مملكة سبأ (950 - 115 ق.م). يرى كثير من الباحثين في تاريخ اليمن القديم أن مملكة سبأ التي ظهرت جنوب غربي شبه جزيرة العرب، هي أقدم الممالك التي عرفها تاريخ المنطقة. ومن المرجح أن استقرارهم هناك بدأ في القرن الثالث عشر قبل الميلاد.
عرف السبئيون الزراعة، ولكن لايعرف بالضبط متى بدأوا يمارسون ذلك النشاط، ولكن يبدو أن المنطقة كانت أكثر أمطارًا مما هي عليه الآن، فرأى السبئيون استغلال تلك المياه في الزراعة. وساعدتهم الزراعة على أن يحيوا حياة مستقرة، أدت إلى أن يخطوا خطوات كبيرة نحو التقدم والمدنية. وتطور نظام الحكم لدى السبئيين، وبعد أن كانوا قبيلة عرفت النظام القبلي تدرجت في الأمر، وأصبح حكامها يدعون بالمكرِّبين. ويرى الدارسون أن لفظ مكرِّب ومعناها مقرِّب ويقصد به مقدم القربان إلى الله. ومن المعروف أن لغة حمير كانت تنطق القاف كافا. وكان هؤلاء المكرِّبون يجمعون بين السلطة السياسية والدينية. أما إلههم الذي كانوا يعبدونه، فقد كان يدعى ألمقة. وكانوا يقدمون إليه النذر والبخور، وبنوا له المعابد.
اتخذ السبئيون في أول أمرهم صَرْواح عاصمة لهم، ثم مالبثوا أن نقلوا عاصمتهم إلى مأرب، وقد أصبحت مركزا تجاريًا مهمًا. واعتمدت حضارة السبئيين إلى حد كبير على تجارة القوافل البرية، التي كانت تنقل البخور واللبان والعطور من حضرموت شرقًا إلى مأرب غربًا، ومن هناك كانت القوافل تسير شمالاً إلى المناطق العربية القريبة من البحر الأبيض المتوسط، ثم كانت تنقل هذه السلع إلى البلاد التي تحيط بذلك البحر. وكان هؤلاء الناس يقبلون على الحصول على تلك العطور والبخور واللبان، مما جعل بعض المؤرخين اليونانيين يكتبون عن غنى أهل سبأ ورواج تجارتهم. وكانت هناك صلات قوية أقامتها سبأ بين شبه الجزيرة العربية ومراكز الشرق الأوسط الثقافية الأخرى، مثل مصر وبلاد مابين النهرين وفارس.
اشتهرت سبأ بين الأمم القديمة، وقد جاء ذكرها في التوراة، كما جاء في بعض النقوش التي خلفها الملك سرجون ملك آشور (720-705 ق.م) أن مملكة سبأ قدمت له هدية من الذهب واللآلئ والبخور والأعشاب. ويرى بعض الباحثين أنه قد تكون تلك الأشياء من قبيل الهدية، وليست من قبيل الإتاوة أو الضرائب التي فرضها الملك الآشوري على حكام سبأ.
وذكر القرآن الكريم قصة سبأ في أكثر من موضع، فحكى ما كانوا فيه من النعيم، إذ كانوا في أخصب البلاد وأطيبها وذكر سد مأرب الذي أقامته ملكتهم بلقيس، ولكنهم بطروا وكفروا النعمة وطغوا وكانوا مجوسًا يعبدون الشمس فأرسل الله لهم الرسل فلم يهتدوا، فأرسل عليهم سيل العرم، فهدم السد وشرّدهم جزاءً بما كانوا يعملون. يقول الله تعالى: ﴿ لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من زرق ربكم وأشكروا له بلدة طيبة وربٌّ غفور ¦ فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدلناهم بجنتيهم جنتين ذواتي أكُل خمط وأثل وشيءٍ من سدر قليل ¦ ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ﴾ سبأ: 15 - 17.
وكذلك وردت في القرآن قصتهم وقصة ملكتهم بلقيس مع سليمان عليه السلام في سورة النمل.
وكان العرب يضربون الأمثال في أشعارهم بمملكة سبأ وسدّها يقول أحدهم مادحًا:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ
------------------يبنون من دون سيله العرما
ووافقت الآثار التي وُجدت في سبأ، ما ذكره القرآن الكريم من أن السبئيين ضربوا بسهم وافر في التقدم الزراعي وفي هندسة الري، كما كانوا متقدمين في الهندسة المعمارية. ونجح هؤلاء القوم في بناء سد مأرب في مملكتهم، لحفظ مياه الأمطار التي كانت تجري في أراضيهم دون الإفادة منها، فأصبحوا يستغلونها في الري بفضل السد والقنوات التي ساعدتهم على توزيع تلك المياه. ويعتقد بأن هذا السد أقيم في نحو عام 650ق.م. وببناء السد أخذ ملوك الدولة ينظمون توزيع الأراضي والري وتطوير الزراعة، وكان من بين ما يزرعونه الحبوب والنخيل والعنب. وكان لهذه الزراعة فضل في توفير الغذاء لأصحاب القوافل وركبانها، وأصبحوا يجدون مايكفيهم من غذاء، وما يحتاجونه من مأوى، خصوصًا وقد كانت الحجارة والأخشاب متوفرة في تلك المملكة. وكانت هذه المملكة قادرة على تزويد القوافل بما تحتاج إليه وهي تقطع رحلات طويلة كانت تصل إلى نحو 1,500كم من جنوبي الجزيرة العربية إلى شمالها الغربي وصولاً إلى البتراء، ومنها إلى البحر المتوسط
ومصر.
وقد خلَّفت مملكة سبأ حضارة، لها مكانتها من حيث البنيان، سواء في المعابد ذات الحجارة المصقولة المنحوتة، أو الهندسة المعمارية أو الزراعية. وكانت هذه الآثار، تدل على مدى ما وصلت إليه الحضارة العربية من تطور في جنوب شبه جزيرة العرب.