أحيت الأسرة الثورية بولاية بسكرة ذكرى معركة "خلفون" يوم السابع من شهر نوفمبر، و هي إحدى معارك ما يصطلح عليه بأنصار المصالية أو الحركة الوطنية، كما انها معركة استشهد فيها الكثير من المجاهدين يوم 9 نوفمبر 1956 بجبال بوكحيل على رأسهم أسد الصحراء الشيخ "زيان عاشور" الذي كان إستشهاده البوابة التي مر منها الجنرال الخائن "بلونيس" و القشة التي قصمت ظهر المصاليين بالمنطقة عبر عدة مؤامرات بتواطؤ من المخابرات الفرنسية.
و كان من المفروض ان تحي الأسرة الثورية بولاية الجلفة ذكرى هذه المعركة لكنها اكتفت في الخامس من هذا الشهر بالإحتفال بمعركة 48 ساعة التي وقعت في سنة 1961 من نفس الشهر بجبل بوكحيل كما تم إعادة دفن رفاة 6 شهداء.
استشهاد الشيخ يقصم ظهر المصاليين و يمهد للجنرال
حينما كان الشيخ "زيان عاشور" على قيد الحياة كانت كلمة المصاليين تعلو فوق كل الأصوات بالولاية السادسة موحدا الجميع تحت راية الجهاد بالنظر إلى سلطته الدينية التي استلهمها من الزوايا التي درس بها(زاوية بن رميلة) بالإضافة إلى سلطته السياسية التي اكتسبها من خلال نضاله في صفوف الحركة الوطنية، إلى ان ظهرت بوادر الإنشقاق بمناطق الولاية السادسة إثر استشهاده، و كانت فرنسا بالمرصاد لتستغل مثل هذه الظروف هي و أذنابها..
و يعود التكوين العسكري للجيش الذي كان يقوده الشيخ إلى الحرب العالمية الثانية و يتكون اصلا من أبناء البادية الذين كانوا يحملون السلاح التقليدي و أسلحة من مخلفات الحرب العالمية الثانية اقتنوها من ليبيا و تونس عن طريق تجار سلاح كانوا يشكلون المصدر الأول الذي اعتمد عليه بن بولعيد في جلب السلاح و من ثم تفجير الثورة قبل ان يتنكروا له و يحولوا مبيعاتهم للمصاليين، كما كان ذات الجيش يتكون من جزائريين يشكلون عناصر "الزرقاوية" الوافدة من فرنسا لدعم جيش الصحراء ..
و رغم ان هذا الجيش كان يشكل قوة ضاربة إلا أن درجة الإنسجمام نزلت إلى الصفر في صفوف الحركة الوطنية-الإسم الجديد لحزب الشعب و حركة إنتصار الحريات فيما بعد-و التي كانت تصول و تجول بمناطق (بسكرة –الجلفة-المسيلة-صور الغزلان-الاخضرية..) بمجرد استشهاد الشيخ "زيان عاشور"، و تمكنت فرنسا من مباغتة انصاره يوما واحدا بعد استشهاده أي يوم 9 نوفمبر، حيث دخل فيلق RAS في معركة شرسة ضد أنصار الشيخ زيان و تمكن من القضاء -معركة واد خلفون ببوكحيل-على 160 مصالي ليصل عدد المصاليين الذين استشهدوا خلال يومي 8 و 9 نوفمبر 200 مصاليا بينهم 40 سقطوا مع الشيخ يوم 8 نوفمبر..
عندما حمل سكان المناطق -التي صنفت في إقليم الولاية التاريخية السادسة بعد مؤتمر الصومام- السلاح في وجه فرنسا لم يكن ذلك إلا ضد فرنسا، أما التخندق مع جبهة التحرير أو الحركة الوطنيةMNA التي انقسمت بدورها ما بين انصار الشيخ زيان و انصار "بلونيس" لم يلقوا له بالا و لم يكن يعنيهم من يقودهم بقدر الجهة التي يصوبون نحوها السلاح..و هنا رفعا للبس نشير إلى أن تسمية الحركة الوطنية لا تعني مجموع الاحزاب السياسية التي كانت تناضل قبل الأول نوفمبر 54 و إنما المقصود بها تسمية جديدة التي أطلقها مصالي الحاج على حزبه الجديد لمضايقة الأفلان و سحب البساط من تحته. و الجديد في هذا هو تشكيل جناح عسكري مرادف للحركة الوطنية سمي بجيش تحرير الشعب الجزائري ، و هذا ما يستشف منه دهاء سياسيا لدى مصالي الذي كان يختار تسمية حركته حسب الظروف فمن نجم شمال إفريقيا إلى حزب الشعب إلى حركة الإنتصار للحريات الديمقراطية إلى الحركة الوطنية أخيرا..على طريقة الشركات التجارية التي تلعب على حرب التسميات مثل شركة adidas و شركة abibas..
