لجنة الافتاء بالمجلس الإسلامي الأعلى تبت في القضية بعد 28 جوان
ماذا لو استيقظ احدنا صباحا ليجد أن أمه ليست هي والدته الحقيقية، وأن أباه ليس أباه؟ ماذا لو اكتشفت يوما بالصدفة أن عائلتك ليست عائلتك ولا الاسم اسمك؟ وانك لست أكثر من مجرد رقم مجهول أو علامة استفهام تطارد الخانة الفارغة في وثيقة ميلاد تحمل علامة "إكس".
هذه ليست ـ أبدا ـ مقدمة لقصة أو فيلم سينمائي، لكنه واقع المئات، بل آلاف الأطفال في الجزائر يحملون مأساتهم على ظهورهم كصخرة، ويطاردون واقعا لم ينتجوه، بحثا عن حق الوجود وامتلاك الاسم والانتساب إلى أب وأم. هي حالة وهيبة وربيعة ومصطفى، بل هي حالة ألاف الأطفال المطاردين بتهمة المجيء إلى الحياة عن "طريق التهريب".
تشير الأرقام الرسمية الصادرة في إطار تقرير أعدته الحكومة عن وضع الطفولة في الجزائر، تعرضه شهر أكتوبر المقبل في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إلى وجود 3 ألاف طفل يولدون سنويا خارج مؤسسة الزواج، غير أن المحامية بن براهم أكدت أن الأرقام التي بحوزتها تشير إلى تسجيل 42 ألف ولادة خارج إطار الزواج، مقابل 320 ألف ولادة شرعية، حسب أرقام الكناس التي كشف عنها مؤخرا في إطار جلسات الحوار حول المجتمع المدني.
وهيبة 18 سنة بحثا عن حق الهوية
وهيبة تعبت وهي تحمل وجعها المنتقل عبر السنين، تعبت وهي تصرخ في وجه مجتمع حكم عليها بجرم هي ليست مسئولة عنه، كان كل ذنبها ـ كما تقول ـ أنها وجدت نفسها ذات يوم تبحث عن أبيها وأمها، وكان يلزمها الكثير من الصبر والشجاعة لتخرج عن صمتها، لكنها الآن لم تعد تخاف شيئا، صارت ناطقة بأسماء الأطفال المسعفين أو "أبناء الحرام" كما يسميهم المجتمع، تقولها وهيبة بنبرة استنكار، وهي تعود معنا إلى تفاصيل قصتها التي بدأت، أو بالأحرى اكتشفتها وعمرها 14 عاما، عندما أدركت بالصدفة أنها ليست "شليغم" بل "ثامر" وهيبة، تبنتها مربية أطفال رفقة 6 بنات أخريات عشن في البيت كأنهن أخوات، بدأت وهيبة تشك عندما أقدم معلم المدرسة على كشف الحقيقة التي عملت أمها بالتبني على إنكارها بكل الطرق، وأصرت على أنها ابنتها، غير أن وفاة تلك الوالدة أخرج السر إلى العلن، عندما أعطاها والدها الدفتر العائلي، واكتشفت أن تلك العائلة لا تنجب الأطفال، ولم تكن تلك المرأة إلا فاعلة خير تبنتها، وكانت تتعمد شراء شهادات الميلاد للطفلة، فكانت صدمة حقيقية لوهيبة، التي مكثت مدة 4 سنوات وهي صامت لا تخرج ولا تحدث أحدا، ودخلت بعدها في سن 18 عشر في أزمة نفسية حادة.
