.
"وطن من زجاج" لماذا؟ ألأنه الجزائر؟ ألأن الصراع فيه ما زال دائرًا؟ أم لأنه امرأة من زجاج وطنا ودولة، تبحث عمن يدافع عنها وطنا حبا عشقا من طرف واحد؟ وطن الإرهابيين والعسكريين المتصارعين وكل يحب على طريقته وكل يغني على ليلاه... من شدة هذا الحب يختنق.. وكل طرف يشده إلى ناحية.. فيتمزق... من يقتل من؟ وطن فيه اختلط الحابل بالنابل، والنبيل بالخسيس، والصالح بالطالح... من يقتل من؟ وطن يتآكل ما بين الطهر والنجاسة وما بين الشتات الجماعي والاختفاء الجماعي والموت الجماعي، وطن يذبح من الوريد إلى الوريد... يحدثنا احد الضباط الذين أعفوا من الخدمة اثر انهيار عصبي انه كان يضطر إلى وضع الرؤوس مصفوفة في شاحنة عسكرية وتوضع الجثث في شاحنة أخرى لتنقل كلها إلى المستشفيات حيث يقوم الأطباء المختصون بخياطة الرؤوس إلى الجثث.. اكتشفنا أن الخطأ صار فادحا حيث تمت إضافة رأس امرأة إلى جثة رجل. رجل لم يعثر احد على رأسه بينما المرأة لم يعثر احد على جثتها.. لم يأت احد للمطالبة بكليهما. جثة شخصين مختلفين لم يتم التعرف على رأس المرأة ولا على جثة الرجل! من يقتل من؟ آآآآآه يا وطن! (الرواية وطن من زجاج من منشورات الاختلاف والدار العربية للعلوم ط1 1427 هـ 2006 م ص 78-79 لياسمينة صالح الجزائرية الحاصلة على جائزة مالك حداد 2001- على روايتها " بحر الصمت").
ياسمينة صالح هنا في هذه الرواية مثل أحلام مستغانمي في ثلاثيتها ذاكرة الجسد وفوضى الحواس وعابر سرير.. بطلها رجل وتكتب بلغة المذكر إلا أن نكهتها تختلف.. هي ذات شخصية مستقلة أيضا، تنسيك انك أمام كاتبة أنثى تجرفك بقسوة اللبؤة التي تدافع عن أشبالها.. ياسمينة روائية جزائرية تدغدغ العقل في وطن من زجاج فقد العقل، ثم تهزك هزا عنيفا. تحرك فيك شغاف القلب وتحاصرك من كل جانب.
لا تهمّني هنا- في هذه العجالة- أحداث الرواية، على الرغم من حبكتها المتينة. الروائية ياسمينة تهديها "إلى الوطن الذي نحبه برغم كل شيء ونعيش فيه رغم كل شيء". وهذه الكاتبة دائمة البحث عنه وفيه أيضا.. عن وطن لا يسكنه القتلة ولا يسرقه الطواغيت، عن وطن لا يعبث فيه اللصوص، عن وطن متحرر من الكذب والنفاق، عن وطن طبيعي يبدأ بالمهد ولا يبدأ باللحد. وطن يأخذه واجبه ويأخذ ما له ويعطي استحقاقاته وما عليه. وطن لا يكون فيه الشهداء خرافة ولا تكون سنّة الثورة كذبة كبيرة. وطن هو الأعشاب التي نمشي عليها والعصافير التي توقظنا في الصباح والمطر الذي يباغتنا من عبر موعد والتحايا البسيطة التي لا نستوعب قيمتها إلا متأخرين (ص 11) وطن لا يأكل أبناءه بعد الاستقلال ولا يسرقه اللصوص والقتلة ولا يمشي حافيا.