و زاد استشهاد "الشيخ زيان عاشور" من حالة الإنقسام في صفوف حزب الحركة الوطنية التي كانت تسيطر على صحراء الواحات و المناطق المحاذية لها، و هو ما فتح باب الصراع على الزعامة بظهور جناحين، جناح يدعمه الثوريون "الزيانيون" بقيادة محمد بلهادي، و جناح يقوده "بلونيس" تدعمه فرنسا و يلقى معارضة شرسة من طرف انصار الحركة الوطنية جناح الزيانيين.
مقاومة الزيانيون .. مؤامرات الجنرال و المخابرات الفرنسية
أعلن "هاني محمد بلهادي" نفسه خليفة للشيخ، و هو ينتمي لنفس المنطقة التي ينحدر منها الشيخ ببسكرة، و أصله من عرش أولاد سيدي يونس بالجلفة، انتقلت عائلته بداية القرن العشرين إلى بسكرة و تجذرت هناك.
و تعمق الخلاف بين أنصار الحركة الوطنية و حاولت فرنسا رأب هذا الصدع عبر قنوات اتصال تمثلت في مير عين الملح و زوجة "عبد الرحمان بلهادي"-شقيق محمد بلهادي- فرنسية الأصل، و الباشاغا "فرحات" بالأغواط الذي كانت تربطه صداقة بعبد الرحمان بلهادي، إلا ان هذه المناورات باءت بالفشل، لتشبث المصاليون الزيانيون بمواقفهم، و امام هذه الاجواء التي عكرت الصفاء السياسي لفرنسا، اضطرت الاخيرة إلى إرغام المصاليين الرضوخ لقائد آخر تجسد في شخص الجنرال "محمد بلونيس" القادم من منطقة القبائل، و هذا بعد ان قضت على أقطاب المعارضة في صفوف الزيانيين في معركة ريشة سبعين- 26 فيفري 1957- قرب بلدية عين الشهداء جنوب غرب الجلفة استشهد فيها 40 زيانيا، و أسر خلالها عبد الرحمان بلهادي حيا بطلب من حاكم مدينة الاغواط الذي أصر على ان لا يلمس عبد الرحمان بلهادي و وضع في ثكنة بالأغواط و استشهد خلال محاولة للهرب، و وضع له مؤخرا نصبا تذكاريا بالمكان الذي استشهد فيه، و تم تناسي ميدان المعركة التي اسر فيها و استشهد فيها 40 مجاهدا من خيرة رجال الحركة الوطنية بعين الشهداء التي كانت تسمى عين الحمارة.
"العربي القبايلي" "يدعم" الجنرال و "يعدم" المعارضين
تمكن الجنرال بلونيس من بسط نفوذه على جهات هامة بالولاية السادسة و السيطرة على جيش بأكمله من أنصار الحركة الوطنية عن طريق مؤامرة خطط لها "مزيان العربي القبايلي" الذي تقلد منصب القائد العام للجيش بعد مؤتمر الصلح و الإنضمام الذي انعقد بجبال قعدة القمامتة بمنطقة أفلو يوم 7ماي 1957 و كان الهدف منه التوحيد بين أنصار الحركة الوطنية و جبهة التحرير الوطني، و جاء كذلك ليساهم في تحرير رهائن من الحركة الوطنية احتجزتهم الجبهة في الولاية الخامسة و حضر هذا المؤتمر العقيد لطفي ممثلا عن الولاية الخامسة و مكلفا من طرف "عبد الحفيظ بوالصوف" و الرائد "عمر إدريس" الشخصية الجبهوية صاحبة المصداقية لدى قيادات الجبهة من أمثال العقيد مصطفى بن بوالعيد و العقيد أوعمران و كريم بلقاسم و الذي حاولت الحركة استغلاله في تحرير الرهائن بعد فشل ممثلها "الطيب فرحات" و في نفس الوقت أراد الرائد اعمر استغلال هذا المأزق لجلب المصاليين نحو قواعد الجبهة..
