تختلف البلدان الإسلامية في ظهور البدع فيها ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( فإن الأمصار الكبار التي سكنها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخرج منها العلمُ والإيمان خمسة : الحرمان ، والعراقان ، والشام ، منها خرج القرآن والحديث ، والفقه والعبادة ، وما يتبع ذلك من أمور الإسلام ، وخَرجَ من هذه الأمصار بدع أصولية ، غير المدينة النبوية ، فالكوفة خرج منها التشيع والإرجاء ، وانتشر بعد ذلك في غيرها ، والبصرة خرج منها القدر والاعتزال والنسك الفاسد ، وانتشر بعد ذلك في غيرها ، والشام كان بها النصب والقدر ، وأما التجهم فإنما ظهر في ناحية خراسان ، وهو شر البدع .
وكان ظهور البدع بحسب البعد عن الدار النبوية ، فلما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية ، وأما المدينة النبوية فكانت سليمة من ظهور هذه البدع ، وإن كان بها من هو مضمر لذلك ، فكان عندهم مهانًا مذمومًا ، إذ كان بها قوم من القدرية وغيرهم ، ولكن كانوا مقهورين ذليلين ، بخلاف التشيع والإرجاء في الكوفة ، والاعتزال وبدع النساك بالبصرة ، والنصب بالشام ، فإنه كان ظاهرًا ، وقد ثبت في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الدّجَّالَ لا يدخلها ، ولم يزل العلم والإيمان ظاهرًا إلى زمن أصحاب مالك ، وهم من أهل القرن الرابع ) .
فأما العصور الثلاثة المفضلة فلم يكن فيها بالمدينة النبوية بدعة ظاهرة البتة ، ولا خرج منها بدعة في أصول الدين البتة ، كما خرج من سائر الأمصار .
2 - الأسباب التي أدت إلى ظهور البدع :
مما لا شك فيه أن الاعتصام بالكتاب والسنة فيه منجاة من الوقوع في البدع والضلال ، قال تعالى : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ .
وقد وضح ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : خَطَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطًّا فقال : هذا سبيل الله ، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه ، وعن شماله ثم قال : وهذه سُبُلٌ ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، ثم تلا : وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .
فمن أعرضَ عن الكتاب والسنة ؛ تنازعته الطرق المضللة ، والبدع المحدَثَة .
فالأسباب التي أدَّت إلى ظهور البدع تتلخص في الأمور التالية : الجهلُ بأحكام الدين ، اتباع الهوى ، التعصب للآراء والأشخاص ، التشبه بالكفار وتقليدهم ،
ونتناول هذه الأسباب بشيء من التفصيل :
أ - الجهل بأحكام الدين :
كلما امتد الزمن ، وبَعُدَ الناس عن آثار الرسالة ؛ قَلَّ العلمُ وفشا الجهل ، كما أخبرَ بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : من يَعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا وقوله : إنَّ الله لا يقبضُ العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبضُ العلمَ بقبض العلماء ؛ حتى إذا لم يُبْق عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جُهّالًا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلّوا وأضلّوا .
فلا يُقاومُ البدعَ إلا العلم والعلماء ، فإذا فُقد العلم والعلماء أتيحت الفرصة للبدع أن تظهر وتنتشر ، ولأهلها أن ينشطوا .
ب - اتباع الهوى :
من أعرض عن الكتاب والسنة اتبع هواه ، كما قال تعالى : فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ .
وقال تعالى : أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ .
والبدع إنَّما هي نسيجُ الهوى المتَّبع .
ج - التعصب للآراء والرجال :
التعصب للآراء والرجال يحول بين المرء واتّباع الدليل ، ومعرفة الحق ، قال تعالى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا .
وهذا هو الشأن في المتعصبين اليوم من بعض أتباع المذاهب الصوفية والقبوريين ، إذا دُعوا إلى اتباع الكتاب والسنة ، ونبذ ما هُم عليه مما يُخالفهما ؛ احتجوا بمذاهبهم ، ومشائخهم وآبائهم وأجدادهم .
د - التشبه بالكفار :
وهو من أشد ما يوقع في البدع ، كما في حديث أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى حُنين ، ونحن حدثاء عهد بكفر ، وللمشركين سِدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم ، يقال لها : ذاتُ أنواط ، فمررنا بسدرة فقلنا : يا رسولَ الله ، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : الله أكبر ، إنها السنن ! قلتم - والذي نفسي بيده - كما قالت بنو إسرائيل لموسى : اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ لتركبُنَّ سُنَنَ من قبلكم .
ففي هذا الحديث : أن التشبه بالكفار هو الذي حمل بني إسرائيل أن يطلبوا هذا الطلب القبيح ، وهو أن يجعل لهم آلهة يعبدونها ، وهو الذي حمل بعض أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يسألوه أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها من دون الله ، وهذا نفس الواقع اليوم ، فإنَّ غالب الناس من المسلمين قلدوا الكفار في عمل البدع والشركيات ، كأعياد الموالد ، وإقامة الأيام والأسابيع لأعمال مخصصة ، والاحتفال بالمناسبات الدينية والذكريات ، وإقامة التماثيل ، والنصب التذكارية ، وإقامة المآتم ، وبدع الجنائز ، والبناء على القبور ، وغير ذلك .