وطن لا تختلط فيه الأمور والمفاهيم بين مجاهد وخائن أو عميل. وطن ذو ذاكرة غير معطوبة.. وطن نحبه ولا يمكن أن نكرهه بسبب كرهنا للرجال الذين يتنازعون عليه.. مهما كان الحزن عميقا والوجع كبيرا... وطن يبكي فيه الرجال كما تبكي فيه النساء دون خوف أو وجل، وطن تحب فيه النساء كما يحب الرجال. وطن تذوب فيه الفوارق الطبقية أو تتقلص حتى الحد الأدنى، وطن لا يرى فيه الرافضون سوق البطالة. وطن لا تكون فيه الجامعات اكبر مصدر للبطالة.. وطن يتم فيه وضع حد لجشع الأغنياء وانزلاق الفقراء نخو الهاوية، ووضع حد لاستغلال العسكر للسلطة وحد لاستغلال الدين من اجل الدنيا، فلا يحكم أمير الجماعة على الناس بالشبهات ولا يتقمص مهنة عزرائيل. وطن لا تكون فيه الوساطة أهم من الشهادة ولا تكون فيه الرصاصة أهم من الكلمة. وطن يحترم أبناؤه عقائد بعضهم البعض فلا يعدم المثقفون ولا الصحافيون ولا الأبرياء الذين لا شبق لهم ولا عبق. وطن يكون فيه الصحافي شرطيا اجتماعيا، والمثقف رائدا ونذيرا، والمعلم مربيا.. وليس حمالا في الميناء.
لكي تكون قيمة الإنسان في دفاعه عن قيمة وطنه هكذا يتحد الإنسان مع هذا الوطن فقيمة الإنسان في وطنه وقيمة الوطن في إنسانه.. وان أي خلل في هذه الجدلية سوف يؤدي إلى جنون، أكثر من ثلاثين مليون جزائري مشروع جنون واختلال عقلي أو عصبي وأكثر من مليون غادروا الوطن خوفا- وطن المليون شهيد في الحقبة الاستعمارية- وما يقارب ذلك بعد الاستقلال، وهل أبالغ؟ لا! فالطاغوت عند البعض هو اي كاتب وأي صحافي وأي مثقف وأي طبيب وأي محام وأي شرطي أو أي عسكري... من يقتل من؟ من يجزر من؟ في مثل مجزرة بن طلحة ومجزرة البليدة خيطت الرؤوس مع غير أجسادها.. والشهداء يراقبون المشهد.. ووطن من زجاج يتكسر ويصرخ عاليا بحلق مذبوح.. إلى أين وختام؟
ياسمينة صالح تصرح في هذه الرواية كما صرخ الذين من قبلها الطاهر وطّار ومالك حداد وواسيني الأعرج وأحلام مستغاني والطاهر بن جلّون وغيرهم، وغيرهم مما لا تتسع هذه العجالة لذكرهم. فماذا بعد أن طالت الاغتيالات ليس الصحافيين وحسب إنما سعاة البريد وحمالي الميناء والناس البسطاء؟ ماذا بعد يا وطن المليون شهيد و يا قبر الـ15 مليون فقير؟ فهل الجوع والغربة والاغتراب والخوف والمجزرة والموت ستبقى أسماء لهذا الوطن؟ وهل ستبقى مداخيل النفط والغاز الطبيعي تذهب إلى جيوب اللصوص والمرتزقة؟ وهل سيبقى الصراع بين أمير الجماعة الإرهابي والطاغوت حتى آخر جزائري؟ أو حتى آخر صحافي مستقل سواء كان كاتبا مصورا أو فراشا مشروع شهيد من جهة ومسوّقًا للعنف وملفّقًا للمجازر لهز صورة الدولة من الجهة الأخرى؟ هل نتبنى ما تقوله الكاتبة "إن الأوطان التي تقتل أبناءها لا تستحق أن تعيش!"؟ (ص 112) وعلى الرغم من كل هذا فبطل ياسمينة كان "من الذين لا يهاجرون إلى الخارج بل يهاجرون إلى الداخل... فحين نفقد الوطن نفقد قدرتنا على تجاوزه بالسفر". (ص 128) .
.