و بالعودة إلى الإنقلاب الذي حدث داخل الحركة الوطنية التي انقسمت ما بين الزيانيين داعمي محمد بلهادي بصفته الخليفة الشرعي للشيخ زيان و الجنرال بلونيس الذي استولى على القيادة بتخطيط من العربي القبايلي لينسف مؤتمر الصلح و الإنضمام..و تركز مصادر تاريخية أن الجنرال بلونيس حينما قرر الإنقلاب لم يكن إنقلابه على الجبهة التي لم ينتم لها أصلا بل كان إنقلابه على الحركة الوطنية بصفته كان مصاليا و أراد الإستحواذ على عرش الشيخ زيان أحد قادته بدعم من المخابرات الفرنسية و مناورات سياسية خطط لها العربي القبايلي باستعماله استدعاءات وجهها لقيادات (زيانيون) ممضية بختم الجيش ثم انقلب عليهم و قام باعتقالهم بينهم- الشيخ حاشي عبد الرحمان-الطبيب زقبيب عبد المالك-عيسى البكباشي-محمد بلهادي-لعراف مناد-شقرة بن صالح.. بالإضافة إلى العديد من المدنيين كحران عبد الرحمان-عمران النعاس-مختار لحمر-بوبكر الهتهات.. و لم يتوقف الجنرال و ذراعه الأيمن العربي القبايلي عند الإعتقال بل تجاوزاه بالتنكيل بالمعتقلين و اخذهم في دوريات داخل شاحنات حول المناطق المجاورة بداية من (قعيقع-زاغز-العش-حوش البرادي) و العودة إلى نواحي سيدي بايزيد بشمال الجلفة أين أنشأ معتقلا بحوش لقراد بين جبال مناعة و دار الشيوخ..و نذكر هنا إحدى "مناورات" العربي القبايلي فالمعركة الشهيرة التي قادها زيان البوهالي المعروفة "بالدلاج" بنواحي زكار فبعد أن حاصرته القوات الفرنسية بداية جويلية 1957 و استعملت فيها فرنسا مختلف الأسلحة الثقيلة المحرمة دوليا كالنبالم، و استشهد خلالها 76 بمن فيهم قائد المعركة "زيان البوهالي" كان العربي القبايلي رفقة جيش بأكمله بنفس النواحي و رفض نداء للمجاهدين بفك الحصار على البوهالي و جيشه متحججا بأن فرنسا ستقضي على الجميع و رفض الدخول في معركة معها،فهل كانت هذه إستراتيجية حربية ذكية لإنقاذ جيشه من مصير محتوم أم توريط زيان البوهالي و جيشه و بداية التحضير للإنقلاب الذي تحدثنا عنه سابقا؟؟.
تعذيب الشيخ "حاشي" بالسانية..و إعدام 26 زيانيا
حينما تمكن الجنرال "بلونيس" من رؤوس الحركة الوطنية من أتباع الشيخ زيان عاشور تفنن في تعذيبهم و إذلالهم..فالشيخ الورع المجاهد "عبد الرحمان حاشي" تم تعذيبه و إذلاله بربطه بالسانية و تدويرها قصد استخراج الماء من البئر، و أقدم الجنرال صيف 1957على إعدام 26 زيانيا حاولوا الفرار بمجرد إكتشاف أمرهم منهم (عيسى البكباشي-زغبيب-حيدش المختار-و عبداللطيف..) ، و اصدر أمره بنقلهم من دار الشيوخ و إعدامهم بمنطقة "الزباش" بتقرسان، و السؤال المطروح بحدة هو سبب إختيار هذه المنطقة لإعدامهم رغم بعدها عن مكان الإعتقال بأكثر من 60 كلم، و تمكن محمد بلهادي الإفلات من هذه المجزرة و الفرار إلى منطقة "واد جدي" جنوب مسعد أقصى جنوب الجلفة و عثر عليه "الحاج عمارة" في حال جد سيئة نتيجة حال الإعتقال و المسافة الطويلة جدا بين منقطة تقرسان مكان الإعدام و واد جدي و المقدرة بأكثر من 150 كلم و قام بتزويده بالثياب و الطعام و نقله على فرس له إلى منطقة أولاد جلال ليشكل فرقة عسكرية و يستأنف نشاطه من جديد .
