الشروق تكشف ألغاز فضيحة اختفاء العجينة الورقية بالميناء
تفاصيل أكبر سرقة لأوراق طبع 1500 مليار من العملة الوطنية
2011.03.26
عبد النور بوخمخم Boukhamkham_a@yahoo.com/
37 لفة كبيرة قيمة كل واحدة منها 35 مليار سنتيم مازالت مفقودة
وزير المالية: محافظ بنك الجزائر لم يخبرني بالحادثة في وثتها
بعد أربع سنوات ونصف على ما وصفتها أجهزة الأمن الأوروبية بأكبر عملية خلال العقدين الماضيين، لسرقة الورق الائتماني الخاص بطبع العملات الوطنية، لا زالت كثير من أسرار اللغز المحيّر تحيط بظروف سرقة أكثر من 7 كيلومترات من الورق الخاص بطبع العملة الجزائرية من فئة ألف دينار.. "
الشروق" عادت لتحقق في الحادثة الغريبة التي وقعت نهاية العام 2006 بميناء مارسيليا الفرنسي، لكشف معطيات جديدة وموثوقة تعيد قلب كثير مما كان يعتقد أنه حقائق وتوزيع المسؤوليات القانونية والأخلاقية فيما حدث.
الخيوط الأولى للحادثة بدأت في صباح 30 نوفمبر 2006، عندما وصل إلى مرسيليا سائق قيل إنه ألماني يقود شاحنة ضخمة تحمل فوق ظهرها 44 لفة من الورق الائتماني الأبيض، الموجه حصريا لطباعة أوراق نقدية من فئة 1000 دينار، بطول 7 كيلومتر وقيمة إجمالية تصل إلى 1500 مليار سنتيم، الحمولة طلبها بنك الجزائر من ممونه القديم بالورق الائتماني، العملاق الألماني "لويزنتال"، الذي يملك وحده التركيبة السرية لعجينة الورق الموجه لطباعة العملة الجزائرية، وكان يفترض أن يقوم وكيل العبور الفرنسي "ساغا ترانز" بتسوية إجراءات جمركة وتفريغ وإعادة شحن الحمولة الثمينة على ظهر إحدى سفن الشركة الجزائرية للنقل البحري.
"خطأ ساذج وغير مسؤول" لبنك الجزائر يُضيّع حق الجزائر أمام القضاء
لكن في حدود الساعة الثامنة صباحا تقدم ثلاثة أشخاص مسلحين مكشوفي الوجوه، واستولوا على الحمولة كاملة ليحوّلوها إلى مكان مجهول، دون أن يتركوا أثرا لهم ما عدا السيارات التي استخدمت في العملية وجدت محترقة ساعات قليلة بعد الحادثة غير بعيد من مكانها.
أما محققو ديوان مكافحة تزوير العملة التابع للشرطة الفرنسية فقالوا إن تدخلاتهم في أوساط شبكات تزوير العملة التقليدية المعروفة لديهم، لم تصل إلى شيئ يمكنهم من تحديد منفذي العملية واسترجاع طلبية بنك الجزائر المسروقة.
بقي لغز الحادثة الغريبة دون تفسير قرابة العامين، إلى غاية 28 سبتمبر 2008 ، في ذلك التاريخ حجزت شرطة الحدود الفرنسية في مطار "مارينيان" أكثر من 5 مليارات سنتيم من العملة الجزائرية خلال تفتيش روتيني لحقائب شقيقين تونسيين كنا يهمان بنقلها على رحلة جوية عادية من مارسيليا إلى تونس، قبل إدخالها إلى الجزائر عبر الحدود البرية، وأثبتت الخبرة التقنية أن هذا الورق الإئتماني الذي طبعت عليها المبالغ المحجوزة مصدره نفس الورق الذي جرى السطو عليه في مارسيليا.
المحققون يتساءلون: لماذا لا يرسل بنك الجزائر طائرة خاصة لنقل ورق العملة ويفضل نقلها برا
بعد أقل من ثلاثة أشهر في 21 جانفي 2009، خلال عملية نفذتها الشرطة الفرنسية في مستودع سري تابع لأحد فروع مافيا "لا كامورا" في مدينة نابولي، تفاجأ عناصر الشرطة عندما وجدوا بداخل المحل ثلاث لفات من ورق طبع العملة الجزائرية يجري طبعها، تبين مرة أخرى أن مصدرها هو نفس طلبية بنك الجزائر من ممونه الألماني "لويزنتال".