في السابعة والعشرين من عمرها، كانت على موعد مع فصل آخر من مسلسل المعاناة، وصدمة أخرى، عندما أقدمت زوجة الأخ على طردها رفقة أخواتها إلى الشارع، وبقيت مدة 4 أشهر متنقلة بين البيوت والأزقة، إلى أن تبنتها عائلة أخرى في 1994، وكان الوضع الأمني يحتم عليها أن تبحث عن وثائقها، فكانت بداية رحلة العذاب بين البحث والتنقيب والتدقيق، بين الادارت و مصالح المؤسسات، تقول وهيبة: "أنا اليوم ـ ماديا ـ في أحسن الأحوال، والعائلة التي أعيش في كنفها لا ينقصني معها شيء برفقتها، غير أن "العيش في كوخ مع أمي البيولوجية كان سيغنينى عن فيلا أو قصر" وهيبة، اليوم، ترافع لصالح إجبارية إجراء تحاليل الحمض النووي"آي دي أن" وهذا لضمان حقوق الأطفال، وهنا تقول وهيبة: "أدين كل أم عازية تتخلى عن ابنها، أدين كل من ترتكب جريمة في حق نفسها ليدفع الثمن أطفال بلا ذنب، ما عدا من كانت ضحية اغتصاب".
وهيبة اليوم ترافع من اجل أن تعيد لأطفال حقهم، ومستعدة أن تذهب في نضالها إلى النهاية، وتؤكد أنها لن تتراجع مهما كان الثمن، ولو إلى آخر عمرها، خاصة وهي تتذكر المرحوم "رياض بوفجى" الذي بذل مجهودات جبارة من أجل الوقوف إلى جانب هذه الشريحة، وهنا توجه وهيبة نداءها إلى رئيس الجمهورية، من اجل إقرار يوم خاص بالأطفال المسعفين، اعترافا وإنصافا لمن لم يكن لهم ذنب، وفي ذات الوقت توجه نداءً للعائلات أن لا تترك ابناءها وخاصة بناتها عرضة للضياع، حتى لا ننتج ضحايا للمجتمع، ونحاسيهم فيما بعد.
نسيمة.. معانة مع السرطان وأخرى مع المجتمع
كان لقاؤنا بها صدفة، على وجهها ارتسمت علامات قصتها الأليمة على طاولة في مكتب المحامية بن براهم، التي قصدتها بحثا عن حل لمشكلتها، بل ماساتها، قبلت أن تبوح لنا ببعض تفاصيل حكايتها، اسمها نسيمه تقطن مدينة الورود، لكن حياتها لم تكن إلا مواسم لأشواك، خرجت من بيت العائلة بحثا عن الأمن والأمان، فوقعت في مخالب الذئاب البشرية، فكانت بداية الطريق نحو الهاوية، تعرفت بعدها على شاب في سلك الأمن الوطني، ربطت معه علاقة ووعدها بالزواج لكنه فر بمجرد أن عرف أنها حامل، بعد عودته للظهور طلب منها أن تجهض الحمل، لكن نسيمة رفضت أن ترتكب جريمة قتل في حق الطفلة التي كانت قد تجاوزت الشهر الرابع من الحمل، فهرب وتركها تواجه مصيرها.
لم تجد نسيمة من سبيل غير مغادرة بيت الأهل الذي لم يكن فيه وجودها يختلف كثيرا عن أي جماد، "لم يكن أهلي يعبؤون بوجودي، كنت مجرد قطعة أثاث، لا قيمة لها في نظهرهم" هربت نسيمة من البيت، وقصدت العاصمة، أين وضعت حملها وبقيت تعاني الأمرين من اجل ضمان لقمة لها ولطفلتها.
تعرفت على رجل وتزوجها، ورغم انه كان بطالا وقاسيا معها، لكن نسيمة تقول: "كنت افعل المستحيل من اجله، وهي تعتقد أن ماساتها قد وصلت إلى النهاية، غير أن فصول القصة كان لها رأي آخر..
أصيبت بالسرطان ليزداد الأمر تعقيدا، تخلى عنها زوجها وطلقها، وطردها من البيت، هنا انفجرت نسيمة وهي تبكى بحرقة، كانت كلماتها تحمل لهيب ألم نام بصدرها سنوات: "لقد فعلت كل شيء من اجله، ثم تخلى عني ببساطة" هي اليوم تصارع مرض السرطان والموت البطيء، وتصارع في مكاتب المحامين من اجل استصدار قرار يجبر أبا طفلتها على إثبات نسبها إليه، من اجل أن تكون لها هوية ووثائق مثل غيرها من الأطفال، خاصة وأنها تعرف الفاعل جيدا "أطلب اليوم من الدولة أن تجبره على إثبات نسب ابنته، لا أطلب منه لا النفقة ولا احتاج منه شيئا، فقط وثائق الطفلة".