في الوقت الذي أعدم كل من "سي فريد" و "سي احمد السياسي" بقعدة حدالسحاري، و بعين الروس بسيدي بايزيد أعدم "بوذراع" (الذي نقل مبلغا ماليا كبيرا قدره 130 مليون فرنك رفقة 13 جنديا إلى ضواحي عين الشهداء قبل حدوث الإنقلاب، و كان هذا المبلغ مرسلا من طرف الشيخ حاشي عبد الرحمان بواسطة "الطاهر قيبش" و "بلقاسم بلمبخوت")،كما أقدم الجنرال على قتل اثنين من المعتقلين بطريقة وحشية و بشعة بدفن رأسيهما في التراب بسواعد المدعو "جمال" و "فرحات".
و من غرائب شخصية هذا الجنرال المتناقضة أنه يتحول من سفاح إلى رجل (ميعاد) أطلق سراح الكثير من المعتقلين إثر تدخل بعض الأعيان كمحاد الصغير "الجبار" بدار الشيوخ و علي جابالله مير حاسي العش في ذلك الوقت و سي؟؟الصغير، و حتى أمهات بعض المعتقلين لم يردهن خائبات في أولادهن.. و ربما كانت استراتيجية الحرب كانت تقتضي مثل هذه السلوكات و التناقضات و السياسة فن الممكن..
بن سعيدي يضيق على الجنرال و الكل يسبح في فلك فرنسا
و كعادتها فرنسا لا يروق لها ان ترى سطوة غير سطوتها و لا نفوذا غير نفوذها، و لا تأمن أي جزائري حتى لو كان خائنا و مواليا لها فهو لا يعني لها غير ورقة تستعملها في الوقت المناسب ثم ترميها.. فبعد أن أخلطت أوراق جبهة التحرير بجيش الجنرال بلونيس و شرذمت المصاليين، جاء دور الجنرال الذي وجد نفسه معزولا عندما بزغ نجم "العقيد بن سعيدي" مدبر عملية إغتيال العقيد " سي الشريف علي ملاح" قائد الولاية السادسة، و ظهر بن سعيدي كبديل للجنرال أمام أعين فرنسا التي لا تبصر إلا المؤامرات و الخيانات و سفك الدماء، و ارتاحت من محاربة الجزائريين الذين كفوها عناء قتالهم باقتتالهم بينهم و تصفية بعضهم لبعض..
و لقي الوافد الجديد "العقيد بن سعيدي" كل العناية و الإحتضان من طرف فرنسا التي خصصت له و لفيلقه ميزانية، الأمر الذي قض هجيع الجنرال و أزعجه و أفسد عليه حساباته و هو قائد جيش تعداده 12 ألف جندي في حين لا يتعد فيلق بن سعيدي 350 جندي، و بقي الحال كذلك إلى ان اقدم بن سعيدي على إغتيال "السعيد مايو" الساعد الأيمن لبلونيس وهو ما اعتبره الاخير شعرة معاوية الموتورة، وهنا تدخلت المخابرات الفرنسية لتهدئة الاجواء المشحونة حينما اقدمت على دفع دية مايو لأهله و قدرت وقتها بـ4 ملاين فرنك، إلا أن بلونيس تفطن لخديعة بن سعيدي و دعم فرنسا له ، و انقلب في خطاباته السياسية ضد فرنسا و زاد من حدتها ضد جبهة التحرير ، و قال لأتباعه ان فرنسا خدعتهم و انقلبت عليهم و دخل ضدها في عدة معارك (قصير الحيران) و معركة (اللبوخ) و معركة "حواص"...