اتصالات حثيثة أجراها الإيطاليون مع الفرنسيين طالبين تعاونهم سمحت بعد عدة أشهر من التحقيقات وخاصة التنصت على اتصالات بعض رموز المافيا بتوقيف عناصر أخرى متورطة في مارسيليا، وتحديد مكان سري آخر في مدينة "ليون" الفرنسية، حيث كان يجري طبع أرواق الألف دينار، وجدت مكدسة في أكياس كبيرة جاهزة للتحميل، حيث استطاع المزوّرن مستعينين بمهندس معلومات مختص من تجاوز العقبة التقنية الوحيدة التي كانت تحول دون تزوير العملة، وهو طبع الرقم التسلسلي للأوراق النقدية.
كما حجز المحققون داخل مطبعة "ليون" أربع لفات أخرى من الورق الائتماني المسروق، تصل القيمة المالية لكل لفة منها إلى 35 مليار سنتيم، وجرى القبض على 14 متهما من بينهم أصحاب المطبعة، قدموا للمحاكمة في دعوى تأسست فيها الحكومة الجزائرية ممثلة ببنك الجزائر طرفا مدنيا في القضية، ويضاف عددهم إلى 22 متهما آخرا اعتقلوا وقدموا للمحاكمة في نفس القضية المماثلة في "نابولي" الإيطالية.
الحمولة سُرقت داخل المنطقة الجمركية بميناء مارسيليا
التحقيقات التي أجرتها "الشروق" سمحت بالوصول إلى معطيات جديدة تلقي الضوء على نقاط ظل عديدة ظلت تشكل لغزا يلف الحادثة، معتمدة على شهادات دقيقة من جهات قانونية مطلعة بشكل مباشر ومستمر على القضية، وتسمح هذه المعطيات بإعادة توزيع وتحديد جزء هام من المسؤولية، ضد مسؤولي بنك الجزائر وعدة جهات فرنسية، وتظهر أن بعض المعطيات التي قدمها الإعلام الفرنسي، بداية الأمر، ليست دقيقة، بل تفتح مجالا كبيرا للشك في أنها معلومات ربما كانت تريد التضليل وإبعاد الشبهة عن منفذي العملية الحقيقيين.
فالشاحنة لحظة الاستيلاء عليها كانت داخل المنطقة الجمركية في ميناء مارسيليا، وهي منطقة تخضع لإجراءات مراقبة وتفتيش مشددة يصبح معها من الصعب جدا تنفيذ عملية سرقة بهذا الحجم لحمولة استراتيجية مثل ورق طباعة العملة، دون وجود تواطؤ كبير من المسؤولين على المراقبة داخل الحيز الجمركي والميناء، وما يمكن أن يعزز هذه الفرضية أكثر هو أن العصابة التي سرقت لم تكن مشكلة بحسب ما أدلى به سائق الشاحنة سوى من ثلاثة أفراد مكشوفي الوجوه، لم يبذلوا مجهودا أكثر من أنهم "طلبوا منه قيادة الشاحنة خارج الميناء، مع تهديده بالسلاح، فامتثل لأمرهم" قبل أن يتركوه على قارعة الطريق ويكملوا مشوارهم بكل اطمئنان.
وكانوا حريصين فيما يبدو على عدم استعمال القوة والعنف ولا إثارة انتباه المارة، لذلك لم يوقفوا الشاحنة في طريقها الطويل من الحدود الألمانية الفرنسية إلى مارسيليا، وفضلوا الانتظار إلى غاية توقف الشاحنة ودخولها الميناء والمنطقة الجمركية، المعلومة الأخرى الملفتة هي ما ذكره الإعلام الفرنسي من أن سائق الشاحنة ألماني، والحقيقة أنه ربما يكون يحمل الجنسية الألمانية لكنه تونسي الأصل، كما تبين من مراجعة ظروف إخراج الشاحنة خارج الميناء أن حمولة هامة وبالغة الحساسية بهذا الحجم لم تكن تحت الحماية الأمنية الخاصة التي تفرضها خصوصيتها، أو على الأقل لم تكن تحت الحماية الخاصة لحظة اختطافها.