مصطفى 34 سنة "شوارع" يبحث عن سقف وجدران
اسمه مصطفى ابن حي القبة العريق، عندما يتحدث يغالب ذاكرته حتى لا تقوده لتفاصيل المأساة و"الميزيرية" التي تركت أثارها الغائر في ذاكرته، يغالب دمعه، وكم هي صعبة دموع الرجال، تبنته عائلة وعمره 3 أيام، ووجد نفسه في مواجهة الشارع وعمره 13 عاما، لا يجد ما يأكل وأين يبيت، كان متنقلا بين الأحياء يفترش الأرض ويلتحف السماء، يتسول لقمة يومه ويدين لفاعلي الخير، لما اتصل بمركز الطفولة المسعفة حيث وضع، قادوه إلى مركز الأيتام في بشكاوي في المدية، وهناك وجد المراهق ابن السادسة عشر نفسه يواجه مصيرا مجهولا رفقة المجانين والمختلين عقليا والعجزة، لم يتحمل تلك الأجواء فعاد إلى الشارع مرة أخرى، كافح حتى لا يضيع، وحتى لا يوصم بابن الشارع، هو اليوم ملتزم بصلاته، لم يدخل السجن في حياته، ولم ينحرف رغم أن كل أسباب الانحراف كانت في متناوله، كوّن نفسه ودخل معهد التكوين الرياضي بالدرارية، وافتك شهادة مدرب، هو اليوم يعيش في مستودع للخضر والفواكه اكتراه من أحد معارفه، يستغله في النهار كمحل لكسب الرزق، وفي الليل للمبيت، مصطفى يبحث عن سقف وجدران بسيطة تأويه رفقة خطيبته التي تنتظر 3 سنوات ليتحقق حلم الزواج: "لا أطلب فيلا أو عملا، كل ما اطلبه هو جدران وسقف" مصطفى اختصر معاناة 34 سنة في الشوارع، يقول إن تخصيص حصص متلفزة للحديث عن مأساة الأطفال مجهولي النسب لم تحقق شيئا لهؤلاء، فبمجرد أن يذرف البعض الدموع أمام الكاميرا، يبقى هؤلاء وحدهم يواجهون مآسيهم وظلم واقعهم" الأفضل بالنسبة لمصطفى هو إيجاد مكاتب توجيه خاصة بهده الفئة، للتكفل بانشغالاتهم، لأنهم بحاجة أكبر لاهتمام وتحقيق احتياجاتهم ومساعدتهم للاندماج بشكل أفضل في المجتمع، وليس البكاء على الماضي "لست بحاجة للبحث في الماضي، لم يعد يعنني في شيء، لكن اليوم أنا بحاجة لسقف فقط، تحملت 34 سنة نوم في الشوارع، جربت كل أنواع "الميزيرية"، لكن بعد اليوم قد لا أستطيع أن أتحمل ما تحملته سابقا، ابتلاني الله بوالدي.. لكن لم يبتلنا بهذه البلاد".
