مقدمة: إذا كانت العدالة الاجتماعية معناها أن يأخذ كل ذي حق حقه، فعلى أي أساس يتم تحديد الحقوق و توزيعها ؟
يرى ستينار أن الحقوق نوزع على أساس القوة السؤال هل يمكن فعلا أن تكون القوة معيارا لقياس الحق ؟
لكن القوة التي نعني بها العنف مقياس غير ثابت و غير أخلاقي، كيف يمكن للقوة كوسيلة غير أخلاقية أن تساهم في إقامة العدالة و توزيع الحقوق ؟
العرض:منذ أن فكر الإنسان في العيش مع غيره من الأفراد و بناء مجتمع و هو يدرك أن المجتمع لا يستقيم بدون قانون يحدد حقوق وواجبات كل واحد، غير أن الإنسان واجه مشكلة توزيع الحقوق و كان عليه أن يحدد المقياس الذي يقيس به الشيء لكي يعرف هل هو حق أم لا ؟
يعبر ماكس ستينار في قوله ” إن الحق ما نستطيع أن نحصل عليه بالقوة و تكون القوة معيارا لقياسه، فما نستطيع أن نتحصل عليه بالقوة هو حق لنا و ما لا نستطيع ليس حقا، إن الناس متفاوتون في القوة العضلية و الفكرية فمنهم القوي و منهم الضعيف و من حق الأقوياء أخذ الحقوق ما دامت الطبيعة ميزتهم عن الضعفاء و هو المنطق الذي يعمل به الإنسان الذي يحب السيطرة و تسيطر عليه غريزة الحب و الملكية فإذا شعر بقوته أراد أن يستولي على كل شيء، واعتبره حقا له ما دام هو القوي، موقف دعمه الكثيرون من الفلاسفة مثل كهوبز الذي يرى أن السيد يمارس سلطته المطلقة بالقوة و هو القوى الذي من حقه أن يأخذ كل الحقوق و إذا حدث أن تغلب عليه أحد الرعية أصبح هو الحاكم القوي الذي يحق له الاستيلاء على كل الحقوق، أما كارل ماركس فيرى أن الأقوياء استولوا على الأراضي و سنوا القوانين التي تحمي ممتلكاتهم و أنفسهم هذا الحق الذي أقيم على القوة عند ماركس ليس عدلا، ولكن القوة تبقى عنده وسيلة لبناء العدالة في الحكم الاشتراكي، فطبقة البروليتاريا لن تستطيع أن تنتزع حقها من الطبقة البرجوازية التي أخذها بالقوة، إلا بالقوة، وتكون بذلك دولة البروليتاريا دكتاتورية توزع الحقوق على العمال كل حسب حاجته و تقيم بذلك العدالة الاجتماعية هدفها الذي قامت من أجله، ويرى هيجل من جهته أن الأمة التي تصل إلى الفكرة المطلقة الخالية من كل السلبيات تكون الأمة القوية التي تمتلك جميع الحقوق حتى حق السيطرة و الهيمنة على العالم.
يدعو نيتزيش إلى إرادة القوة مقابل خذلان الضعفاء فمجد القوة و جعلها أساس لتوزيع الحقوق و تطبيق العدالة الاجتماعية إذا كان الله خلق الضعفاء و الأقوياء أليس لكي يحكم الأقوياء الضعفاء ؟ فيتمتعون بحقوق ليس من حق الضعفاء المطالبة بها ؟
منطقي جدا أن لا نسوى بين الأقوياء و الضعفاء، فالأقوياء (القوة العضلية و الفكرية) سلالة نقية خلقت من أجل أن تسود العالم و إذا استمعنا إلى داروين صاحب نظرية التطور، فيرى أن الطبيعة نفسها تقوم على مبدأ القوة ففي الصراع من أجل البقاء، الطبيعة تنتخب الأقوياء و يكون بذلك للقوى حق البقاء على حساب الضعيف الذي يجب أن يموت لا أحد يستطيع أن ينكر أن الحقوق توزع حسب القوة بين الأفراد، على الأقل هذا ما يؤكده تاريخ البشرية و كل دعوة إلى غير ذلك يبقى كلاما فلسفيا بعيدا عن الواقع.
إذا لاحظنا جيدا هذه الحجج التي تقيم الحق نجدها لا تخلو من تناقضات كثيرة، فما هو أخلاقي لا بد أن يبنى على أساس أخلاقي كما أن الغاية الأخلاقية يجب أن تحقق بوسيلة أخلاقية و الحق كغاية أخلاقية لا يمكن أن يبنى على القوة الوسيلة اللاأخلاقية.
إن القوة تعني العنف و السيطرة و الاستغلال و كلها مفاهيم لا أخلاقية و الأساس اللاأخلاقية لا يعطي سوى نتيجة لا أخلاقية كذلك قياس الحق بالقوة معيار غير ثابت يفقد الحق معناه الحقيقي فكيف لي أن أعرف ما هو حقي، وما ليس حقي اليوم لأنني قوي، لن يكون حقي غدا لما أصبح فقيرا ؟ كما أن الضعفاء في المجتمع الذي يقيم الحق على القوة لن يكون لهم أي حق، الأمر الذي لا يقبله العقل و لا المنطق و لا الأخلاق نتساءل بم يشعر الضعيف في المجتمع الذي يقيس الحق على القوة و يقيم العدالة على أساسها ؟
إذا كانت العدالة قيمة أخلاقية غايتها تحقيق الاستقرار فان العالة التي تريد أصحاب القوة بناءها لا تعرف معنى الاستقرار و القوى الذي يستولي على الحقوق لا ينام قرير العين و إنما ينام و هو خائف من بطش الضعفاء. إن الحق عند كانط كقاعدة أخلاقية سابقة لكل تجربة، أساسه العقل الذي يتعرف عليه بصورة قبلية و يتنزه من كل قوة مادية، انه ثابت لا يتغير، فما هو حق الإنسان اليوم لا بد أن يبقى دائما حقه، مهما تغيرت حالته المادية و الاجتماعية و ما هو حق لشخص لا بد أن يكون حقا لكل الأشخاص مما يضفي على الحق صبغة الكلية و العالمية التي يريدها كانط، حق الإنسان لأنه إنسان و ليس لأنه قوي.
إن الحق بالمعنى الحقيقي لا يحتاج إلى قوة مادية لكي يقوم عليها فما لا يستطيع الإنسان أن يطالب به إلا إذا كان قويا فهو ليس حقه، لأن للحق قوة معنوية تغنيه عن كل قوة مادية كما يقول لايبنز، الحق يكسب صاحبه قوة معنوية و أخلاقية لا نجدها عند صاحب القوة، لنعود بذلك إلى ماكس ستينار و نقول له ليس الذي يملك القوة يملك الحق و إنما بالعكس من يملك الحق يملك القوة.
غير أن هذه القوة المعنوية التي يملكها صاحب الحق قد لا تصمد كثيرا أمام القوة المادية التي قد تمارس ضده فإذا ترك الحق وحده دون أن نسنده إلى قوة مادية تحميه، يجعله يبدوا ناقصا لوجود الأشرار كما يقول باسكال فتكون قوة في خدمة القانون الذي يوزع الحقوق حسب الكفاءة التي تحددها قدرات الشخص و مجهوداته، وليس القانون في خدمة القوة.
الخاتمة:و هكذا نستنتج أن قيام الحق على القوة يفقده معناه الروحي و الأخلاقي و إن كان الحق يحتاج أحيانا إلى القوة لكي تحميه، القوة ليست مقياسا لتوزيع الحقوق و إنما وسيلة لحمايتها.