الإستقصاء بالرفع: "أصل المفاهيم الرياضية العقل"أرفض هذه الفكرة
المقدمة:
تعد الرياضيات أولى العوم استقلالية عن الفكر الفلسفي حيث أسست لنفسها منهجا خاصا قائما على الاستنباط و موضوعا مستقلا ينبني على دراسة الكم المجرد في الأشياء والكون وقد فصلت الرياضيات الكلاسيكية بين صنفين كم منفصل يدرس الحساب وكم متصل موضوعه الهندسة ولقد كانت الفكرة الشائعة لدى الفلاسفة أن أصل المفاهيم الرياضية التجربة لكن هناك فكرة تناقضها و تخالفها وتتمثل في أن أصل المفاهيم الرياضية العقل ويبدو هذا الرأي غير صيحيح ووجب إبطاله فماهو السبيل إلى ذلك؟ وبمعنى آخر ماهي الحجج و البراهين التي تؤكد بأن هذا الطرح فاسد؟.
الجزء الأول: تمهيد للجزء الثاني "نطرح موقفا فقط و نترك الموقفين الباقين للجزء الثاني".
يرى كل فلاسفة المذهب العقلي دون استثناء أن أصل المفاهيم الرياضية هو العقل الخالص المحض أي المستقل تماما عن العالم الواقعي الحسي والمعارف النابعة منه بالحواس والعقل في ذلك يستند إلى أسس ومبادئ ذاتية وفطرية فيه ومن بين أشهر ممثلي هذا الطرح نجد الفيلسوف اليوناني أفلاطون وغيرهم ....
حيث نجد أن الفيلسوف اليوناني أفلاطون يرى بأن المفاهيم الرياضية كالخط المستقيم والدائرة .واللانهائي والأكبر والأصغر ...الخ،هي مفاهيم أولية نابعة من العقل وموجودة فيه قبليا لان العقل بحسبه كان يحيا في عالم المثل وكان على علم بسائر الحقائق .ومنها المعطيات الرياضية التي هي أزلية وثابتة , لكنه لما فارق هذا العالم نسي أفكاره ,وكان عليه أن يتذكرها .وان يدركها بالذهن وحده حيث يقول في كتابه الجمهورية << عالم المثل مبدأ كل موجود ومعقول وأن المعرفة تذكر >> وعليه استند أفلاطون في تأسيس رؤيته إلى نظريته في المعرفة والوجود حيث اعتقد مسبقا أن المفاهيم الرياضية في خصائصها ثابتة وأزلية ومطلقة ومن هذا يحكم بانتفائها في العالم الحسي لأنه فاني ونسبي ومتغير على الدوام وبهذا فهي في أصلها موجودة في عالم المثل منذ الأزل وحقائق هذا العالم مطلقة وثابتة وأزلية ومثال ذلك أننا عندما نقول خمسة أقلام ،فنحن نرى الأقلام فقط و لكن لانرى العدد 05 فهو مفهوم عقلي بحت.
ومنه نستنتج أن أصل المفاهيم الرياضية تعود إلى العقل.
الجزء الثاني:
و لهذا الموقف مناصرون منهم نجد الفيلسوف الفرنسي وأب الفلسفة الحديثة رينيه ديكارت الذي يرى أن المعاني الرياضية من أشكال وأعداد هي أفكار فطرية أودعها الله فينا منذ البداية وما يلقيه الله فينا من أفكار لا يعتريه الخطأ ولما كان العقل هو اعدل قسمة بين الناس فإنهم يشتركون جميعا في العمليات العقلية حيث يقيمون عليه استنتاجاتهم حيث يقول في كتابه التأملات " المعاني الرياضية أفكار فطرية أودعها الله فينا منذ البداية". وينطلق ديكارت أيضا من أن البداهة صفة مميزة للمفاهيم الرياضية الثابتة لكن الحواس تخطأ وتخدع كرؤية العصا منكسرة في الماء وحقيقتها غير ذلك ولما كانت متغيرة فلا يمكنها أن تدرك ما هو ثابت لان النسبي لا يدرك المطلق وبما أن أفكار الإله صادقة صدقا مطلقا فإن تلك المفاهيم تكون صادقة وبديهية وهما صفتان ملازمتان للحقائق والمفاهيم الرياضية لهذا فلا يمكن أن تكون موجودة في عالم الحواس لأنه متغير بينما تلك المفاهيم دقيقة ومنه فالعقل لم يفتقر في البداية إلى مشاهدة العالم الخارجي حتى يتمكن من تصور مفاهيم الرياضيات بل هي موجودة فيه فطريا وقبليا.
وهذا مايذهب إليه زعيم الفلسفة النقدية إمنوال كانط حيث يرى أن الزمان والمكان مفهومان مجردان فطريان و قبليان وليس مشتقين من الإحساسات أو مستمدين من التجربة ,وعليه فالمفهايم الرياضية مفاهيم فطرية أصلها العقل و ليست مستمدة من التجربة بل هي منزهة عن ذلك.
