المقدمة:
إن الحديث عن المسؤولية يقودنا إلى الحديث عن فكرة الجزاء فإذا كانت المسؤولية هي تحمل الفرد لنتائج أفعاله فالجزاء هو النتيجة المترتبة عن تحمل المسؤولية إذ لا يمكن أن تستقيم الحياة الاجتماعية إلا بتحديد المسؤوليات ولا فائدة من تحديد المسؤوليات دون تطبيق الجزاء لكن المشكلة التي تواجه عملية تطبيق الجزاء هي مشروعيته بمعنى هل كل إنسان يقوم بفعل يكون وحده المسؤول عنه ؟ أو بمعنى آخر إذا صدر عن الإنسان فعل شر فهل نعتبره مجرما ونحمله وحده نتائج الفعل , أم أن هناك أطرافا أخرى يجب أن تتحمل معه نتائج فعله ؟
التحليل:
الموقف الأول: النظرية العقلية نوع الجريمة هو الذي يحدد العقوبة:
يرى أنصار النظرية العقلية أن الإنسان و بصفته يتميز بالعقل و الحرية فإنه مسؤول عن جميع أفعاله خيرها و شرها و عليه كان له الثواب إن فعل خيرا و كان له العقاب إن فعل شرا و يمثل هذا الإتجاه العديد من الفلاسفة من أمثال أفلاطون،المعتزلة،كانط، هيجل ،مالبرنش.
وهذا ما يذهب إليه الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي يرى أن الجزاء له غرض أخلاقي كالتكفير عن الذنوب و تطهير النفس من الدنس الذي لحق بها ، و ينبغي أن يتساوى مع حجم الجريمة المقترفة إنصافا للعدالة و التزاما بمبدأ القصــــاص فالمجرم حر يتصرف بإرادة و بامكانه الامتناع عن الفعل السيئ و هو كائن عاقل يميز بين الخير و الشر ويعي أن الفعل الذي يقدم عليه جريمة يعاقب عليها القانون فهو مسؤول مسؤولية فردية و هكذا يكون العقاب مشروعا حيث أصبح حقا من حقوقه و لا بد من إنصافه يقول في هذا "إن الله بريء و البشر مسؤولون عن اختيارهم الحر"
و نفس المبدأ نجده عند فرقة المعتزلة حيث يعتبرون الإنسان خالق لأفعاله خيرة كانت أم شريرة يستحق الثواب اذا أحسن و أصاب و يستحق العقاب إذا أساء الاختيار حيث يقول أحد أنصارها:" إن الإنسان يخلق أفعاله بحرية لأنه بعقله يميز بين الخير و الشر فهو مخير لا مجبر فهو مكلف مسؤول"ودليلهم من القرآن قوله تعالى :"فمن يعمل مثقال ذرة خير يره و من يعمل مثقال ذرة شر يره"
وهو أيضا ما يذهب إليه الفيلسوف الألماني كانط الذي يرى يرى أن الشرير يختار فعله السيئ بمحض إرادته بعيدا عن تأثير الأسباب و البواعث وعليه فإن الجزاء حق من حقوق الجاني لا ينبغي إسقاطه احتراما لإنسانيته أما إنصاف العدالة فتعني الحرص على المساواة أمام القانون إذ لا ينبغي النظر إلى الفاعل ومن يكون ؟ وما هي ظروفه؟ ثم المساواة بين الجرم و العقوبة إذ لا ينبغي أن يكون الجزاء أكثر أو اقل من الفعل, وفي جميع الأحوال لا محل للبواعث و الأسباب حيث يقول:"إن الشرير يختار فعله بإرادته بعيدا عن تأثير الأسباب و البواعث فهو بحريته مسؤول"و الغرض من الجزاء هو تربية للمجرم ليراجع تصرفاته السيئة و يتجه نحو مستقبل أفضل.
وهذا ما يذهب إليه مواطنه الفيلسوف الألماني الذي يقول " إن إرادة الفرد متضمنة في تصرف المجرم و باعتبار العقوبة جزءا من حقه ففي ذلك تشريف للمجرم من حيث هو كائن عاقل".
وهذا ما يذهب إليه أيضاالفيلسوف الفرنسي مالبرنش الذي يرى ان المسؤولية مرتبطة اشد الارتباط بالقانون الاخلاقي نفسه وهو على حد تعبيره الذي لا يجوز انتهاكه ونقضه لا من طرف العقول ولا من طرف الاله نفسه، وفي هذا المعنى يقول:"ان الذي يريد من الله ان لا يعاقب الجوراو ادمان الخمر لا يحب الله" و يقول أيضا:" إن جزاء الإستحقاق و عقوبة الخطيئة يقتضيهما النظام الضروري للعدل"
النقد: لقد بالغ أنصار المذهب العقلي في تحميلهم المجرم كامل المسؤولية عن افعاله و يعتبره حر في جميع تصرفاته ، و ينظرون الى الجريمة فقط متجاهلين ظروف المجرم و أحواله النفسية و الاجتماعية التي يمكن أن تدفعه الى ارتكاب الجريمة و على هذا الاساس فان العقاب وحده قد لا يحد من انتشار الجريمة بل العكس سيولد روح الانتقام و الضغينة.
