لا يصلحُ آخرُ هذه الأمة إلا بما صلح به أوَّلها؛ ألا وهو الدين؛ كلمةٌ مأثورة طالما سمعناها من مشايخنا ومن المصلحين، وهي حقيقة ملموسة صدَّقها الواقعُ الذي نحياه.
تقومُ في دنيانا اليوم أزماتٌ خانقة: أزمةٌ اقتصادية، وأزمة سياسية، وأزمة أخلاقية، وأزمة روحية، وأزمة فكرية، وأزمة اجتماعية، و...
وقد جرَّبنا على مدى تسعين عامًا منذ سقوطِ الخلافة الإسلامية أنواعًا من العلاجِ لهذه الأزمات، فلم تفلحْ كلُّها في العلاج، بل زادت مشاكلُنا وتفاقم أمرُها، جرَّبنا القوميةَ، وجرَّبنا الوطنية، وجرَّبنا الاشتراكية، وجرَّبنا الديكتاتورية، وجرَّبنا أنظمةً أخرى، وضاع جزءٌ عزيز غالٍ من بلادِنا المباركة.
ولم نلجأ - وا أسفاه - إلى الدِّين نلتمس في تعاليمِه العلاج؛ لأنَّ الكفَّار الذين أسقطوا الخلافةَ الإسلامية، وسيطروا علينا باعدوا بيننا وبين الدِّين، وأقاموا فينا أنظمةً تحارِبُ الدِّينَ أو تتجاهلُه وتبعدنا عنه.
لقد كان العربُ قبل الإسلام في حالةٍ بائسة؛ كانوا يعيشون في ظلماتٍ بعضها فوق بعض؛ يصوِّر حالَهم أدقَّ تصويرٍ قولُ جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - في خطبتِه التي ألقاها أمام النجاشي ملكِ الحبشة؛ حيث قال: "أيها الملك، كنَّا قومًا أهل جاهليةٍ نعبدُ الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطعُ الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكلُ القوي منَّا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعثَ الله فينا رسولاً منَّا، نعرِفُ نسبَه وصِدقَه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحدَه ونعبده، ونخلعَ ما كنا نعبدُ نحن وآباؤنا من دونِه من الأوثان، وأمرَنا بصدقِ الحديث وأداء الأمانة، وصلةِ الرَّحِم، وحسنِ الجوار، والكفِّ عن المحارم والدِّماء، ونهانا عن الفواحشِ، وقولِ الزور، وأكلِ مال اليتيم، وقذفِ المحصنات، وأمرنا بالصلاةِ والزكاة والصيام، فصدَّقناه وآمنَّا به، واتَّبعناه على ما جاء به من عند الله"؛ سيرة ابن هشام؛ (1/359، 360).
ويصوِّر حالَهم كلمةُ النعمان بن مُقرن أمام "يزدجرد" ملكِ الفرس عندما سأل الصَّحابةَ: "ما الذي أقدمكم هذه البلاد؟"[1]، وكلمةُ المغيرةِ بن زرارة أمام "يزدجرد"[2].
وهي كلماتٌ تصوِّرُ واقعَ العرب قبل الإسلام، عن معايشةٍ وصدق وجرأة واعتراف بالواقع.
وكان العالم كلُّه يتقلب في مثلِ هذه المظالم والظلمات، ولم تكن هناك بقعةٌ يشعُّ منها النور، إلا إيماضة تراءت ثم انطفأت.
فلما شرح الله صدورَ العرب للحقِّ، واستجابوا لله وللرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - صلحت أحوالُهم، وسعدوا وزال الفقرُ والذُّعر والقتل، وكانت الوحدة القائمة على الحبِّ والتعاون على البرِّ والتقوى؛ قال - تعالى -: ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ [الأنفال: 63].
قلتُ: إنَّ إيماضةً تراءت في حقبةٍ من الزمان في اليونان، كان فيها فكر وفلسفة، ولكن ذلك كان مشوبًا بوثنيةٍ مضحكة فيها آلهة تحبُّ وتعشقُ وتبغض، وتتحارَبُ ويهزم بعضها، وفي هذه الفلسفةِ آراء في منتهى الغرابةِ، قال بها الفلاسفةُ الكبار المشهورون؛ كـ"سقراط"، و"أفلاطون"، و"أرسطو"؛ فمثلاً كان "أفلاطون" يؤمنُ بالشركِ والتناسخ، وله آراء أسطورية في المدينة الفاضلة[3].
ومهما يكن من أمرٍ، فإنَّ تلك الإيماضة سُرعانَ ما انطفأت، وعادت الدُّنيا إلى الظلامِ الدَّامس، وكانت الإنسانيةُ تتردَّى في مهاوي الرذيلةِ والظلم، وكانت الديانات السماوية قد اعتراها التشويهُ والنقص والزيادة، وقد استحفظ الله الرهبانَ والأحبارَ تلك الرسالة في حفظِها؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ [المائدة : 44]، وقال - سبحانه -: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ ﴾ [البقرة : 79]، وقال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [التوبة: 34].
والإسلامُ هو الذي بدَّل هذه الحالةَ الطالحة إلى الحالةِ المثلى، فأضحت ديارُ الإسلامِ ديارَ العلم؛ ففي المسجدِ تُعقدُ حلقاتُ العلمِ، حتى غدا عددٌ من المساجدِ جامعاتٍ عالمية يفدُ إليها طلبةُ العلم من كلِّ فجٍّ ومن كل بلد، ومن أهمِّ هذه المساجدِ؛ الحرمان الشريفان، وجامع القرويين، والقيروان، والأزهر، ومساجد الشام والعراق وخراسان وغيرها.