لكن هذا الرأي غير صحيح فلقد بالغ أنصار المذهب العقلي في ردهم المفاهيم الرياضية الى العقل وحدهم ،ذلك أن للتجربة دور كبير في نشأتها و خير دليل على ذلك التطور الكبير الذي عرفته الهندسة في مقابل الجبر لأنها تطبيق على أرض الواقع، وممن دافع على هذا الموقف نجد الفيلسوف الأنجليزي جون لوك الذي إستند إلى نقد نظرية الأفكار الفطرية حيث أن الطفل الصغير لا يمتلك هذا النوع من الأفكار وبالتالي فليست موجودة أصلا وعليه فالعقل يولد خالي من أي فكرة لهذا قال "وهذا يعني أن المعارف كلها بما فيها المبادئ الرياضية مكتسبة وما هو مكتسب يؤخذ من العالم الحسي الواقعي الخارج عن الذات ووسيلة الاتصال بهذا العالم هي الحواس الخمس "من هنا يؤكد جون لوك على الأصل التجريبي الحسي للمفاهيم الرياضية المحتواة في العقل ولهذا فإن كل مفهوم رياضي تجريدي في الذهن له مقابل في عالم الأشياء والظواهر الحسية فكل معرفة عقلية هي صدى لادراكاتنا الحسية عن هذا الواقع.
الجزء الثالث:
وحسب رأيي الشخصي فإنى أرى مع ممثلي الموقف التجريبي "جون لوك،دفيد هيوم،جون ستوارت مل" أن أصل المفاهيم الرياضية تجريبي حسي شأنها شأن كل المعارف الإنسانية، وأن العقل مجرد صفحة بيضاء تكتب عليها التجربة ماتشاء من مباديء و مفاهيم و أفكار و من بين هذه المفاهيم نجد المفاهيم الرياضية، وهذا مايذهب إليه أيضا جون ستوارت مل بأن المفاهيم الرياضية مفاهيم حسية لذلك نجد أن علم النفس يؤيد هذا التفسير حيث ان الطفل في سنين تعلمه الأولى لا يجيد الحساب إلا إذا أقترن بأشياء حسية فإذا سئل 1+1كم يساوي ؟لن يعرف المجموع لكن إذا أعطي تفاحة مثلا ثم أضيفت له أخرى فإنه يدرك أنهما اثنان وهذه حقيقة علمية يستند عليها علم النفس المعاصر في المنظومات التعليمية الخاصة بمادة الرياضيات خاصة في المرحلة الإعدادية حيث يعتمد على وسائل حسية لتعليم الحساب كالقريصات والخشيبات ومن الناحية التاريخية فقد ارتبطت الرياضيات عند المصرين والبابليين بالممارسات التجارية ،حتى الهندسة عند المصرين ارتبطت بظاهرة طبيعية هي فيضان نهر النيل الذي كان يؤدي في كل مرة إلى إتلاف الحدود بين الأراضي وإعادة تقسيمها استلزم على المصرين تعلم قواعد حساب المساحات ولهذا معنى عند فحص المدلول اللغوي لكلمة هندسة باللفظ اللاتيني(جيومتري) والتي تعني قياس الأراضي وكذلك شأن رموز الأعداد عند المصرين القدامى التي كانت مستنبطة من حركات يدوية كوضع اليد على جبهة الرأس للتدليل على العدد مائة و العدد خمسة هو عدد أصابع اليد الواحدة،ونجد أنه حتى مفهوم الاحتمالات الذي يشكل مرحلة متقدمة من الفكر الرياضي ارتبط بلعبة النرد الشعبية وبالتالي فإن ما يثبته تاريخ الرياضيات بصفة عامة هو أن الرياضيات المشخصة كممارسة واقعية سابقة عن الرياضيات كعلم مجرد ومنه فقد ارتبطت بالحواس أولا قبل العقل ، إذ يقول جون ستوارت مل:"أن النقاط والخطوط والدوائر التي يحملها كل واحد منا في ذهنه هي مجرد نسخ من النقاط والخطوط والدوائر التي عرفت في التجربة".
والرأي نفسه نجد عند دفيد هيوم حيث يرى أن أصل المفاهيم الرياضية التجربة وأن من يولد وهو فاقد لحاسة ما لا يمكنه أن يعرف ما كان يترتب من انطباعات على تلك الحاسة المفقودة من معاني، حيث يقول دافيد هيوم ( كل ما اعرفه قد استمدته من التجربة) ففكرة الدائرة جاءت من رؤية الإنسان للشمس والقرص جاءت كنتيجة مشاهدة الإنسان للقمر، وفكرة المثلث مستوحاة من القمة الحادة للجبل،وخير دليل يستند إليه أيضا أنصار المذهب التجريبي في تأكيدهم للأصل التجريبي للمفاهيم الرياضية هو التطور الكبير الذي عرفته الهندسة في مقابل الجبر لأنها تطبيق على أرض الواقع "الهندسة الإقليدية "إقليدس"و الهندسة اللاإقليدية "لوباتشوفيسكي و ريمان".
الخاتمة:
إن القول بأن:"أصل المفاهيم الرياضية العقل" قول فاسد و لا يمكن الأخذ به و الدفاع عنه لأن أصل المفاهيم الرياضية التجربة و خير دليل على ذلك التطور الكبير الذي عرفته الهندسة في مقابل الجبر لأنها تطبيق على أرض الواقع ، و الحساب عند الطفل الصغير مرتبط بالأشياء اللمحسوسة، و ما تاريخ العلم إلا دليل أيضا على هذا فالأنسان البدائي إعتمد في عملية الحساب على الحصى و العيدان و أصابع اليدين و القدمين، وهناك أيضا العديد من المفاهيم الرياضية مستوحاة من الطبيعة كفكرة المثلث عن الجبل و القرص عن القمر و الدائرة عن الشمس ،وكل هذا يدل على الطابع الحسي للمفاهيم الرياضية ولهذا يقول جون لوك:" وهذا يعني أن المعارف كلها بما فيها المبادئ الرياضية مكتسبة وما هو مكتسب يؤخذ من العالم الحسي الواقعي الخارج عن الذات ووسيلة الاتصال بهذا العالم هي الحواس الخمس"