مراح تطالب ومحمد الشيخ يعارض
بعيدا عن مأساة هؤلاء الأطفال، ما يزال الجدل الفقهي والقانوني في الجزائر لم يفصل بعد في المسالة، حيث ترى المحامية، مونيا مسلم، أن الدولة اليوم مجبرة على إيجاد الحلول للتكفل بمأساة الأطفال المسعفين، خاصة وأن وضعيتهم في المراكز ودور الحضانة المخصصة لهذا الغرض ليست دائما على ما يرام، حيث يموت الكثير منهم جراء الإهمال وعدم الرعاية، وأكدت الأستاذة مسلم أن الدولة اليوم لديها كافة الإمكانات المادية والأطر القانونية للتكفل وإيجاد حل لهذه المأساة الاجتماعية، وفي مقدمتها توفير فرص التكوين والعمل والسكن والدراسة أمام هذه الشريحة، التي تجد نفسها في مواجهة الشارع مباشرة بعد خروجها من المراكز، وبخصوص المطالب الخاصة بإقرار إجبارية الكشف بالحمض النووي لإثبات النسب، قالت مونيا مسلم إن هذا النقاش يجب أن يفتح مع رجال الدين، كون القوانين المتعلقة بالأسرة والأحوال الشخصية مستمدة من الدين الإسلامي، معتبرة أن مستوى النقاش في الجزائر لم يصل بعد إلى فتح هذا الملف، لأن هذا يتطلب اجتهادا دينيا يضم المختصين في الفقه والشريعة. في نفس الإطار أكدت الخبيرة السوسيولوجية والناشطة الحقوقية، نصيرة مراح، أن تحجج السلطات بالجانب الشرعي والديني في رفضها أو تحفظها على إقرار إجبارية تحاليل الحمض النووي لإثبات النسب لا مبرر له، خاصة وأنها سبق وأن أقرت هذا الإجراء الذي استفاد منه "نزلاء" الجبل وضحايا المأساة الوطنية، فكيف نقبل هذا الإجراء.. ونرفضه استنادا إلى حجج واهية؟ كما شددت مراح على أن إقرار وإجبارية تحاليل الحمض النووي من شأنه أن يحد من انتشار ظاهرة الأطفال المرميين في الشوارع، داعية إلى تغيير المادة 14 من قانون الأسرة، التي تمنع إجبار الوالد على الخضوع لتحاليل الحمض النووي.
في اتجاه معاكس، أكد الأستاذ محمد الشيخ أن المسالة من الناحية الشرعية محسوم فيها، لأن أبناء الزنا لا ينسبون لآبائهم، لكن ينسبون لأمهاتهم، وقال إن حمض "الأي دي آن" لن يكون ذا فائدة من الناحية الشرعية، لكنه يعتبر دليلا قانونيا فقط، يمكن أن يستعمل في إدانة مرتكبي جريمة الزنا، أما استعماله كذريعة لإثبات نسب الأطفال المولودين خارج الإطار الشرعي، فهذا لا يصح في الشريعة الإسلامية، التي تفرق يبن الفاحشة والزواج الشرعي.
هذا؛ في حين يرى الأستاذ موسى إسماعيل أن استعمال تحاليل الحمض النووي كدليل شرعي في المحاكم، ما يزال فقط يستعمل في إطار الزواج الشرعي، عندما تحدث مشاكل أو خلافات بين الأزواج، لكن لا يستعمل عندما يتعلق الأمر بالولادات خارج إطار الزواج، لأن البحث فيها ما يزال قيد الاجتهاد، وحتى يفصل فيها يجب أن تتبناه المجامع الفقهية والمجالس العلمية.
عبد الرحمان عرعار رئيس شبكة "ندى": على المجلس الإسلامي أن يفتح باب الاجتهاد
قال عبد الرحمان عرعار رئيس شبكة ندى في تصريح للشروق، إن المجلس الإسلامي الأعلى اليوم، مدعو لفتح النقاش في مسألة استعمال تحليل الحمض النووي في مسألة إثبات النسب، وقال إن الفقهاء اليوم مدعوون للبحث عن حل للمشكل أو المأساة التي تتفاقم في المجتمع الجزائري، وأضاف عرعار في ذات التصريح، أن المشكل القائم ليس في "الأي دي ان" لكن في المشرع الذي يمنع على الأبناء المولودين خارج مؤسسة الزواج الانتساب إلى أبنائهم، وهذه المسالة ـ حسب عرعار ـ تحتاج إلى تدخل الفقهاء وفتح باب الاجتهاد، وهي المهمة التي من المفروض أن يقوم بها المجلس الإسلامي الأعلى.
عن الشرق اليومى