لقد جاء رسولنا صلى الله عليه وسلم إلى الناس بالدعوة الربانية ، ولم يكن له دعاية من دنيا ، فلم يُلقَ إليه كنزٌ ، وما كانت له جنة يأكل منها ، ولم يسكن قصراً ، فأقبل المحبُّون يبايعون على شظفٍ من العيش ، وذروةٍ من المشقة ، يوم كانوا قليلاً مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس من حولهم ، ومع ذلك أحبه أتباعه كل الحب .
حُوصروا في الشعب ، وضيف عليهم في الرزق ، وابتلوا في السمعة ، وحُوربوا من القرابة ، وأُذو من الناس ، ومع هذا أحبوه كل الحب . سُحب بعضهم على الرمضاء ، وحُبس آخرون في العراء ، ومنهم من تفنّن الكفار في تعذيبه ، وتأنقوا في النكال به ، ومع هذا أحبُّه كل الحب . سُلبوا أوطانهم ودورهم وأهليهم وأموالهم ، طُردوا من مراتع صباهم ، وملاعب شبابهم ومغاني أهلهم ، ومع هذا أحبوه كل الحب .
ابتلي المؤمنون بسبب دعوته ، وزُلزلوا زلزالاً شديداً ، وبلغت منهم القلوب الحناجر وظنوا بالله الظنونا ، ومع هذا أحبوه كل الحب . عُرِّض صفوة شبابهم للسيوف المصلتة ، فكانت على رؤوسهم كأغصان الشجرة الوارفة .
وكأنّ ظلَّ السيفِ ظلُّ حديقةٍ ::~:: خضراءَ تُنبتُ حولنا الأزهارا
وقُدِّم رجالهم للمعركة فكانوا يأتون الموت كأنهم في نزهة ، أ, في ليلة عيد ؛ لأنهم أحبوه كل الحب ..! ولكن لماذا أحبوه وسعدوا برسالته ، واطمأنوا لمنهجه ، واستبشروا بقدومه ، ونسوا كل ألمٍ وكل مشقة وجهد ، ومعاناة من أجل اتباعه ؟!
إنهم رأوا فيه كل معاني الخير والفرح ، وكل علامات البر والحق ، لقد كان آية للسائلين في معالي الأمور ، لقد أبرد غليل قلوبهم بحنانه ، وأثلج صدورهم بحديثه ، وأفعم أرواحهم برسالته . لقد سكب في قلوبهم الرضا ، فما حسبوا للآلام في سبيل دعوته حساباً ، وأفاض على نفوسهم من اليقين ما أنساهم كل جُرح وكدر وتنغيص .
صقل ضمائرهم بهداه ، وأنار بصائرهم بسناه ، ألقى عن كواهلهم آصار الجاهلية ، وحطّ عن ظهورهم أوزار الوثنية ، وخلع من رقابهم تبعات الشرك والضلال ، وأطفأ من أرواحهم نار الحقد والعداوة ، وصبّ على المشاعر ماء اليقين ، فهدأت نفوسهم ، وسكنت أبدانهم ، واطمأنت قلوبهم ، وبردت أعصابهم . وجدوا لذة العيش معه ، والأنس في قربه ، والرضا في رحابه ، والأمن في اتباعه ، والنجاة في امتثال أمره ، والغني في الاقتداء به .
{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ 107 } سورة الأنبياء ، { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ 52 } سورة الشورى ، { وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } سورة المائدة ، { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ 2 } سورة الجمعة ، { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ... 157 } سورة الأعراف ، { اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ... 24 } سورة الأنفال ، { وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ... 103 } سورة آل عمران .
لقد كانوا سعداء حقاً مع أمامهم وقدوتهم ، وحُقّ لهم أن يسعدوا ويبتهجوا !