مسؤول بنك الجزائر: شركاؤنا لم يخبرونا بشيئ
ويفتح ذلك الباب على سؤال أكبر يطرحه مصدرنا "لماذا لا يرسل بنك الجزائر طائرة خاصة لنقل ورق طباعة العملة مباشرة من مستودعات ممونه الألماني؟، ولماذا يفضل نقلها برا على مسافة مئات الكيلومترات إلى مارسيليا ثم بحرا إلى الجزائر، وهذا الإجراء يفترض أن يكون أكثر إلحاحا عندما تكون طلبية ضخمة كتلك التي جرى سرقتها، وهنا يؤكد متعامل قديم في النقل التجاري الجوي للشروق أن مصاريف نقل الحمولة الورقية المذكورة عبر رحلة جوية خاصة لا تزيد عن 10 آلاف أورو، وهو رقم لا يذكر تماما أمام قيمة ورق طبع العملة الذي يأتي في كل طلبية.
غير أن المفارقة الكبرى ليست هنا، بل نجدها في التصريحات الخطيرة التي أدلى بها مسؤولو بنك الجزائر خلال التحقيقات التي جرت حول الحادثة، حيث قالوا إن "لويزنتال" الألمانية كانت تخبرهم دوريا عن طريق مراسلة مكتوبة بحجم الحمولة وشروط نقلها وتاريخ انطلاقها، ليتمكنوا من اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستلامها في ميناء مارسيليا، كما يخبرهم أيضا وكيل العبور الفرنسي "ساغا ترانز" بتاريخ وصول الطلبية وتحميلها في ميناء مارسيليا على ظهر سفينة تابعة لشركة النقل البحري الجزائرية، وقال مسؤولو بنك الجزائر إنهم في هذه المرة لم يستلموا أية معلومات، سواء كانت شفوية أو مكتوبة، تخص حجم الطلبية ولا تاريخ وصولها، لا من المتعامل الألماني ولا من وكيل العبور الفرنسي، ويطرح ذلك علامة استفسار كبرى.
إلى هنا تبدو المسألة أكبر من مجرد حادث سرقة عادي، ويكشف تواطؤ جهات عدة في القضية، فلماذا أخفى الشركاء الألمان والفرنسيين عن بنك الجزائر أمر الحمولة؟ وكيف يمكن لحمولة كتلك أن تخرج من مستودعات "لويزنتال" دون معرفتها إن كانت القضية خارجة عن إرادتهم؟.
وزير المالية خارج التغطية
عندما نتوقف عند هذه النقطة يظهر بنك الجزائر ومسؤولوه خارج دائرة المسؤولية تماما، بما أنهم لم يكونوا تماما على اطلاع بشأن الطلبية القادمة، على حد قولهم، غير أن عناصر أخرى مؤكدة في القضية، تحصلت عليها "الشروق"، تعود لتدخلهم تحت مسؤولية التقصير الخطير في معالجة الحادثة واتخاذ الإجراءات الإدارية والقانونية اللازمة للوصول إلى الحقيقة وحماية الاقتصاد الوطني من تداعياتها، أولى المفاجآت تأتي من وزير المالية كريم جودي الذي يؤكد أن أيا من مسؤولي بنك الجزائر لم يخبره بأي شيء عن الحادثة إلا بعد سنتين على وقوعها، عن طريق محافظ بنك الجزائر الذي كلم وزير المالية في الموضوع بعد أن ظهرت أولى التقارير الإعلامية تتحدث عن اكتشاف المطبعة التي كانت تتولى تزوير العملة الوطنية باستعمال الورق الائتماني المسروق، والقبض على عدة متهمين فرنسيين وإيطاليين في القضية. وهو أمر غريب على اعتبار أن الأمر يتعلق بأكبر عملية تزوير للعملة الوطنية في تاريخ البلاد تتعدى أضرارها على الاقتصاد الوطني القيمة الفعلية للعملة المسروقة، وتصل إلى حد هز الثقة في العملة الوطنية، والدفع بها لتهوي في سوق الصرف مقابل العملة الصعبة، كما أن إطلاع وزير المالية هو الطريق الطبيعي لكي تتولى الحكومة عبر مختلف أجهزتها الأمنية والجمركية والمالية أمر تشديد الرقابة على دخول العملة المزورة إلى البلاد وتداولها في الوكالات البنكية، وهو ما لم يتم إلا كرد فعل على التقارير الإعلامية التي جاءت متأخرة بثلاث سنوات كاملة.
