً في حياتهم فهم في مأمن من عذاب الله ، وفي مأمن آخر :
وفي حديث طويل عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( .... وَجُعِلَ الذِّلَّةُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي ، وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ )) .
[ أحمد]
ومن أسباب هلاك الأمم : الغلو في الدين ، والغلو هو التنطع ، ومجاوزة الحد ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( هَلَكَ الْمُتَنَطِّعُونَ قَالَهَا ثَلَاثًا )) .
[ مسلم ، أبو داود ، أحمد ]
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( ..... إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ )) .