الموقف الثاني: النظرية الوضعية "الظروف المحيطة بالمجرم هي التي تحدد عقابه من مسامحته
يرى أنصار هذا الموقف وبما ان الجزاء له هدف اجتماعي كالإصلاح والتربية من أجل وقاية المجتمع من الجريمة ، و ينبغي أن ننظر الى ظروف المجرم و أحواله المختلفة لأنه ليس حر بل مدفوع الى الجريمة بواسطة مجموعة من الحتميات ومن أنصار هذا الإتجاه نجد عالم الإجتماع الإيطالي لامبروزو، ومواطنه أنريكو فيري، سغموند فرويد
حيث يرجع العالم الإيطالي لا مبروز السلوك الإجرامي الى الحتمية الفيزيزلوجية و أسباب وراثية ، فالمجرم له استعداد طبيعي للاجــرام ؛ يرث دوافع الجريمة المتمثلة في بعض الخصائص الجسمية غير عادية كظهور نتـــــؤات في الجمجمة وجحوظ العينيــــــــن و غيرها فتجعله متوحشا منذ البداية لا يمتثل للقانون فيقع فريسة للجريمة و المجرمون خمسة أنواع ثلاثة منهم حالات خطيرة ينبغي استاصالهم من المجتمع كحل وقائي و هم مجرمون بالفطرة و مجرمون بالجنون و مجرمون بالعادة ، أما المجرميـــن بالعاطفة أو بالصدفة يمكن اصلاحهم و اعادة دمجهم في المجتمع.
وهذا ما يذهب إليه مواطنه العالم الايطالي انريكو فيري حيث يرجع الإجرام إلى الحتمية الإجتماعية فالسلوك الاجرامي يعود إلى أسبــاب اجتماعية بحتة لأن الفرد يتأثر ببيئته و يتصرف تبعا للجماعة التي ينتمي اليها يقول " ان الجريمة ثمرة حتمية لظـــروف اجتماعية و تربوية خاصة"فانتشار الفقر و البطالة و التشرد و التفاوت الطبقي الرهيب يدفع بالافراد الى الانحراف عن القانون بغية تأمين لقمة العيش أو الكسب المزيد من الثروة على حساب الآخرين ، و عليه لا يمكن معــــــــالجة مشكلة الاجرام الا باصلاح الاوضاع الاجتماعية كازالة الفوارق و توفير مناصب شغل و غيرها من الحلول الوقائيــة.
وهذا ما نجده عند أنصار المدرسة السلوكية فالسلوك الاجرامي في نظر مدرسة فرويد راجع إلى الحتمية النفسية و له دوافع لاشعورية فهو مرتبط بالرغبات المكبوتة و النزوات الخفية و ما عاشه الفرد في حياته الماضية مثلا عندما يفقد الطفل عطف و حنان والديه تتولد بداخله ميول عدوانيــــة، كذالك السارق انما يهدف من وراء فعله الى استرجاع ما سلب منه في طفولته و عليه ينبغي التعامل مع المجرمين كمرضى يجب معالجتهم بالتحليل النفسي.
النقد: ان إلغاء دور العقل و الارادة في الفعل الإجرامي لا يقي المجتمع من الجريمة ، بل العكس سيدفع الى انتشـار الجريمة أكثر كونه يرفع المسؤولية عن المجرم ، بحجة الأسباب النفسية اللاشعورية التي لا يزال الجدل قائم حولها أو تردي الاوضاع الاجتماعية ؛ لو كان المجتمع هو المسؤول عن انحراف أفراده فكيف نفسر التزام الكثير من الفقراء و المحتاجين بالأخلاق الفاضلة ؟ أما القول بان الإجرام مرتبط بالعوامل البيولوجية أمر يكذبه الواقع لأننا نجد الكثير من المجرمين لا يحملون تلك الصفات التي تحدث عنها لامبروزو و العكس صحيح.
التركيب:
الجزاء حسب ما نتتعامل به السلطات القضائية في هذا العصر قصاص و اصلاح في نفس الوقت حيث يعاقب المجرم بالنظر الى خطورة الجريمة و نسبة المسؤولية الفردية التي تجلت في فعله الاجرامي ، و تخفف اذا قلت هذه المسؤولية بسبب الدوافع و الظروف المؤثرة وعليه فالعقاب شرط ضروري في حياة المجتمع .
وحسب رأيي الشخصي ومن خلال الموقفين العقلي و الوضعي يتبين لي أن المسؤولية فردية وجماعية فأخذ بالعقاب انطلاقا من استقصاء الدوافع بحذر شديد دون أن ننخدع أمام ظرف مفتعل ؛ أي لا نترك و لا نهمل العقاب مع الاهتمام بالأسباب المؤدية إلى الجريمة.
الخاتمة:
القول في الختام أن الإنسان مسؤول عن أفعاله مع النظر إلى الأسباب فمهما يكن فيجب أن يسعى الإنسان إلى تحقيق مجتمع فاضل خال من الجريمة ؛وهذ اما يوضح إنسانية الإنسان و العقاب لا زم و ضروري للعيش داخل مجتمع منظم تحكمه قوانين أطر يتفق حولها جميع سكانه حتى لا نخضع لقانون الغاب لأن غياب الجزاء يؤدي إلى الفوضى و اللامبلاة.