بنك الجزائر يفرّط بخطأ "غير مسؤول" في حقوقه القانونية
أما على المستوى المتابعة القانونية للقضية على مستوى المحاكم الفرنسية التي بدأت محاكمة الموقوفين في مارسيليا وليون، فقد أعلن بنك الجزائر أنه قرر أن يتأسس طرفا مدنيا باسم الحكومة الجزائرية، ويطالب بتعويضات في حق المتهمين، وكذلك قال إنه سيفعل أمام القضاء الفرنسي في قضية الخلية الأخرى التي اكتشفت تقوم بطبع العملة الوطنية في إحدى المحلات السرية في مدينة "نابولي" تابعة للمافيا، وبلغ عدد المتهمين فيها 22 متهما، على رأسهم طبعا المتهم الرئيسي في القضية وهو من ضبط متلبسا يقوم بطبع العملة ومعه ثلاث لفات كاملة تزيد قيمتها عن 100 مليار سنتيم.
مصادرنا تؤكد أن أخطاء مسؤولي بنك الجزائر بلغت حدا لا يتصور من عدم المسؤولية، حيث تخلف هؤلاء عند إرسال توكيلات قانونية للمحامين الذين وكلوهم ليتأسسوا كطرف مدني في جلسة المحاكمة التي جرت لنصف المتهمين الإيطاليين أمام محكمة نابولي، ومن بينهم المتهم الرئيسي الذي يمثل الحلقة الرئيسية في خلية نابولي، حيث خلت جلسة محاكمته تماما من دفاع الطرف الجزائري لأنه لم يستلم أي توكيل من بنك الجزائر.
أكثر من هذا عندما أرسل مسؤولو بنك الجزائر، تحت إلحاح محاميهم، توكيلات شخصية تخص كل متهم لوحده من بين المتهمين المتبقين الذين تخلفت محاكمتهم، حملت كل التوكيلات المرسلة نفس الاسم مكرر لأحد المتهمين، وهو ما يعني غياب أدنى شروط الصرامة والانضباط في المتابعة القانونية للقضية على مستوى المحاكم، من طرف مسؤولي بنك الجزائر، وبطبيعة الحال كانت تلك التوكيلات لاغية خلال إرسالها الأول.
1300 مليار لا زالت متبخرة في أوروبا
الآن وبعد أربع سنوات ونصف كاملة على الحادثة الأكبر من نوعها في أوروبا كلها خلال السنوات العشر الأخيرة، لم يتجاوز عدد لفات ورق طبع العملة الجزائرية المسروقة التي جرى استرجاعها سبع لفات، وبقيت 37 لفة كاملة مجهولة الوجهة، بين الحين والآخر بدأت مصالح الأمن تعلن أنها وضعت يدها على أشخاص يهمون أو قاموا فعلا بإدخال عملة مزورة من فئة الألف دينار إلى الجزائر عبر مختلف النقاط الحدودية، خاصة مع تونس.
التحقيقات مع المقبوض عليهم تؤكد أنهم لا يعرفون شيئا عن هوية الجهة الأولى التي نفذت عملية السرقة في ميناء مارسيليا، وأنهم مجرد "تجار تجزئة" للعملة المزورة، حصلوا عليها من عدة وسطاء، والأمر أصبح أكثر من مقلق، خاصة بعد أن بدأت أجهزة كشف خاصة استوردها بنك الجزائر قبل أسابيع قليلة من اكتشاف كميات أخرى كبيرة من العملة المزورة ضخت فعلا في جسم الاقتصاد الموازي والقانوني على حد سواء، ويتم تداولها في العمليات التجارية وحتى في الوكالات البنكية دون أن ينتبه أحد إلى حقيقتها.
وهو ما يجعل السؤال الجوهري مشروعا: ألم تكن عملية سرقة تلك الحمولة الكبيرة من الورق الخاص بطبع العملة الجزائرية، مجرد حادثة تخفي وراءها مخططا ما من جهات أجنبية لضرب الاقتصاد الوطني بهز الثقة في عملته؟، هذا ما يشرحه مصدرنا، مشيرا إلى معطيات أخرى ستنكشف مستقبلا.